ثقافة وادب

شبّه نفسه بهتلر.. “حسني الزعيم” أول رئيس عربي يصل للحكم بانقلاب عسكري

على الرغم من قصر الفترة الزمنية التي تولى فيها حسني الزعيم السلطة في سوريا، إلا أن الطريقة التي استولى بها على الحكم تركت علامة فارقة في تاريخ سوريا الحديث، فالانقلاب الذي قام به ضد الرئيس السابق شكري القوتلي، كان فاتحة لكثير من الانقلابات العسكرية، آخرها كان انقلاب حافظ الأسد والذي استولى فيه على حكم البلاد حتى مماته، مورثاً الحكم لابنه بشار الأسد.

ويعد انقلاب حسني الزعيم في 30 مارس/آذار 1949 أول انقلاب عسكري في سوريا منذ الاستقلال عن فرنسا، وفاتحة الانقلابات العسكرية التي سيطر فيها الجيش على الحياة السياسية في البلاد.

ليس في سوريا وحسب بل يعتبر انقلاب الزعيم أول انقلاب في الشرق الأوسط والعالم العربي أيضاً وفاتحة تدخُّل الجيوش العربية في سياسة بلادها الداخلية.

ولد حسني الزعيم لعائلة كردية في حلب عام 1894؛ وتلقى دراسته في فيها قبل أن يلتحق بالأكاديمية الحربيّة العثمانيّة في إسطنبول، وكان والده مفتياً لدى الجيش العثماني.

لم يكد يمضي عدة سنوات في الأكاديمية الحربية حتى تمرد على العثمانيين من أجل الالتحاق بالثورة العربية الكبرى عام 1916، ولاحقاً انضم إلى القوة العسكرية الفرنسية التي تشكلت في البلاد أثناء الانتداب الفرنسي سنة 1921. فتلقى تدريباتٍ عسكرية في فرنسا وترقى في مناصب ورتب عسكرية كثيرة.

وخلال الحرب العالمية الثانية قاتل الزعيم في صفوف حكومة فيشي الفرنسية الموالية للنازية، لكنه عوقب بالسجن 10 سنوات مع الأشغال الشاقة إضافةً إلى تجريده من رتبه العسكرية التي كانت “عقيد” حينذاك بعد أن هُزمت حكومة فيشي على يد الحلفاء في سوريا.

لم يكد يمضي الزعيم عاماً واحداً في السجن حتى أصدر الرئيس شكري القوتلي عفواً رئاسياً عنه سنة 1944، كما تقررت إعادته إلى الجيش برتبته السابقة.

فتم تعيينه رئيساً للمحكمة العسكرية في ديرالزور ثم مديراً لقوى الأمن الداخلي في دمشق.

شارك الزعيم في حرب فلسطين عام 1948 محققاً بعض الإنجازات العسكرية التي رفعت من شعبيته في البلاد.

كما شارك في حل الاضطرابات السياسيّة التي عصفت بالبلاد في أعقاب الهزيمة بُعيد الحرب مباشرة خلال عامي 1948-1949، فأصدر القوتلي قراراً يقضي بترفيع الزعيم إلى رتبة “زعيم” وهو اللقب العسكري المعرّب عن الكولونيل وجعله قائداً للجيش.

يعدُّ الزعيم أول رئيس سوري من خارج الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية التي حكمت البلاد منذ انتهاء الخلافة العثمانية، ما دفع صحيفة The Times البريطانية للكتابة عنه بأنه: “أنهى حكم العائلات الغنية في سوريا”.

كما اعتبر نفسه زعيماً في مصافّ الزعماء الكبار أمثال نابليون بونابرت ومصطفى كمال أتاتورك وأدولف هتلر، كما وصف نفسه في يوم من الأيام بأنه “ملك سوريا”.

الأمر الذي دفع الرئيس السوري السابق خالد العظم لوصفه بأنه «متهور وطائش».

فيما قال عنه الصحفي والمؤرخ باتريك سيل في كتابه “الصراع من أجل سوريا” بأنه “مقامر، وقليل المثل العليا، وغير مستقر عاطفياً، وسهل الاستثارة، وشجاع إلى حد التهور، وتعوزه البراعة في رسم الخطط العسكرية”.

مع تزايد حدّة الانتقادات التي طالت الجيوش العربية ومنها الجيش السوري بعد خسارة حرب 48 في فلسطين وحالة السخط الشعبية تجاه المؤسسة العسكرية والنظام الحاكم بشكل عام، دخلت سوريا في حالة أزمات سياسة متكررة لم يواجه مثلها النظام الجمهوري منذ تأسيسه سنة 1932 على يد محمد علي العابد.

فدفعت هذه الانتقادات رئيس الجمهورية القوتلي لإجراء إصلاحات إدارية واقتصاديّة وتخصيص جزء كبير من الميزانيّة لإعادة بناء الجيش وتسليحه والعمل على إعادة ثقة السوريين بنظامهم.

ولكن في 3 ديسمبر/كانون الثاني 1948، اندلعت أعمال شغب في العاصمة دمشق إثر استقالة حكومة جميل مردم بك واعتذار هاشم الأتاسي عن تشكيل حكومة جديدة، فكانت هذه اللحظة هي الحاسمة للزعيم من أجل توطيد علاقته بقادة الجيش ودخوله للحياة السياسية.

أمر الزعيم بنشر القوات في العاصمة دون إذنٍ مسبق من الحكومة أو الرئيس، وهو ما دفع القوتلي في اليوم ذاته إلى إعلان حالة الطوارئ وإخضاع البلاد للأحكام العسكريّة وإغلاق المدارس.

في اليوم التالي، حاول الزعيم إقحام نفسه في الحياة السياسية عبر زيارات خصصها للقطع والوحدات العسكرية بهدف ما أسماه “رفع معنويات الجيش” ما ساهم في تقوية علاقته مع معظم قادة الثكنات من جهة وبروز اسمه «مخلِّصاً للبلاد» من جهة ثانية.

بعد أسابيع من أعمال الشغب، كان لتشكيل الحكومة في 16 من ديسمبر/كانون الأول 1948، وقعٌ سيئ على الشعب بعد أن ترأسها أحد رؤساء الجمهورية السابقين وهو خالد العظم ببرنامج حكومي وصفته الصحافة بالتقليدي والمخيب لآمال السوريين.

لكنّ وقعه كان جيداً لشخص كان يفكر بانقلاب عسكري على الرئيس المدني ليحل مكانه.

تشكيل الحكومة الجديدة لم يقدم أي جديد، الأزمة السياسية في البلاد استمرت، أو بالأحرى تفاقمت خصوصاً بعد البدء بمدّ خطوط التابلاين النفطية التابعة لأرامكو في سوريا.

إذا تعد أنابيب النفط هذه مخصصة لإعادة إعمار الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، وتمر عبر عدة دول بدءاً من السعودية مروراً إلى الأردن وسوريا لتصل إلى ميناء الزهراني في صيدا جنوب لبنان.

كما تمّت مناقشة السياسة العسكرية في مجلس النواب، والتي وجه خلالها الأعضاء انتقادات قاسية للجيش وقياداته، وهو ما شكل اللبنة الأولى لانقلاب الزعيم.

أتت ساعة الحسم بالنسبة للزعيم، في تمام الساعة الثانية والنصف فجراً من يوم الأربعاء 30 مارس/آذار 1949، انتقل قائد الجيش حسني الزعيم من مقر عمله في القنيطرة إلى العاصمة دمشق بعد أن أعطى أوامر بقطع كافة أشكال الاتصالات بينها وبين العالم الخارجي.

ولحظة وصوله قامت عدّة وحدات عسكرية بتطويق القصر الرئاسي ومبنى مجلس النواب والوزارات الرئيسية، كما حاصر مقرات الشرطة والأمن الداخلي والقوات نصف العسكرية المعروفة باسم الجندرمة التابعة لوزارة الداخليّة.

في هذه الأثناء أعدّ السياسي أكرم الحوراني بيان الانقلاب الذي تمّت تلاوته على الإذاعة السوريّة.

انتهت عمليات التطويق والاستسلام في جميع هذه المواقع بأمر من القوتلي بشكلٍ سلميّ ودون إطلاق رصاصة واحدة.

المفاجئ في الأمر أنّ البيانات الأولى التي تمت تلاوتها لم تذكر أبداً من قائد الانقلاب، بينما اكتفت بالإشارة إلى قيادة الجيش.

في ذات اليوم اعتقلت وحدات من الجيش الرئيس شكري القوتلي ورئيس الوزراء خالد العظم بعد أن أبلغا بمذكرة من الزعيم بأن الجيش قد قرر استلام قيادة البلاد.

فتم نقلهما إلى مشفى المزة العسكري، ووجه الجيش الذي انتشر في الساحات العامة بياناً مقتضباً للشعب حول عملية «انتقال السلطة».

وفي صباح الانقلاب، التقى الزعيم عدداً كبيراً من أعضاء مجلس النواب يتقدمهم رئيس المجلس فارس الخوري.

وأسفر اللقاء عن السماح للخوري بزيارة رئيسي الجمهورية والوزراء في مشفى المزة العسكري للاطمئنان على صحتهما وليطلب منهما التوقيع على بيان الاستقالة لكي يجعل الزعيم نفسه رئيساً للبلاد بشكل قانوني.

فطبقاً للقانون الدستوري الدولي، فإنه يجب أن يتم انتقال السلطة بطريقة شرعية وليس استملاكها بالقوة.

وفي منتصف أبريل/نيسان تقرر إخراج القوتلي من السجن ونفيه إلى الإسكندرية في مصر، كما صودرت أملاكه وأملاك ابنه.

وفي بعض الروايات غير الموثقة أنّ حسني الزعيم طلب بأن يُطاف بالقوتلي والعظم من داخل مدرعة في شوارع دمشق ليريا بنفسيهما كيف أن الشعب يبتهج في الشوارع بعد خلعهما.

وفي 3 أبريل/نيسان 1949 أعلن الزعيم حل البرلمان، وألغى العمل بالدستور، لحين وضع دستور جديد للبلاد يعيد للسوريين «حقوقهم وحرياتهم» كما صرح في اليوم ذاته.

وقال الزعيم إن حكومته مؤقتة، مهمتها التمهيد لإجراء انتخابات، وكتابة دستور جديد.

استمرت حكومة الزعيم لما بعد الانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران 1949، والتي فاز بها الزعيم عبر استفتاء كونه لم يترشح أحد غيره، وكلّف على إثرها السفير السوري السابق في مصر حسني البرازي بتشكيل حكومة جديدة، وهي خطوة ذات دلالة حول تحالفات الزعيم في السياسة الخارجية، والعلاقة القوية التي تربطه بالملك فاروق.

رغم وعود الزعيم بأن تعطيله الحريات العامة هو مؤقت، ريثما يقيم نظاماً “ديموقراطياً حقيقياً” يعيد للسوريين حقوقهم وحرياتهم، فإن الزعيم يعتبر أول رئيس سوري يحظر ويسحب التراخيص من الإذاعات والصحف والمجلات، ويفرض رقابة صارمة على محتواها.

إذ قام بإغلاق 34 صحيفة ومجلة في دمشق وحدها ولم يسمح لغير 8 فقط بالصدور، بينما بلغ عدد الوسائل الإعلامية التي حظرت على مستوى سوريا برمتها 59 صحيفة ومجلة.

عدا عن ذلك كله قام الزعيم بقمع كل المظاهرات المعارضة له والمؤيدة للقوتلي بالقوة.

كما منح الزعيم لنفسه أيضاً حق حظر الأحزاب والجمعيات السياسية، وحظر على الطلاب في الثانويات والجامعة، وجميع موظفي القطاع العام، الانتماء الحزبي أو العمل السياسي.

على صعيد الحريات الاجتماعية، أعلن الزعيم سخطه على اللباس التقليدي من الكوفية والطربوش، وحظر استعمال ألقاب باشا وبك وأمثالهما وبرزت في عهده القبعات الأوروبية بكثرة في شوارع دمشق، وغدت النساء أكثر حرية في الحياة العامة، وانتشرت النوادي الليلية. كما أراد الزعيم أيضاً إلغاء النقاب، غير أنه لم يصدر تشريعاً بذلك.

في 20 يوليو/تموز 1949 أشهر الزعيم اتفاق الهدنة مع إسرائيل، وكانت سوريا آخر دولة من دول الطوق تقبل الاتفاق المذكور.

والمقصود بدول الطوق هي الدول المحيطة بفلسطين من كافة الجهات وهي (سوريا، الأردن، لبنان، مصر).

وحسب بعض الوثائق المسربة فقد عرض الزعيم على رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون الاعتراف ببلاده وتبادل السفارات بين البلدين واستيعاب وتجنيس 300 ألف فلسطيني في سوريا، وعقد قمة بين الزعيم وبن غوريون مقابل بعض التنازلات عن المياه في بحيرة طبرية، غير أن بن غوريون رفض هذا العرض.

فيما كتب ستيفن ميد، السفير الأمريكي في دمشق في مذكراته عن علاقة الزعيم بإسرائيل: “حين وافق الزعيم على تنفيذ توصية للخارجية الأمريكية بأن توقع سوريا اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، قال الزعيم: إني مقدم على الأرجح، على انتحار سياسي، وأعرض نفسي للقتل، أملاً بالحصول على مساعدة أمريكية تتيح لبلدي الوقوف على قدميه، ولذلك يجب على بلادكم ألا تسمح بسقوطي”.

وقد اعتبر توقيع اتفاق الهدنة مخيباً لآمال السوريين، وتراجعت في إثره شعبية الزعيم، بشكل حاد، وخلال 3 أشهر فقد حسني الزعيم معظم الدعم الشعبي الذي حظي به عند بداية الانقلاب، نتيجة سياسته الخارجية، وتجميد الحياة السياسية الداخلية؛ فضلاً عن أن تسريح ونقل أعداد كبيرة من الضباط قد جعل علاقته مع المؤسسة العسكرية بحد ذاتها متوترة.

في فجر يوم 13 أغسطس/أب 1949،  وبعد 4 شهور على انقلاب الزعيم، انقلب عليه سامي الحناوي بثلاث فرق عسكرية، حاصرت أولاها تحت قيادته قصر الرئاسة، والثانية حاصرت منزل رئيس الوزراء محسن البرازي والثالثة مقر القيادة العامة للشرطة والجيش.

كان العقيد الحناوي عند انقلاب الزعيم برتبة مقدم، وتربطه به علاقة مودة وصداقة، لذلك منحه الزعيم رتبة عقيد كما منحه ثقته إذ سلّمه قيادة اللواء الأول في الجيش، والذي يعتبر القوة الضاربة التي يعتمد عليها رئيس الجمهورية.

على إثر الانقلاب تم اعتقال الزعيم فآل الحكم مجدداً لقيادة الجيش، واجتمع في وزارة الدفاع نحو خمسين سياسياً مع الحناوي للتباحث في المرحلة الانتقالية.

برر الحناوي أسباب الانقلاب بتبديد الثروة العامة وقمع الشعب وازدراء سلطة القانون واعتبار الزعيم نفسه «ملكاً» على سوريا كما صرح هو بذلك؛ والأسوأ من ذلك حسب رأي الحناوي هو السياسة الخارجية «غير المسؤولة».

وقد حوكم الزعيم أمام المجلس الأعلى للحرب محاكمة عسكرية عاجلة وأدين بتهمة الخيانة العظمى وأعدم في اليوم نفسه مع رئيس وزرائه محسن البرازي رمياً بالرصاص على طريق المزة، حسب الرواية الرسمية.

ولم يُعثر على قبره حتى 3 يناير/كانون الثاني 1950، عندما عُثر على جثته مدفونة في تابوت خشبي تحت كومة حجارة في منطقة أم الشراطيط قرب نهر الأعوج بدمشق.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى