تقارير وملفات إضافية

العالم كله مهتم بتشكيل الحكومة اللبنانية، لكن أهل بيروت ينزلون الشوارع لمهمة أكثر فائدة لبلادهم

جاء انفجار مرفأ بيروت الثاني، الأقوى بكثير، بعد أن ركض أبناء خديجة حسين الخمسة إلى المطبخ مع أمهم، واختبأوا في ركنٍ بينما صدمت الموجة التضاغطية أجسادهم وجرحت قطع الزجاج المتناثرة جلدهم.

قالت خديجة: “ظننت أن الحرب عادت”. هي في السابعة والثلاثين من عمرها، ونجت من انفجار ميناء بيروت بإصابات بسيطة. لكن هناك من لم يحالفهم الحظ مثلها، إذ قتل انفجار آلاف الأطنان من نترات الأمونيوم 177 شخصاً على الأقل، وجرح أكثر من 6 آلاف، وسبب أضراراً تقدر قيمتها بـ15 مليار دولار، لمدينة مفلسة ومحطمة من الأصل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة موقع مجلة Foreign Policy الأمريكية.

بعد عشرة أيام من الانفجار، لا تزال نوافذ خديجة محطمة، فعائلتها لم تقدر على تحمل تكاليف تصليحها، فضلاً عن صعوبة إيجاد الزجاج والرخام. “من الصعب إيجاد النوافذ هذه الأيام على أية حال، فالطلب عالٍ جداً”.

وكذلك ما حل بلبنان، لن يكون إصلاحه سريعاً أو رخيصاً. 

في حين استقالت الحكومة بأكملها بعد أيام من الانفجار، يخشى العديد من الناس في بيروت أن يبقى الحال على ما هو عليه، ويعترفون أن تبديل وتوفيق النخب السياسية نفسها التي أدارت البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية في 1990 لن يؤدي إلى تغيرٍ دائم.

يقول فؤاد دبس، محامٍ بالنهار ومتظاهر بالليل: “نريد أن نتخلص من الطبقة الحاكمة. ليس فقط السياسيين، بل المتعاقدين والبنوك ومن تحميهم الدولة من المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية والانفجار”.

منذ الانفجار المزدوج قبل عشرة أعوام، نزل الآلاف إلى شوارع لبنان، وألقوا بالحجارة على مباني الحكومة المغلقة، وأشعلوا النيران في دمىً عليها أقنعة سياسيين لبنانيين معلقين بالمشانق. 

كانت التظاهرات قد بدأت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين أعلنت الحكومة أنها ستفرض الضرائب على تطبيق واتساب الشهير، وكانت هذه هي القشة الأخيرة في سلسلة من الأحداث التي أدت إلى أزمة اقتصادية طاحنة. 

وقد كانت التظاهرات قد خرجت عن السيطرة بالفعل، وأدت إلى استقالة رئيس الوزراء حينها، سعد الحريري.

في التظاهرات الحالية، أطلقت قوات مكافحة الشغب الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود، ووافق البرلمان اللبناني على فرض حالة الطوارئ في بيروت، ليمنح بذلك سلطات واسعة للجيش لقمع الاحتجاجات. وقد أدى نزول العديد من الجنود المسلحين إلى الشوارع، وكذلك انشغال الناس بتنظيف المدينة، إلى تهدئة التظاهرات، لكنه لم ينجح في تهدئة غضب الشعب العارم.

ولأن مئات الآلاف من الناس صاروا فجأة بلا مأوى، نزلت أعداد ضخمة من المتطوعين بالخوذات والقفازات والرفش، وأخذوا على عاتقهم تنظيف أكوام الركام التي ما زالت تملأ شوارع المدينة. إنه عملٌ لن تقوم به الحكومة، كما يقولون.

ويقول دبس: “لقد أظهر الانفجار الإهمال التام من النخب السياسية، والفشل الرهيب للنظام الفاسد”. فأهل بيروت، الذين يصارعون الانهيار الاقتصادي، وأزمة العملة، وأسعار الأغذية المرتفعة للغاية، عليهم الآن أن يعيدوا بناء مدينتهم، من جيوبهم.

لعقودٍ، ظل البرلمان اللبناني متعدد الطوائف منقسماً إلى قطاعات جغرافية وطائفية. وبعد ثلاثين عاماً من نهاية الحرب الأهلية، تظل الحياة السياسية اللبنانية تحت هيمنة زعماء الحرب الشيعة والسنة والمسيحيين من زمن الحرب الأهلية. وتمارس إيران نفوذاً ضخماً في البلاد عبر دعمها لميليشيا حزب الله الشيعية المسلحة وحزبها السياسي الذي له الكلمة العليا في لبنان، إذ يتمتع بتحالفٍ وثيق مع الرئيس المسيحي ميشيل عون، ويسيطر أيضاً على أجزاء كبيرة من الميناء، ما دفع بالعديد من اللبنانيين إلى تخمين أن الجماعة كانت تخزن الأسلحة في الميناء، ما أدى إلى الانفجار.

إن الإصلاح السياسي، الذي سعى إليه لبنان وقلما شهده، محوري ليس فقط لمحاسبة المسؤولين عن الانفجار الأخير. فالإصلاح الجاد من شروط المساعدات الدولية التي يحتاجها لبنان بشدة لإصلاح الوضع الاقتصادي الكارثي. فقد عرض صندوق النقد الدولي إنقاذ لبنان، الغارق في 90 مليار دولار من الديون، بشرطٍ واحد: أن تجري الحكومة إصلاحات محددة لترميم النظام المالي وتفادي هروب رؤوس الأموال ومساعدة الفئات الأكثر عرضة للخطر.

وقالت كريستالينا جورجيفا، المدير العام لصندوق النقد الدولي، في مؤتمر للمانحين نظمته فرنسا الأسبوع الماضي بهدف جمع الأموال لمساعدة بيروت: “إن الالتزام بهذه الإصلاحات سيتيح مليارات الدولارات لمنفعة الشعب اللبناني. هذه هي اللحظة التي ينبغي على واضعي السياسات في البلاد أن يتصرفوا بحسم”. وكرر وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، في زيارة إلى بيروت طلب صندوق النقد الدولي مشدداً على الحاجة إلى إصلاحات اقتصادية في البلاد.

ويقول نديم حوري، المدير التنفيذي لمبادرة الإصلاح العربي، أن هناك سيناريوهين مطروحين. الأول هو حكومة وحدة وطنية تشمل جميع الأحزاب السياسية القائمة ولن يكون إلا استمراراً للسياسات النخبوية الطائفية التي دمرت البلاد على مدار أعوام. واللبنانيون المحتجون في الشوارع على مدار العام الماضي، وبالأخص الأسبوع الماضي، لن يقبلوا بهذا.

الخيار الثاني، الأقل احتمالية بكثير، سيكون حكومة إنقاذ وطني مؤقتة تتجاوز النخبة السياسية الحالية، وتضع أساسات انتخاباتٍ مستقبلية، وتكسب ثقة المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي.

بالنسبة للبنانيين، لا يعد تشكيل الحكومة القادمة مهماً بدرجة كبيرة. فالتظاهرات في العام الماضي أسقطت بالفعل حكومتين، ويعتزم العديد من المتظاهرين البقاء في الشوارع حتى حدوث تغير حقيقي، رغم حالة الطوارئ.

ويضيف حوري: “إن لبنان على شفا جرف. وإن فاتتنا هذه الفرصة، سينحدر الوضع الحالي والأزمة الاقتصادية بسرعة”.

في منزل خديجة، على بعد ميل من الميناء المدمر، تأمل العائلة أن الانفجار الذي دمر منزلهم سيدمر الشلل السياسي في لبنان.

تقول خديجة: “كان من المفترض أن تساعدنا حكومتنا، لكننا لا ننتظر شيئاً، فليست لدينا حكومة فعلية”. وقفت خديجة بجانب ابنها علي، البالغ من العمر خمسة أعوام، وما زالت أي ضوضاء عالية في الحي تجعله ينتفض. “كل يومٍ، يسألني أبنائي إن كان انفجارٌ آخر سيقع. وأنا لا أعرف الإجابة بصدق. أود أن أوجه سؤالاً للمسؤولين: هل يمكن أن تقع مثل هذه الكارثة مرة أخرى؟”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى