تقارير وملفات إضافية

التاريخ المضطرب للصحة العالمية.. بالغت في إنفلونزا الخنازير وقللت من شأن الإيبولا، وها هي تكرر الأخطاء في كورونا

لماذا تباطأت منظمة الصحة العالمية في إعلان أن فيروس كورونا جائحة، وهل تواطأت مع الصين في التكتم على انتشار المرض؟

أصبحت هذه الأسئلة تثار بشكل كبير جراء الأداء المضطرب لمنظمة الصحة العالمية خلال أزمة كورونا، وازداد هذه التساؤلات إلحاحاً بعد الاتهامات التي وجهتها إدارة ترامب للمنظمة.

أندرو لاكوف، أستاذ علم الاجتماع بجامعة جنوب كاليفورنيا الذي تتعلق أبحاثه الحالية بالتقاطعات بين جهود الصحة العالمية وخبرة الأمن القومي وتأثير ذلك على استعدادات البلدان للأخطار البيولوجية، نشر مقالاً في مجلة The National Interest الأمريكية عن الظروف التي تعمل بها منظمة الصحة العالمية، وكيف تأثرت في تعاملها مع الأزمة الحالية بتجاربها السابقة، ومدى مسؤوليتها عن وصول العالم للوضع الذي هو عليه الآن.

يتهم الكاتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه سعياً منه إلى صرف اللوم عن استجابة إدارته غير المنظمة من خلال الإلقاء بالمسؤولية على مسؤولي منظمة الصحة العالمية، بل إن الأمر وصل به إلى القول: “لقد تسببت أخطاؤهم في وفيات كثيرة”.

يشير الكاتب إلى إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أخيراً، في غمار حالة الطوارئ المتصلة بفيروس كورونا، أنها ستعلق الدعم المالي الذي تقدمه الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية، وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة تُعنى بتنسيق مجموعة واسعة من الجهود الصحية الدولية، يعني حرمان المنظمة من 400 مليون دولار أمريكي، أي ما يقرب من 15% من ميزانيتها السنوية.

وخلال إعلان الولايات المتحدة عن إيقاف تمويلها للمنظمة، ادعى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أن منظمة الصحة العالمية كانت قد عجزت عن تقديم “معلومات حقيقية حول ما يجري في المجال الصحي العالمي”. 

كما أن ترامب كان قد لمّح إلى أن الوكالة تواطأت مع الحكومة الصينية لحجب معلومات عن طبيعة تفشي الفيروس، قائلاً: “لدي شعور بأنهم كانوا يعرفون بالضبط ما يحدث”، وسعياً إلى صرف اللوم عن استجابة إدارته غير المنظمة من خلال الإلقاء بالمسؤولية على مسؤولي منظمة الصحة العالمية، قال ترامب: “لقد تسببت أخطاؤهم في وفيات كثيرة”.

يقول  الكاتب “لتقييم هذه الادعاءات، من المهم فهمُ السياق الذي يتخذ فيه مسؤولو منظمة الصحة العالمية قرارات حاسمة في المراحل المبكرة لتفشي مرض ما. إذ كما عرضت في كتابي الأخير “غير مستعدة: الصحة العالمية في وقت الطوارئ” Unprepared: Global Health in a Time of Emergency، فإن منظمة الصحة العالمية مقيدة في قدراتها على جمع المعلومات عن تفشي الأمراض والتدخل في شؤون البلاد. فهي تعتمد على الحكومات الوطنية للحصول على المعلومات الخاصة بتفشي الأمراض وللحصول على أذونات لإرسال محققين لمعرفة المزيد من التفاصيل. كما تقتصر سلطة الوكالة على تقديم المساعدة الفنية وإصدار التوصيات.

في يناير/كانون الثاني 2020، تدافع خبراء الأمراض المعدية لدراسة الجوانب الرئيسة لفيروس كورونا المستجد، مثل معدل انتقاله ومدى شدته. وفي تلك المرحلة، لم يكن من الممكن بعد معرفة طبيعة المرض بالضبط. ومع ذلك، كان على مسؤولي منظمة الصحة العالمية اتخاذ قرارات عاجلة، مثل إعلان حالة طوارئ صحية عالمية، والعالم في خضم حالة من عدم اليقين.

وإجمالاً، لا يمكن معرفة الكثير من المعلومات المهمة حول ما يحدث في المجال الصحي العالمي إلا في وقت لاحق من حدوثه، أي بعد أن تُجمع البيانات الخاصة بالحدث ويحللها المجتمع العلمي ثم يعمد إلى نشرها.

والحال أن ثمة حالتي طوارئ أخريين تعرضت لهما منظمة الصحة العالمية أخيراً، مفيدٌ الاستعانة بهما في هذا السياق: هما “وباء إنفلونزا الخنازير 2009″، و”وباء الإيبولا 2014”. إذ في أعقاب كل من الوبائين، تعرضت منظمة الصحة العالمية لانتقادات حادة فيما يتعلق باستجابتها المبكرة.

عندما كُشف عن سلالة جديدة من إنفلونزا H1N1 لأول مرة في ربيع عام 2009، خشي مسؤولو منظمة الصحة العالمية من أن يؤدي تفاقم الأوضاع إلى جائحة كارثية. لذا، وفي غضون أسابيع من ظهور الفيروس، أعلنت منظمة الصحة العالمية رسمياً حالة طوارئ صحية عالمية. 

وحث الإعلان الدول على وضع خطط التأهب لمواجهة الجائحة الحالية موضعَ التنفيذ. واستجابة لذلك، مضى عدد من الحكومات الوطنية في تنفيذ حملات تلقيح جماعية، كما قامت الحكومات بتوقيع صفقات شراء مقدماً لملايين الجرعات من لقاح إنفلونزا الخنازير H1N1 من شركات الأدوية.

على مدى الأشهر العديدة التالية، وخلال عمليات تصنيع اللقاح وتنفيذ حملات التطعيم، كشفت الدراسات الوبائية أن فيروس إنفلونزا الخنازير H1N1 كان سلالة معتدلةً نسبياً من الإنفلونزا، مع نسبة وفيات بين المصابين تماثل تقريباً تلك الخاصة بفيروس الإنفلونزا الموسمية.

وفي عدد كبير من البلدان، عندما أصبح اللقاح المضاد لإنفلونزا الخنازير H1N1 متاحاً أخيراً في خريف 2009، لم يكن هناك سوى عدد قليل من المتلقين للقاح (لم يكن هناك إصابات كثيرة)، في حين أنفقت الحكومات الوطنية مئات الملايين من الدولارات على حملات تحصين لم تشمل، في بعض الحالات، إلا أقل من 10% من السكان.

كانت النتيجة أن اتهم منتقدون في أوروبا منظمة الصحة العالمية بأنها قد بالغت فيما يتعلق بحجم تهديد الوباء لتحقيق أرباح لصناعة الأدوية، مشيرين إلى العقود الاستشارية التي أبرمها خبراء الإنفلونزا في الوكالة مع الشركات المصنعة للقاحات. وبحسب أحد النقاد البارزين، فإن إعلان منظمة الصحة العالمية لحالة الطوارئ الصحية استجابةً لفيروس إنفلونزا الخنازير H1N1 كان “أحد أكبر الفضائح الطبية في القرن”.

غير أن تحقيقاً لاحقاً برأ خبراء منظمة الصحة العالمية من ارتكاب أخطاء، مشيراً إلى أن مدى شدة الفيروس لم يكن قد حُدّد بعد عند إصدار توجيهات الحصول على لقاح، وأن “النقد المنطقي لا يمكن أن يستند إلا إلى ما كان معروفاً في ذلك الوقت، وليس إلى ما عُلم لاحقاً”.

بعد خمس سنوات، وفي أعقاب انتشار وباء الإيبولا في غرب إفريقيا، وجد مسؤولو منظمة الصحة العالمية أنفسهم مرة أخرى يخضعون لانتقادات حادة فيما يتعلق باستجابتهم الأولية لتفشي الفيروس. لكن هذه المرة، لم يُتهم مسؤولو المنظمة بأنهم تصرفوا على عجل، بل بأنهم عجزوا عن التصرف في الوقت المناسب.

في المراحل الأولى من الوباء، في ربيع 2014، لم يعتبر خبراء المنظمة أن الحدث يرتقي إلى “حالة طوارئ عالمية”. وكانوا، استناداً إلى الخبرة السابقة، يشعرون أن الإيبولا، على الرغم من خطورته، يمكن احتواؤه بسهولة، إذ لم يكن الفيروس قد قتل أكثر من بضع مئات من الأشخاص ولا انتشر إلى أبعد من بؤرة تفشيه الأولى. وكان الأمر كما ذكر أحد الخبراء المسؤولين عن المراحل الأولى من الاستجابة: “نحن نعرف الإيبولا. سيكون تفشيه قابلاً للاحتواء”.

ومن ثم لم تعلن منظمة الصحة العالمية رسمياً حالة الطوارئ الصحية العالمية حتى شهر أغسطس/آب 2014، بعد أن خرج الوباء عن السيطرة بوقت طويل، وسعياً إلى تحفيز الاستجابة الدولية. لكن، عند هذه النقطة، كان الأوان قد فات على تجنب كارثة حلت بمنطقة التفشي، وهاجم عديد من النقاد تلك الاستجابة البطيئة للمنظمة، ووصف أحد الخبراء “استجابة منظمة الصحة العالمية بأنها كانت مروعة. لقد كانت استجابة مخزية”.

بالعودة إلى اليوم، وبينما يواجه العالم وباء فيروس كورونا، تجد المنظمة نفسها مرة أخرى تخضع لعاصفة من الانتقادات، أضف إلى ذلك أن وضعها المالي بات تحت التهديد. لكن إلى أي مدى يمكننا القول إن المنظمة لم تقدم معلومات كافية خلال المراحل المبكرة من انتشار الوباء، وإنها قد فشلت في “القيام بعملها”، على النحو الذي جاءت به كلمات توبيخ وزير الخارجية الأمريكي بومبيو؟

يقول الكاتب إننا ما زلنا في المراحل الأولى من الحدث والتي يكشف فيها عن نفسه، وما زلنا نبحث عن إجابات لأسئلة حرجة مثل مدى سرعة انتشار الفيروس، وشدة فتكه، ونسبة السكان الذين تعرضوا له، وما إذا كانت الإصابة به تمنح مناعة لصاحبها من الإصابة به مرة أخرى. كما أننا لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت الحكومة الصينية قد أبلغت مسؤولي الصحة العالمية على نحو كامل بمدى خطورة مراحل التفشي الأولى. 

وتجدر الإشارة إلى أن الأمر استغرق ما يقرب من ثلاثة أشهر حتى تشعر منظمة الصحة العالمية أن انتشار الفيروس هو جائحة، حيث أعلنت أن تفشي المرض يعد جائحة في 11 مارس/آذار 2020، رغم مطالبات كثير من الخبراء بهذا الإعلان قبل ذلك بفترة، وتجاهلت على وجه الخصوص تحذيرات الأطباء التايوانيين، واستمرت لفترة طويلة مترددة في إعلان Covid-19 جائحة.

ومع ذلك، يقول الكاتب “إننا نعلم أنه في حين أن منظمة الصحة العالمية وجهت نداءها الأكثر إلحاحاً على الحكومات باتخاذ احتياطاتها في أواخر شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وأعلنت حالة الطوارئ الصحية العالمية، فإن الولايات المتحدة لم تبدأ سوى بعدها بشهرين تقريباً، وعلى مضض، في التعبئة لاستجابةٍ حقيقية في مواجهة الفيروس”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى