تقارير وملفات إضافية

أفلح إن صدق.. لماذا يصعب على عون تنفيذ دعوته لتجاوز النظام الطائفي في لبنان؟

جاءت دعوة الرئيس ميشال عون إلى إلغاء النظام الطائفي في لبنان باعتباره كان صالحاً لزمان مضى، وأصبح عائقاً أمام تطور البلاد، لتعبر عن مفارقة جديدة في الحياة السياسية اللبنانية.

وقال عون في كلمة إلى اللبنانيين في الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير: “لأنني مؤمن أن الدولة المدنية وحدها قادرة على حماية التعددية وصونها وجعلها وحدة حقيقية، أدعو الى إعلان لبنان دولة مدنية”.

ودعوة عون التي جاءت بعد مطالبات مشابهة من الرئيس الفرنسي ميشال ماكرون، تظهر أن المسافة بين الواقع والكلام في لبنان كبيرة، جداً، لأن عون وتياره الوطني الحر، هو المستفيد الأول من النظام الطائفي في لبنان، وكذلك الطائفة المسيحية برمتها.

وعلى مدار السنوات الماضية كان جزء كبير من مكاسب عون والتيار الوطني الحر برئاسة صهره جبران باسيل تأتي من تقديم نفسه باعتباره الممثل الأكبر للمسيحيين وبالتالي من حقه تعيين واختيار المرشحين للمناصب المسيحية أو أن يكون له الكلمة العليا في اختيارهم في أضعف الأحوال، الأمر الذي منح التيار الوطني الحر وزناً نسبياً أكبر من حجمه الفعلي، بالنظر إلى أنه أكبر تيار مسيحي بالفعل، ولكنه بأغلبية ضئيلة في مواجهة منافسة قوية من حزب القوات اللبنانية، وبصورة أقل من تيار المردة وحزب الكتائب.

وكل ذلك أيضاً بفضل دعم كامل من حزب الله لعون وتياره، يصل إلى إيقاف أي قرارات أو تعيينات إلى أن يرضى عنها التيار الوطني الحر.

وبفضل هذا النهج، أصبحت كتلة عون في البرلمان هي أكبر كتلة بفضل نظام قانون اخترعه صهره باسيل موغل في الطائفية.

وهو قانون يعتمد على ما يسمى الصوت التفضيلي رغم أن الانتخابات تجرى على أساس قائمة لكل محافظة.

أي أن اللائحة التي تفوز في الانتخابات هي على مستوى الدائرة، التي غالباً تكون المحافظة (نسبة كبيرة من المحافظات ذات غالبية مسلمة) بينما تم إعطاء سكان كل قضاء حق ترتيب أعضاء كل لائحة انتخابية، ولأن أغلبية الأقضية في لبنان لها أغلبية طائفية معينة، فإن هذا القانون، فعلياً أعطى كل طائفة غالبة في كل قضاء حق ترتيب المرشحين وإعطائهم فرصة أكبر للفوز، وهو النظام الذي منح الأقضية المسيحية في المحافظات ذات الغالبية المسلمة حق اختيار ممثليهم المسيحيين دون تأثير من الأصوات في باقي المحافظة.

ورغم أن هذا القانون قلل عدد النواب المسيحيين الذي يصلون بأصوات الناخبين المسلمين، وزاد من قدرة الناخبين المسيحيين على إنجاح البرلمانيين المسيحيين، إلا أنه زاد من التخندق الطائفي، لأنه جعل النائب المسيحي أو المسلم لا يهمه أصوات الطوائف الأخرى، أكثر من ذي قبل، بل طائفته فقط.

قال الرئيس عون في كلمته التاريخية إن “النظام الطائفي القائم على المحاصصة كان صالحاً لزمن مضى، وصار اليوم عائقاً أمام أي تطور وأمام مكافحة الفساد، ومولداً للفتن والتحريض والانقسام لكل من أراد ضرب البلد”، مضيفاً أن “هناك حاجة لتطوير النظام. لتعديله. لتغييره. سموها ما شئتم ولكن الأكيد أن لبنان يحتاج إلى مفهوم جديد في إدارة شؤونه يقوم على المواطنة ومدنية الدولة”.

ولكن الواقع أن هناك مسألة تجعل إلغاء الطائفية أمراً شبه مستحيل في لبنان، وهو أن النظام الطائفي الحالي الذي وضعت جذوره فرنسا، يمنح المسيحيين نواباً وناخبين حجماً سياسياً أكبر من وزنهم السكاني، وأي نظام انتخابي أقل طائفية يمنح المسلمين أفضلية خاصة السنة والشيعة، وبالتالي لاعون ولا فرنسا، سيسمحان بذلك.

وبصرف النظر عن الكلمات الرنانة لماكرون التي أشار فيها إلى أن الإصلاحات اللبنانية مستحيلة بسبب النظام الطائفي والمصالح الخاصة، والتي سارع عون بتلقفها وتقديمها على أنها من بنات أفكاره، فإن ماكرون أو عون يعلمان أنه لا سبيل لإلغاء الطائفية، وأن أقصى أماني الإصلاح الواقعية إعادة بناء النظام لجعله أقل طائفية وفساداً، وفجاجة في المحاصصة، ولكن ذلك سيفضي في الأغلب إلى تفاوض حول شكل النظام الطائفي، ليكون ما يحدث هو إعادة تدوير للطائفية.

وقد عبر الأمين العام لجماعة “حزب الله” ، حسن نصر الله، عن ذلك ضمنياً بإبداء استعداد جماعته لـ”بحث أي عقد اجتماعي جديد”، شرط قبوله من كافة مكونات المجتمع.

وقد يكون رهان نصر الله وعون وغيرهما من قادة 8 آذار، تقديم كلمات رنانة للبنانيين وللعالم باستعدادهم للتغيير والإصلاح، وتنفيذ بعض الشروط والاقتراحات الدولية والفرنسية، للسماح بالإفراج عن المساعدات الدولية، لانتشال البلاد من الكارثة وبعد الخروج منها ستعود الأمور إلى وضعها السابق.

أما قادة 14 آذار فهدفهم تحسين الشروط، للعودة للحكم بوضع أفضل وتكبيد 8 آذار خسارة بعد أن اختل التوازن بين الجانبين لصالح الأخيرة في السنوات الماضية.

أما الرئيس الفرنسي فقد يكون لديه رهان خاص على إعلاء شأن ما يعرف بقوى المجتمع المدني لتزيد من حصتها في النظام اللبناني، وإجراء انتخابات تسمح بظهور كتلة نيابية علمانية ومستقلة وبعيدة عن الطائفية.

ولكن اللافت في هذا الشأن، أنه بعد سنوات من الحراك، الذي بدأ مع أزمة النفايات عام 2016، فإنه لم يظهر أي تكتل ذو شأن لقوى المجتمع المدني عابر للطائفية أو ظهر اسم زعيم واحد ينتمي للمجتمع المدني، أو تبلور طرح عقلاني من هذه القوى للخروج من الأزمة غير الأطروحات الرفضية التي ترفض الواقع دون تقديم بديل واحد، كما أن أداء المرشحين الذين قدموا أنفسهم على أنهم مستقلون أو قريبون للحراك كان سيئاً في الانتخابات النيابية الأخيرة (ولكنه كان جيداً في انتخابات بلدية بيروت).

كما يتم تناسي أن مصالح زعماء الطوائف تتداخل مع مصالح الرأسمالية اللبنانية، كما يظهر بشكل واضح في حالة تيار المستقبل، بينما توجد حالة من العداء بين قوى المجتمع المدني وهذه الرأسمالية.

الأهم أنه بعيداً عن الصورة المثالية للمجتمع المدني واليسار اللبناني المتظاهر في وسط بيروت، فإن خلف هذه اللوحة المحررة من الطائفية، توجد علاقات خفية، (يعلمها أغلب اللبنانيين) تربط بين بعض أطراف وأطياف المجتمع المدني اللبناني وبين القوى السياسية الطائفية التقليدية، وهي علاقة لا يمكن وصفها في كل الأحوال بالاختراق، ولكنها علاقة تجعل هناك احتمالاً أن بعض أطياف المجتمع المدني تفضل بعض القوى السياسية الطائفية على الأخرى.

فعلى سبيل المثال، فإن جزءاً من اليسار اللبناني النشط في أوساط الحراك، ليس بعيداً اجتماعياً وسياسياً عن قوى 8 آذار تحديداً حزب الله والحزب القومي السوري، ومعاد لتيار المستقبل، بينما أطروحات الليبراليين من النشطاء ليست بعيدة في بعض القضايا عن تيار المستقبل وحزب القوات.  

تطرح العلمانية في لبنان كحل أحياناً من قبل أطياف متنافرة، تماماً.

فهي تطرح أحياناً من اليسار اللبناني والليبراليين والحداثيين الأكثر تحرراً، كما تطرح أحياناً من قبل اليمين اللبناني المسيحي الطائفي رداً على أي مطالبة بإلغاء الطائفية، فيقول بعض رموز هذا اليمين المسيحي إذن فلنعلن العلمانية، متذرعين بأنه إذا تم إلغاء الطائفية في الانتخابات والمناصب دون علمانية، فإن ذلك سيعني أن المسلمين سيستأثرون بالسلطة.

ويتبنى بعض أفراد اليمين المسيحي الطائفي هذا المقترح لأنهم يعلمون أن هذا الطرح وما يعنيه، من إلغاء للزواج الديني واستبداله بالزواج المدني وغيره من مسائل الأحوال الشخصية مسألة حساسة لدى المسلمين حتى غير المتدينين، وبالتالي فإنهم سيرفضونها، وبالتالي يكون هذا الطرح وسيلة لإجهاض فكرة إلغاء الطائفية.

والواقع طرح العلمانية في لبنان يشبه طرح الفيدرالية، فهو اقتراح بتطبيق ما هو موجود أصلاً، فأحياناً تظهر أصوات مسيحية تعترض على ما تعتبره ظلماً للطائفة داعية إلى ضرورة تطبيق الفيدرالية فيرد بعض المسلمين معتبرين أنه تفتيت للبلاد، ولكن الواقع أن لبنان فعلياً وبعيداً عن الدستور والقانون دولة فيدرالية، حتى لو كان توصيفه القانوني والدستوري دولة مركزية.

فسلطة زعيم أي طائفة لبنانية في منطقته تفوق سلطة أي حاكم ولاية أمريكية في ولايته، مقابل سلطة الرئيس الأمريكي، ولا نقول تفوق سلطة أي رئيس دولة أوروبية في مواجهة الاتحاد الأوروبي.

وينطبق الأمر على العلمانية، ففعلياً لبنان مجتمع علماني، فالطائفية في لبنان هي ليست علاقة بين العبد وربه، بل بين اللبناني وطائفته، وبين زعيم الطائفة ورجل الدين.

الأهم أنه فعلياً، سلطة زعماء الطوائف، وهم أشخاص أغلبهم علمانيون على المستوى الشخصي، وغير متدينيين، أقوى من الزعماء الدينيين، بل إن الزعماء الدينيين يطيعون القادة السياسيين في الأغلب وليس العكس.

بل في بعض الأحيان فإن الزعماء السياسيين هم الذين يختارون القادة الدينيين (مفتي السنة عبداللطيف دريان جاء محصلة لتوافق بين تيار المستقبل والقوى الناصرية السنية بوساطة مصرية، وهو أقرب للمستقبل).

وباستثناء المسيحيين، فإنه لا يوجد استقلال للزعامات الدينية في لبنان (بعض الزعامات لديها استقلال في الشأن الديني مثل الدروز)، وذلك نظراً لعراقة المؤسسة الدينية المسيحية لاسيما المارونية إضافة إلى عدم هيمنة قوة سياسية معينة على المسيحيين.

ورغم عراقة المؤسسة الكنسية المارونية وثرائها ونفوذها، فإنها نادراً ما تمارس تأثيراً يذكر على القوى المسيحية، بل إنها لم تستطع أن تحمي نفسها من الإهانة من قبل أنصار عون خلال الحرب الأهلية، عندما اعترض البطريرك صفير، في نهاية الثمانينيات على خطوة رئيس الجمهورية السابق امين الجميل في الربع الساعة الأخير من عهده، بتكليف العماد ميشال عون قائد الجيش يومها، تشكيل حكومة انتقالية بعد تعذر عقد جلسة انتخاب الضاهر ووصول ولاية الجميل الرئاسية إلى نهايتها.

فالطائفية في لبنان ليست قرار دولة، ولا نظاماً سياسياً بل هي انعكاس لمجتمع، فاللبناني ينتمي لعائلته، ولطائفته وبلدته، حتى لو يكن يؤمن أصلاً بعقيدة طائفته.

وحتى لو أعلنت العلمانية نظاماً رسمياً في لبنان، فإن اللبناني سيظل ينتخب زعماءه الطائفيين رغم انتقاده للطائفية الذي يتركز في الأغلب على زعماء الطوائف الأخرى، وسيظل يختار اللبناني على أساس طائفي حتى لو كره الطائفية في ظل غياب بديل عابر للطائفية، مجتمعياً وسياسياً.

وبالتالي فإن هذا لن يكون إلا تغييراً في المسميات.

فاللبناني ينظر لنفسه وتاريخ بلاده من منظور طائفي، فيرى السني الدولة العثمانية خلافة مسلمة حاكمة امتداداً للخلافتين العباسية والأموية، بينما ينظر لها الماروني كدولة احتلال جاءت فرنسا لتحرره منها.

وهذا النظام الطائفي يزداد تشظيه أيضاً بالمناطقية، (مسيحيو زغرتا بشمال لبنان ولاؤهم الأساسي للزعيم المحلي سليمان فرنجية وليس للأحزاب المسيحية القطرية).

والواقع أن هذا النظام هو امتداد للجغرافيا اللبنانية المعقدة بجبالها وموقعها المتوسط المحصن الذي جعل البلاد مركزاً للحضارة وممراً للتجارة والثقافات منذ القدم، ولكنها أيضاً خلقت فواصل بين المكونات اللبنانية حتى قبل الطائفية الحالية، وعرقلت قيام دولة قوية موحدة في أغلب فترات تاريخ لبنان، فسمعنا عن حضارة الفينيقيين العظيمة ولكنها كانت حضارة بدويلات لا دولة قوية.   

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى