تقارير وملفات إضافية

بداية لحل الخلافات أم تمهيد لعودة الحرب.. إلى أين تتجه مسارات الأزمة الليبية بعد “حوارات الغردقة”؟

تتجه أطراف النزاع الليبية في أكثر من محفل وفي أكثر من مكان للبحث عن صيغ للحوار يمكنها أن تدفع بالأزمة الليبية نحو الحل، فهذا حوار في الغردقة بمصر بين اللجنة العسكرية المعروفة بـ5+5 تحاورت فيه أطراف عسكرية من حكومة الوفاق وأطراف تابعة لقوات خليفة حفتر والتي تسمى بالجيش الوطني الليبي. 

وفي المغرب تأجل موعد الحوار بين اللجان المكونة من قبل مجلس النواب في طبرق والذي يمثله رئيس مجلس النواب السابق عقيلة صالح، وأطراف من المجلس الأعلى للدولة، وبدأت أنباء تنتشر عن محاولات من المؤسسات في مصرف ليبيا المركزي وأطراف أخرى في المؤسسة الوطنية للنفط في الحديث عن توحيد المؤسسات في شرق البلاد وغربها دون تأكيد، حيث أنكر المصرف المركزي في طرابلس وجود مثل هذه الحوارات. 

بين جنيف في سويسرا، وبوزنيقة في المغرب، والغردقة في مصر تتمخض عدة اقتراحات تحاول أن تدفع بالأزمة نحو الأمام، ففي الغردقة كان الحديث عن تسليم المعتقلين من الطرفين برعاية أممية، كما أن هناك حديثاً عن وقف إطلاق النار وتوفير قوة حماية محايدة لحماية المنشآت النفطية، والبدء الفعلي في وقف إطلاق النار، بينما تأجل الحوار في المغرب، كما صرح بذلك المجلس الأعلى للدولة في بيان له دون تحديد أي موعد للقاء المقبل. 

في هذا السياق جاءت تصريحات تلفزيونية لكل من رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، والرئيس السابق لمجلس النواب في طبرق عقيلة صالح لتشير إلى حجم الخلاف الذي لايزال قائماً بين مختلف الأطراف في النزاع الليبي، فخالد المشري ذكر أنهم يذهبون للحوار وأنهم حذرون من تكرار ما حدث في حوار غدامس الذي كان مزمعاً قبيل الاعتداء على العاصمة طرابلس من قبل قوات حفتر في 4-4-2019، وأنهم لن يكرروا تلك الأخطاء فهم يذهبون بغصن الزيتون في يد ويد أخرى تضغط على الزناد. 

أما عقيلة صالح فإنه بين أن توقيع اتفاق مع حكومة الوفاق قد يمكنهم من إلغاء الاتفاق الليبي التركي، وهذا مغازلة واضحة لمصر وكذلك لخليفة حفتر الذي لم يتوقف عقيلة صالح عن إظهار أنه لايزال في معسكر الكرامة وخليفة حفتر.

من التطورات المثيرة كذلك في المشهد الليبي نشاط المدعي العام في طرابلس وفق تنسيق مع منظمات دولية للقبض على العديد من المسؤولين في حكومة الوفاق منهم وكيل وزارة التعليم وكذلك وزير الصحة ووكيل وزارة الحكم المحلي، وجاءت تصريحات النائب العام “الصديق الصور” واضحة بأن هذا جاء ثمرة تحقيقات مستمرة منذ أكثر من سنة، وهو أمر غير مسبوق في ليبيا في محاربة الفساد بل إصدار أوامر بإلقاء القبض على مسؤولين في الدولة، مما يؤكد التوجه الدولي الذي دعمه المجلس الرئاسي بمحاربة الفساد في مؤسسات الدولة الليبية. 

هكذا يمكننا القول إنه بينما يستمر مسار عسكري جامد ينشط المسار السياسي ويستمر المجتمع الدولي في إدراك خطورة الفساد وفشل المؤسسات الليبية خاصة المؤسسة الليبية للاستثمار التي لم تسلم من اتهامات النائب العام. كيف يمكننا أن نضع كل هذه التطورات في سردية واحدة تمكننا من إدراك حجم التطور الذي تشهده الأزمة الليبية ومساراتها؟

يمكننا أن نقسم هذه التطورات إلى تطورات سياسية تأتي في سياق التموضع السياسي لمختلف الأطراف، ومسار عسكري حذر تسعى الأطراف الدولية لإيقافه، ومسار مؤسسي يسعى لتوحيد المؤسسات في ظل تزايد معدلات الفشل للدولة الليبية وانهيار مؤسسات الدولة في قطاعات حيوية كالكهرباء والمالية والصحة والبنية التحتية. 

إذا تتبعنا ما يحدث في مختلف محافل الحوار السياسي في ليبيا، فإنها كما تعلمنا من النزاعات الدولية قد تكون محاولة لتموضع مختلف القيادات السياسية في المشهد السياسي القادم في ليبيا، فكل طرف يعاني من أزمة الشرعية والتمثيل، فرغم بروز نجم عقيلة صالح وخالد المشري فإن التصريحات لم تتوقف من قبل مختلف الفاعليات في رفض تمثيل هذه الأطراف لهم في أي حوار سياسي، فعلى سبيل المثال صرحت بعض القوى السياسية في مدينة زليتن بأنها تدفع بالسيد نوري بوسهمين الرئيس السابق للمؤتمر الوطني لتمثيلها في أي حوار سياسي، وصرحت كذلك غرفة عمليات سرت الكبرى بأنها غير راضية ولن تقبل بأي مخرجات من حوارات مصر بالغردقة بين اللجان العسكرية المعروفة بـ5+5. 

وتشير تصريحات خالد المشري وتأكيده على رفض خليفة حفتر إلى أنه يريد إقناع الأطراف السياسية في الغرب الليبي بأن هذا الحوار سيكون من صالحهم وأنه لن يمكن لحفتر التواجد في المشهد السياسي، كما أن عقيلة صالح من جانبه يريد من أنصاره في الشرق الليبي وهم يميلون لخليفة حفتر- كثيرٌ منهم- بأن هذا الحوار في صالح مشروعهم وأنه قد يتمكن من تحقيق أهداف لم يستطع حفتر أن ينالها بقوة السلاح. 

هنا تعلمنا التجارب الدولية أن أطراف النزاع تتجه للحوار بعد الفشل العسكري، لكن توجه كل طرف ورؤيته للآخر هي نفس الرؤية، وأن الأطراف في الغرب الليبي ترى حفتر انقلابياً وأنه ليس محلاً للثقة ويستمر الإعلام الموالي لحفتر بنعت الحكومة الشرعية بحكومة الميليشيات، هذا الاتجاه في تصور الآخر يؤشر إلى حالة من انعدام الثقة، ويفسر تعثر حوار بوزنيقة واستمرار المشاورات لتغيير تلك التوجهات أملاً في إيجاد أرضية مشتركة قد تكون بداية لتغير السلوك تجاه الآخر المخالف في الأزمة الليبية. 

هنا تقوم البعثة بدور نشط لتحفيز كافة الأطراف لرؤية أنفسهم في المشهد القادم دون إقصاء، لكن هذه الأطراف تصر على عدم توسيع المشاركة في الحوارات السياسية، مما يجعل أزمة التمثيل قائمة في أي حوار سياسي، فمثلاً هناك العديد من التوجهات والتيارات ترى أن هذه الحوارات لن تصل لشيء مادام خليفة حفتر في المشهد، وهناك تيارات دستورية تؤمن بأن الدستور هو النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وهناك من يرفض الشخصيات الحالية. هكذا يبدو أن أزمة الثقة وأزمة التمثيل النابعة من أزمة الشرعية لتجعل من بداية الانطلاق نحو الحوار نقطة إيجابية، إلا أنها تحتاج لتقنيات فاعلة لتخطي هذه الأزمات التي صار المشهد يدور حولها. 

بينما يتحاور المتحاورون في كافة بقاع الأرض، لم يتوقف الحشد في مدينة الجفرة وسرت، وتستمر قوات عملية بركان الغضب في التأهب في وسط البلد على حدود سرت، وهذا يشير إلى أن الحوارات قد تكون تمهيداً لحرب قادمة حيث يستفيد كل طرف من معرفة قوات خصومه ونقاط ضعفه.

كما تحاول الأطراف الدولية دعم كلا الطرفين لاستمرار التوازن العسكري ما يسمح بوجود تغذية رجعية سلبية أشبه بحرب باردة، حيث يستمر الدعم العسكري لكل جانب، وتعطي المفاوضات الوقت الكافي لإلهاء الرأي العام في الداخل الليبي عن هذا الدوران الذي إن لم توضع له مؤشرات واضحة سيكون عاملاً سلبياً أكثر من كونه مجرد إتاحة فرصة للحوار. 

الأمر يمكن أن يفهم بأن هذه الحوارات السياسية يجب أن يؤشر لها بمؤشرات واضحة منها الثقة بين الطرفين وذلك عبر إيقاف الحملات الإعلامية والتنابز بالألقاب واللمز بالإرهاب تارة والغمز بالخيانة تارة أخرى، كما أن إجراءات كسب الثقة تحتاج لمؤشرات كتبادل الأسرى وضمان عودة النازحين وخروج القوات الأجنبية خاصة الميليشيات التي جلبها حفتر وأهمها قوات فاغنر. الحوار السياسي يجب أن يدخل في دينامية الصراع ويؤثر في تأهب كل طرف لخوض غمار تجربة عسكرية جديدة.

حوارات المغرب تركز على مسألة المناصب السيادية، وهي المادة 15 من الاتفاق السياسي، حيث يحاول الطرفان وضع المعايير لتولي المناصب السيادية، لكن المتابع للشأن الليبي يجد فوضى الأفكار والمفاهيم هي السائدة، كما أن خارطة الطريق لا يمكن أن تبدأ من المحاصصة حول المناصب السيادية حتى ولو كان الأمر مهماً، لأن عدة مفاهيم تبدو مختلفة تماماً بين الطرفين، فهموم مثل اللامركزية يفهم بأنه توزيع لعوائد النفط بين الأقاليم الثلاثة ووضع لذلك نسب منها 60% لحكومة الوفاق والباقي لباقي الأقاليم، لكن هذا الأمر لا يتعلق باللامركزية -إلا في نظريات قديمة منذ الثمانينات- فاللامركزية في المفهوم التنموي الحديث تعني المشاركة من كافة القطاعات، بمعنى أن تتخلى الدولة عن دورها في فعل كل شيء وتهميش المجتمع وجعله عاجزاً ينتظر منها الفعل والتأثير. 

لم يجر أي تشخيص صحيح للأزمة الليبية، فالبعثة وكثير من المراقبين يضعون الأزمة الليبية في سياق حرب أهلية سببها تقاسم الثروة بين الشرق والغرب، وللأسف فإن الأطراف الليبية تذهب لهذه الحوارات وهي لا تستبطن أي نموذج يجب أن تطرحه لبحث سبب النزاع في ليبيا. 

هنا يبدو المدخل المؤسسي الذي يركز على العلاقة بين فشل المؤسسات وانتشار العنف هو الأقدر على التفسير، ففشل الدولة قضية ظاهرة في الشرق والغرب والجنوب، ووجود أموال في الشرق أو الغرب لن يزيد هذا الفشل إلا انتشاراً حيث سيستغل كل طرف لاستخدام هذا المال في بحثه عن السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة. هذا التغيير لن يتأتى إلا بمناقشة وظيفة الدولة الليبية التي يبدو أن تقوم بكل أعمال المجتمع والقطاع الخاص وفي نفس الوقت هي عاجزة عن فعل أي شيء يمكن من خلال إدارة المجتمع في هذه المرحلة الصعبة. 

إذا قدِّر لك وزرت ليبيا ستجد هذا الفشل ظاهراً، فالكهرباء لا تأتي إلا ساعات معدودة، وبعض المناطق تغيب فيها الكهرباء لأيام، كما أن الازدحام الشديد في الشوارع لا يعكس نشاطاً وعملاً مثمراً بل طوابير طويلة من أجل توفير بعض المال من المصارف التي لا تعطي المال نقداً إلا بعد جهد جهيد، كما أن خدمات النظافة والطاقة وانتشار جائحة كورونا حيث وصلت الحالات في بعض الأيام لأكثر من 500 حالة وسط عجز تام للنظام الصحي في الشرق والغرب والجنوب. هذه المؤشرات تؤكد أنه في الوقت الذي يستمر المسار السياسي في الدوران، وتجمد الجبهة العسكرية، فإن انهيار مؤسسات الدولة يستمر بشكل خطي مما يؤكد غياب التشخيص الحقيقي للأزمة في ليبيا.

أثارت تصريحات النائب العام من القبض على كثير من المسؤولين المتهمين بقضايا تتعلق بإهدار المال العالم ارتياحاً بين الأوساط الإعلامية والتيارات المدنية في ليبيا، فلأول مرة منذ عقود تصدر اتهامات بشكل واضح وواسع في قضايا تتعلق بالفساد وإهدار المال بل إصدار أوامر بالقبض على هؤلاء المسؤولين. 

هذا المسار يبدو أنه مسار دولي فكثير من المراقبين أدرك بوضوح أن المسألة السياسية في ليبيا لا تتعلق فقط بالشرعية السياسية بل باستخدام الأزمة الحالية في ليبيا من قبل شبكات فساد داخل الدولة الليبية لاستغلال هذه الأوضاع لتعظيم منافعها من الأموال التي تضطر الدولة لإنفاقها نتيجة لتوسع مهامها أمام المجتمع الليبي. وهذه التصريحات والقرارات الهامة ستتبعها تحقيقات دولية مع المؤسسات السيادية في ليبيا سواء مصرف ليبيا المركزي أو المؤسسة الليبية للاستثمار من خلال متابعة تدفق الأموال الليبية في المنظومة الدولية. 

وهذا سيعطي ضماناً للمؤسسات الرقابية في ليبيا في أن تؤدي دورها وسيشكل ذلك ضغطاً كبيراً على الميليشيات التي يقودها خليفة حفتر في الشرق والميليشيات العسكرية في الغرب الليبي التي يبدو أنها لن تستطيع الوقوف أمام هذه الإجراءات الدولية وإلا تسقط عنها ورقة التوت حين تحاول أن تقول للرأي العالم الليبي إنها تعمل من أجل الثورة وأهدافها. هذا المسار يمثل ضوءاً في آخر النفق وهو الطريق الذي يجب أن يكون نقطة النهاية لكافة هذه المسارات.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى