ثقافة وادب

بدأت في مصر والعراق وطوّرها الفرسان الصليبيون أثناء الحروب الصليبية.. تعرّف على تاريخ البنوك

تعتبر
البنوك أحد الدعامات الأساسية للاقتصاد القومي لكل بلاد العالم، كونها تلعب دورًا
بارزًا في تسهيل المعاملات الاقتصادية والمالية، وحفظ الأموال والذهب، وتمويل
عمليات الاستثمار بشقيها العام والخاص، فضلًا عن أنها مقياس لمدى تحقيق مستوى
الرفاهية والخدمات في دول العالم في شكلها المعاصر، فهل تسائلت يوماً عن تاريخ
البنوك في العالم؟

هذه البنوك لم تصل إلى ما وصلت
إليه الآن دون أن يكون لها تاريخٌ عريق وأسباب أدّت لنشأتها وتطوّرها لتصل لما هي
عليه الآن. تمتد هذه الأسباب إلى ما قبل الميلاد، ففكرة البنوك ليست حديثة كما قد
يعتقد البعض.

تعود أول فكرة بنكية، إلى
الحضارتين الفرعونية والبابلية، حيث امتلك ملوكٌ وأعيان ثرواتٍ ضخمة من الذهب،
وهنا نشأت فكرة إيجاد مكان آمن لحفظ هذه الثروات من السرقة، حتى قرروا أن يكون
المعبد هو الملاذ الآمن لحفظ أموالهم، كونه مبنِي بشكلٍ متين، وله طابعٌ مقدّس قد
يردع اللصوص.

عرف التاريخ القديم “مفهوم
البنك” في القرن الثامن عشر ق.م في بابل زمن الملك حمورابي. وكان  الذهب
المخزّن في المعابد لا يمكن الإستفادة منه وهو مخزّن، في الوقت الذي كانت الحكومة
والسوق التجاري بحاجةٍ ماسة إليه، لذلك قرروا أن يتم الإستفادة من هذا الذهب
وإقراضه لتدور العجلة الاقتصادية، وبالفعل وجد علماء الآثار سجلات القروض التي
قدّمها كهنة المعبد.

تناقلت هذه الطريقة بين الحضارات القديمة التي كانت تتعامل مع مواطنيها أو مع الدول
المختلفة بالمقايضة، وتطوّرت الفكرة لأن يكون هناك نظام مالي، وأصبح من الضروري
إصدار عملات معدنية عندما احتاجت الإمبراطوريات إلى طريقة للدفع مقابل السلع
والخدمات الأجنبية.

تطورت مفاهيم الأنشطة المصرفية في
اليونان القديم بشكلٍ أكثر تنوعًا وتعقيدًا، حيث كان يقوم التجار وكذلك المعابد
والهيئات العامة، بإجراء معاملاتٍ مالية مشابهة كثيرًا للمعاملات الحديثة،
فتعاملوا بالودائع، والقروض، وكذلك بتصريف العملة، ومعرفة العملة الحقيقية من
المزيّفة، وبطبيعة الحال كانت هناك تعاملات ربوية ربحية.

بعد أن انتهت الحضارة اليونانية،
وحلّت الرومانية محلها، عمل الرومان على تطوير النظام المصرفي اليوناني بحلول القرن الثاني
الميلادي، وشهد تاريخ البنوك نقلة نوعية في زمانهم، وكانت أول خطوة عملية هي أنهم
جعلوا البنوك مستقلة عن المعابد، وبنوا لها مبانٍ خاصة ذات طابع رسمي.

وعملوا على ترسيم التعاملات الخاصة
بالقروض، وابتكروا وظيفة “كُتّاب العدل” العامِّين لتسجيل مثل هذه
المعاملات، كما كان البنك الروماني يضمن حقوق المُقرض والمقترض “مع ضمان نسبة
الفائدة”، ويمكن تسديد الديون عن طريق دفع المبلغ المناسب في البنك، وإذا لم
يتم تسديد الدين؛ فيحق للديان مصادرة أراضي أو ممتلكات المَدِين.

تأثر مفهوم المصارف لاحقاً في
القرنين الثاني والثالث عشر الميلادي بسبب نهاية حكم الإمبراطورية الرومانية
العريقة، وانهيار التجارة في المنطقة، والسبب الآخر هو ظهور الديانة المسيحية التي
أعادت كنائسها نظام الفائدة الربوية التي كانت تتعامل بها البنوك، والتي كانت يجيد
التعامل بها أبناء الطائفة اليهودية، وحاولت الكنيسة السيطرة على المنظومة، حتى
ظهور فرسان المعبد.

برز في بداية العصور الوسطى اسم
فرسان الهيكل، أو فرسان المعبد، الذين شكلوا أحد أقوى التنظيمات العسكرية
والاقتصادية في الحروب الصليبية الأوروبية على العالم الإسلامي، كما أصبحوا لاحقاً
أحد أبرز ممثلي الاقتصاد المسيحي ودام نشاطهم قرابة قرنين من الزمان.

ارتبط مصير فرسان الهيكل بالحملات
الصليبية، فقد كانت هي سبب تأسيسهم، وعندما لحقت الهزيمة بالحملات الصليبية في
القدس، وبقية الإمارات الصليبية في العالم الإسلامي وأخرها بعدما خسروا إمارة عكّا
عام 1291 على يد السلطان خليل بن قلاوون، خسر التنظيم كثيرًا من الدعم والثقة التي
كان ينالها من ممالك أوروبا، ولكن حتى ذلك الحين استطاع التنظيم أن يشكِّل بنوكًا،
تقوم تقريبًا بكل الوظائف التي تقوم بها البنوك الحديثة.

نشأ التنظيم في الأصل لحماية الحجّاج
المسيحيين إلى القدس، في رحلة حجهم الطويلة التي تتطلب إمدادات كبيرة من النقود،
وكذلك حماية لهذه النقود، ومن أجل ذلك ابتكر التنظيم أساليب جديدة يحمي بها
الاقتصاد الأوروبي، وأصبحت فيما بعد مظهرًا رئيسيًا من مظاهر الاقتصاد الحديث.

في عام 1150، ظهر لأول مرة في
العالم الصورة الأولية للنظام البنكي الحديث، فقد بدأ التنظيم بإصدار خطابات
اعتمادات مالية، وفتح فروعاً له في كافّة أوروبا، بحيث يترك الحاج مقتنياته
النقدية والقيمية، في فرعٍ من فروعه، ويأخذ وثيقة إثبات، ويذهب في رحلته دون
الاضطرار إلى حمل الذهب أو النقود معه.

ويستطيع العميل تسليم الوثيقة لأيّ
فرعٍ من فروع التنظيم على طول الطريق، مع ذكر تاريخ
إصدار الوثيقة الذي يظهر على الوثيقة بأرقامٍ مشفرة، وذكر جدول المقتنيات، ليستردّ
ما يريده من قيمة ما أودعه، ومن هنا ظهر في العالم لأول مرة نظام مالي يعتمد على
فكرة “الصكوك” بطريقة حديثة والتدقيقات الحسابية، فضلًا عن تشغيل بنوك
الفرسان أموال المدخرين في التجارة العامة، وأعمال الاستيراد والتصدير الضخمة.

وبناءًا على هذه العقلية
الاقتصادية، امتلك فرسان الهيكل نفوذًا اقتصاديًا هائلًا، جعلهم أكبر المقرضين
لملوك أوروبا انفسهم، وهو الأمر ذاته الذي تسبّب في فنائهم، فقد أصبحوا يشكلون
خطرًا على منظومة الممالك الأوروبية القديمة، وعمل فيليب الرابع ملك فرنسا المثقل
بالديون للتنظيم، عمل على إنهاء التنظيم عام 1307 باعتقالهم وإعدامهم بالمحرقة
باعتبارهم مهرطقون، بمباركةٍ من البابا في ذلك الزمان.

تعلّم الإيطاليون من تجربة فرسان
المعبد، وأدركوا أهمية وجود وتملُّك البنوك ومدى النفوذ التي تعطيها لصاحبها.

وبالفعل مع نهاية القرن الرابع
عشر، قام رجل إيطالي يدعى جيوفاني ميديتشي، ينتمي لأثرى عائلات أوروبا في ذلك
الوقت، بإنشاء أوّل بنك في العالم بمدينة فلورنسا الإيطالية عام 1397 وكان اسمه
“بنك ميديتشي”، وفتحت أفرع له في الممالك الأوروبية، وكذلك في القدس.

في عام 1587، تأسس بنك آخر في
إيطاليا في مدينة البندقية وأطلق عليه اسم “بانكو ريالتو”، كما أنشئ في
عام 1619 بنك “بانكو دي جيرو”، وبدأت تنتشر البنوك في معظم أوروبا، ولكن
بانكو دي جيرو كان الأكثر قوة، لأنّه كان أول بنك يصنع شهادات بقيم معينة لأصحاب
الأموال المودعين لديه.

والعملية ببساطة هي عبارة عن
ورقة  تحمل قيمة عملة الذهب الأصلية، ويتعهد البنك بدفع قيمة المبلغ المكتوب
في هذه الورقة، ومع الوقت بدأ تداول تلك الأوراق وكأنها أوراق نقدية، وأصبح مجمل
التعامل بها، في حين ظلّت النقود الحقيقة من العملات الذهبية لدى البنوك، وقد أطلق
على هذه الأوراق في أوروبا اسم “بنك نوتة”، وهو ما عرف في البلدان
العربية لاحقاً باسم “بنكنوت”.

كانت معظم البنوك في العالم ملك لأفراد وأسر بعينها، مثل عائلة “روتشيلد” اليهودية التي كانت تمتلك بنوكًا في معظم دول أوروبا، وكانت
تقرض الحكومات والدول وتفرض عليها سياسات مالية معينة وتحدد قيمة العملات في الدول
التي تقرضها، حتى أصبح لها كلمتها في اقتصاد العالم.

بقيت أغلب المعاملات في البنوك في
معظم دول العالم تسير على نظام البنك نوتة إلى أن انتهت الحرب العالمية الأولى.
لتستحدث البنوك بعد ذلك نظام “الشيكات” المعروف في وقتنا الحالي، بدلًا
من الأموال الحقيقية أو الذهب.

وشيئًا فشيء زادت ثقة الناس في
البنوك، باعتبارها أفضل مكان للادخار أو الاستثمار، وخصوصًا مع ما تقدمه من خدمات
أو عروض كثيرة، وزادت سطوة البنوك في العالم، وأصبح هناك بنوك متخصصة وتجارية
ومركزية واستثمارية وادخارية وإسلامية، تتنافس فيما بينها للوصول إلى العميل. 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى