آخر الأخبارتقارير وملفات

أرض فلسطين تقاوم مع أصحابها

كيف نجحت حركات التحرر الوطني ضد المستعمرين عبر التاريخ؟

تقرير إعداد 

سمير يوسف

رئيس منظمة “إعلاميون حول العالم”

إن الحرب تقتل الأطفال حقيقة ومجازاً، فحينها لا يوجد أي فرصة للهروب من الصواريخ للأطفال والشيوخ والنساء ؛ لذلك لا أحد يحب الحرب، فالقذائف لا تفرق، إن كنتَ رضيعاً لا تعرف من العالم سوى صدر أمّك، أو طفلاً لا يتجاوز سقفُ أحلامه اللعب مع أقرانه بجوار شجر الزيتون، أو شابّاً يخطّط بشغف لمستقبله، أو عجوزاً لا يرجو إلا رحمة الله، أو طيراً أو حيواناً يبحث عن ملجأ، أو شجرة يستظلّ بها الكادحون الساعون خلف رزقهم، أو أرضاً تحتضن المارّة الباحثين عن أمل.
فالحرب لحظاتها ثقيلة كأنها قرون طويلة. الدقيقة الواحدة دهرٌ كامل. ينتظر فيها الإنسان ما يخبّئ له القدر، موتاً أو حياة. إن كان موتاً، فلا يعرف شكله ورغبته، هل سيخطفه وحيداً بسرعة، أم سيأخذ كل أفراد الأسرة دفعة واحدة؟ أم سيختار الأكبر سنّاً أم يترك الصغير أم العكس؟
إن صمت المجتمع الدولي على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.


أن “غياب حلّ القضية الفلسطينية بعد 75 عاما من المعاناة والتشرد، ومواصلة سياسة ازدواجية المعايير، وصمت المجتمع الدولي على الممارسات الإجرامية والعنصرية ضد الفلسطينيين، هي السبب وراء تفجر الأوضاع”.

في غزة يؤمنون أنّ المقاومة هي السبيل الوحيد للحياة. حتى الأطفال رغم عدم معرفتهم بعمرها يدركون أن العالم قد نساهم ووعدهم الكثير فهى حرب المئة عام على فلسطين

، فلماذا نلوم المقاومة؟!

هل فتح لنا العالم الحدود معطياً لنا أبواباً لحياة أخرى ولم ندخلها؟ هل حاولت الأمم المتحدة تشتيت أطفالنا عن الكوارث اليومية والمستقبل البشع الذي ينتظرهم؟
وحدها المقاومة، من تعطينا الأمل المكلف بغدٍ أفضل لمن يبقى منا على قيد الحياة، تجعلنا نستبدله أمام الموت، كأننا لا نعرفه، نتناساه مثل بقية البشر التي تسير في الشوارع الباريسية ليلاً.
ولكي لا يتملك أحد اليأس، يجب التذكير بأن المقاومة الفلسطينية ليست الأولى ولا الأخيرة، إذ يوجد هناك العديد من نماذج المقاومة التي حصلت في العالم من دول أمريكا اللاتينية إلى وسط آسيا، ومروراً بنماذج عربية أيضاً قاومت الاستعمار والاحتلال.
المقاومة الفلسطينية حق مشروع
وفقاً للقانون الدولي يحل اللجوء للعنف العشوائي والمنظم لكل من يملكون الحق في استخدام القوة من أجل إنهاء الاحتلال الأجنبي. لعل هذا كافياً للرد على مدعي العقلانية، طلاب الكليات السياسية النجباء، والدبلوماسيين المتشدقين بلغة مائعة كلما جاءت سيرة المقاومة.

وحتى اليوم لا يوجد التزام فعلي بالقانون الدولي حتى في زمننا الحاضر، زمن التحرر من الاستعمار.

إذ أتذكر دائماً أساتذة تاريخ الفكر السياسي وتأكيدهم أن المجتمع الدولي طرف غير فاعل في أي قضية، ولا يتعدى كونه طرفاً محفزاً. بينما التنظيم والتلاحم الشعبي في أي بقعة في الأرض قادران على فرض نفسهما بفاعلية تدريجياً. ولعل الشاهد على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، أقوى دولة في العالم، التي أجبرتها طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والاعتراف بها ككيان سياسي دولي.

إن ادعاء المنطق الشديد هو ضد المنطق، ما تفعله المقاومة الفلسطينية من قصف وتصريحات هو الجنون المنطقي الواقعي اللازم حالياً. ولو أن الواقع يحكم ويدار بالأرقام والقدرات لكانت المسألة محسومة لصالح إسرائيل بتحالفاتها الأمريكية والخليجية. لكن وبالنظر للتصريحات الإسرائيلية الحالية يمكن القول إن تل أبيب تتجنب الولوج إلى رمال غزة، لأنها لا تريد حرباً لن تحقق أهدافاً سياسية كبيرة منها، ولأن كلفتها ستكون كبيرة.

أرض فلسطين التاريخية يقطنها 30 في المئة من السكان وغالبيتهم الساحقة مهاجرون من أوروبا. ، حيث الاستعمار على الطريقة الكلاسيكية. لذا لا تنظير على المقاومة المسلحة، فلن يتغير الواقع عبر إقناع العالم بالقضية العادلة حيث الضعفاء ضد الأقوياء، إذ لا تغري القضية الفلسطينية أسياد العالم ذوي البشرة البيضاء.
لا أحد يستطيع إرجاع الزمن إلى الخلف وبدء حياة جديدة، ولكنه يستطيع الآن أن يضع بداية جديدة ليسطر نهاية جديدة”، وهذا ما يفعله الشعب الفلسطيني منذ زمن إلى اليوم، وهو ما فعلته كل الشعوب التي ولدت مهزومة في شرق الأرض وغربها، إذ أدركت أن الخضوع لا يغير القدر، فآمنت بتغيير مصائرها وواقعها بالمقاومة، أي بالعمل المتراكم لعقود، سواء كان عسكرياً أو رصيداً سياسياً شعبياً.
نحن لا نتحدث هنا عن رؤى رومانسية أو أساطير شعبية، بل نقرأ التاريخ لندرك الواقع وكيفية تغيير مساره، إذ شهد تاريخ الحروب والصراعات الكثير من الهزائم التي لحقت بالأقوى عدّةً وعتاداً. تجارب غنيةٌ وموصولةٌ من صراع الإرادات كشفت عن نقاط الضعف البنيوية لدى “الأقوياء”، كالقدرات النارية وغيرها، وأدّت إلى هزيمة من رجّحت لصالحهم كفّة موازين القوى. ويشمل هذا التاريخ الطويل العديد من الحروب المعاصرة، كتورّط الفرنسيين في الجزائر، والتجربة الأمريكية في فيتنام وحركة التحرر في أمريكا الجنوبية، ثلاث تجارب بثلاث قارات مختلفة، لا يجمعهم شيء غير أنهم كانوا أصحاب الإرادة والأرض، فالجغرفيا دائماً تنصر أهلها وإن تعمق الألم.


الجنرال الفرنسي “بيجو” المهزوم “اقتلوا كل حي.. واحرقوا كل شيء في الجزائر”!

تبدأ الحكاية في الجزائر عندما كان الجنرال الفرنسي “بيجو” عائداً لتوه من ساحة القتال بعد أن تلقى من رجال المقاومة هناك ضربات ساحقة، ظهرت آثارها على ملامح وجهه وحتى وسلوكه.
وعندما توقفت العربة المصفحة أمام مقر القيادة العليا الفرنسية في مدينة الجزائر، انفتح بابها، وهبط الجنرال منكس الرأس، ويبدو أنه قد اختفت النجوم والنياشين التي تزين صدره وكتفيه تحت وطأة الوحل وذرات الرمال الجزائر.
هرول الجنرال مسرعاً إلى الداخل؛ حيث أغلق عليه باب غرفته، وانكفأ على المكتب للحظات ثم هبَّ واقفاً فجأة وانفتحت عيناه على آخرهما، وتقطبت أساريره وانكمش وجهه كالقنبلة التي تنتظر الاندفاع، ثم ندت عنه صرخة مشوبة بالآلام وكأنه فقد أحد أعضائه. وعاد من جديد ليلقي بجسده على الكرسي، وهو يذهب بعينيه في زوايا الغرفة يميناً ويساراً، وكأنما يبحث عن عدوه الدود الأمير عبد القادر الجزائري الذي حطم ضلوعه وأهان كرامته ومكانة بلاد الأنوار.
فجأة نهض الجنرال من جديد، وأطلق صيحة خالها مساعدوه وأركان حربه خوار جاموس ذبيح، فاقتحموا الغرفة، مندهشين برؤية قائدهم يحدث نفسه بصوت مسموع ويضج الغرفة بحركات هستيرية. حاولوا عبثاً أن يهدئوا من روعه، ولكنه أخذ يصيح في الغرفة قائلاً: “اقتلوا كل حي.. اذبحوا كل امرأة وطفل.. احرقوا كل شيء.. واجعلوها حرب إبادة شاملة في الجزائر”..!
وكان ذلك هو المبدأ الذي سارت عليه فرنسا وجنرالها بيجو قائد قوات الاحتلال منذ تعيينه حاكماً على الجزائر في عام 1840 وبعد 10 سنوات من غزو فرنسا للجزائر في يوليو/تموز عام 1830.
كان الغزو الفرنسي بحجة الدفاع عن شرف وكرامة فرنسا، التي أهانها “الداي حسين” حاكم الجزائر عندما ضرب “دوفال” القنصل الفرنسي على وجهه بمروحة من ريش كانت في يده. بعد أن رفضت فرنسا على لسان قنصلها سداد ديونها للجزائر بأسلوب وقح وعبارات مهينة اعتبرها الداي تهديداً له.
منذ أن رست فرنسا بجيشها الجرار على الشواطئ الجزائرية عاملوا أصحاب البلاد بكل ما عرف من وحشية وضراوة وتلهث لإراقة الدماء واستباحة للأرواح.
لكن ما تناساه الحاكم الفرنسي أن استيلاء فرنسا على مدينة الجزائر لم يكن معناه سقوط البلاد كلها في أيدي الغزاة، فقد تولى قيادة المقاومة البطل النبيل “عبد القادر بن محيي الدين” دون أن تفتر مقاومته ومقاومة رفاقه المجاهدين ضد الغزاة طوال 17 عاماً.
كان الأمير عبد القادر يدرك أن جنرال فرنسا يهدف إلى إبادة الشعب الجزائري، وما أكثر الأحداث التي بلغته، ومن بينها قيام الجنرال “بيجو” بإصدار الأوامر إلى جنوده بمداهمة قبيلة العوفية ليلاً وهي نائمة في خيامها، ممعنين في كل أفرادها القتل الغادر.
عقب مبايعة الجزائريين له، اتخذ الأمير عبد القادر من مدينة معسكر عاصمةً لدولته الفتية، وسارع في توحيد صف القبائل، وتنظيم شؤون الإدارة بالمناطق الجزائرية، وسكّ العملة الجزائرية، وكذا محاربة أشكال الفساد والنهب المتفشية، بالإضافة إلى بناء جيش وصناعة سلاحه وتصميم رايته، والانطلاق بعدها في المقاومة، ليكون الأمير عبد القادر المؤسس الفعلي للدولة الجزائرية الحديثة.
أمام قوة وتنظيم مقاومة الأمير عبد القادر، والتي أجبرت الفرنسيين على البقاء على تخوم الساحل الجزائري، اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية دي ميشيل (سميت باسم الجنرال الفرنسي الذي وقّعها) سنة 1834 مع دولة الأمير عبد القادر التي اعترف من خلالها بسيطرة الأمير على غرب وجنوب الجزائر.
لكن لم يمضِ عام واحد حتى نقض الجيش الفرنسي هذا الاتفاق، ليعلن الأمير عبد القادر “الجهاد” ضد المحتل الفرنسي، ويكبّد الفرنسيين خسائر كبيرة في معارك المقطع، التافنة، السكّاك.
لتُجبر فرنسا مرة أخرى على عقد هدنة ثانية مع الأمير عبد القادر بعد 3 سنوات من المعارك الطاحنة، ففي سنة 1837م وقّع الأمير عبد القادر مع المحتل الفرنسي معاهدة التافنة، التي اعترفت من خلالها فرنسا بسيادة الأمير عبد القادر على غرب الجزائر.
استغلت فرنسا تلك الهدنة لطلب التعزيزات، وإخماد ثورة شعبية جزائرية كانت مندلعة في الشرق بقيادة باي قسنطينة أحمد باي.
بعد نجاحها في التغلب على مقاومة الجزائريين في الشرق، عاد الجيش الفرنسي بكل قوته من أجل ضرب مقاومة الأمير عبد القادر في مرحلة ثانية وحاسمة بدءاً من سنة 1939، حيث قامت القوات الفرنسية بهجوم عنيف على المناطق التي تحت يد الأمير، نتج عنها خسائر بشرية هائلة وتدمير البيوت والحقول الزراعية، خلال هذه المرحلة استعملت فرنسا سياسة الأرض المحروقة، فأبادت كل قبيلة أو قرية تدين بالولاء للأمير عبد القادر في طريقها لاحتلال الغرب الجزائري.
بدأ الأمير عبد القادر في خسارة مناطقه رويداً رويداً، فابتكر عاصمة متنقلة له أطلق عليها “الزمالة”، تتحرك معه ومع جنوده في المعارك، وضيق عليه الجيش الفرنسي الخناق، فلم يجد من ملجأ إلّا الفرار إلى المغرب والاستنجاد بسلطانها، لكن أمام الضغط الفرنسي الكبير الذي مورس على المغرب حينها، رفض السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام بقاء الأمير في التراب المغربي.
وأمام هذا الوضع، قرر الأمير عبد القادر الاستسلام للسلطات الفرنسية في 2 ديسمبر/كانون الأوّل عام 1847.
لكن بعد الأمير عبد القادر تحولت الحرب إلى ثورة بل إلى ثورات محلية دوخت الفرنسيين طوال الفترة من يوم 5 يوليو/تموز عام 1830 وإلى يوم 5 يوليو/تموز عام 1962 الذي بزغت فيه شمس الاستقلال بفضل المقاومة الدائمة لشعب الجزائر.
فعلى الطريق الملتهب بين الرصاصة الأولى التي أطلقها الأحرار إيذاناً ببدء الثورة في أول نوفمبر 1954 وبين الرصاصة الأخيرة التي أطلقوها أيضاً ابتهاجاً بوقف القتال توطئة لإجراء الاستفتاء في أول يوليو/تموز 1962 قصة نضال مرير دام نحو سبعة أعوام ونصف العام منذ إعلان ثورة التحرير في أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954، وانتصر الإيمان على وفرة معدات القتال والدمار.
وكان جيش التحرير الوطني طوال تلك الفترة يواصل نشاطه ويوسع نطاق أعماله الحربية ويصمد صمود الجبابرة أمام نصف مليون من الجنود الفرنسيين الذين احتشدوا في الجزائر لإخماد الثورة.
وهكذا اندفع شعب الجزائر إلى أقصى حدود الاندفاع في مقاومته المسلحة لتحرير وطنه واستعادة استقلاله وممارسة سيادته بعد أن قدم أكثر من مليون شهيد من أبنائه أرواحهم مقابل إجلاء المستعمر الفرنسي الذي سار على مبدأ الجنرال القاتل “اقتلوا كل حي واحرقوا كل شيء”.

هزيمة أمريكا النكراء في فيتنام

كان العالم، وفقاً للإدارة الأمريكية في واشنطن أثناء الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين منقسماً ما بين خير وشر، إذ سادت التفكير عند الإدارة الأمريكية معادلة صفرية؛ تنطلق من اعتبار أن أي تقدم للشيوعية فأي بلد في العالم هو خسارة للرجل الأبيض الأمريكي والعكس الصحيح.
حينها دفع القلق حول فقدان المهابة والهيمنة أمام حلفاء الولايات المتحدة والتأثير المحتمل لسقوط فيتنام بأيدي الشيوعية على دول أخرى، وتداعياته على الساحة العالمية وصناع القرار داخل البيت الأبيض للتدخل مباشرة في الحرب.
كان الفكر الاستعماري ما زال لدى الرجل الأبيض يسيطر على صناع القرار في واشنطن فشكّلت مجموعة من التصورات الأمريكية حول المجتمع الفيتنامي “البدائي والبربري”، ما سيجعل صموده مسألة بسيطة في مواجهة الماكينة العسكرية الأمريكية، هذا التصور السطحي والاستعلائي هو ما دفع دخول أمريكا الحرب بكل همجية.
وقد وصل الاستعلاء الاستعماري والغرور الأمريكي المعتاد وسوء القراءة حد تجاهل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى صعود جبهة التحرير الفيتنامية في الجنوب، وتمردها على الدولة والدعم الذي حظيت به من شخصية مؤثرة وجوهرية في وعي وخيال الشعب الفيتنامي، ألا وهو “هو تشي منه”؛ حيث أصرت الولايات المتحدة على اعتبار الحرب مؤامرة دولية كبرى يديرها الكرملين في روسيا.
استقرّت الاستراتيجية العسكرية الأمريكية على أساسين: استخدام القوات البرية في عمليات “البحث والتدمير”، والاعتماد على القوة الجوية في قطع الإمدادات ما بين الشمال والجنوب، بينما تقوم الأخيرة بقصف تدريجي وممنهج لفيتنام الشمالية على أمل أن القصف الثقيل والتدريجي سيحدث تغييراً في الحسابات السياسية لدى القيادة الثورية الفيتنامية. ووظفت القوة الجوية أيضاً في محاولات قطع طرق الإمداد.
عانت أمريكا من الارتباك الاستراتيجي والتكتيكي خلال خوضها المعارك منذ وحلها في فيتنام، وبالرغم من تفاوت القوى الهائل ما بين الفيتناميين والأمريكيين، إلا أن الاستراتيجية المتبعة من قبل الفيتناميين رغم بساطتها فتاكة؛ حيث استندت إلى تحييد مكامن القوى الأمريكية بما في ذلك القوة الجوية من خلال بناء شبكة معقدة من الأنفاق، والمخابئ، واستخدام المتفجرات محلية الصنع، واستثمار كبير في صيانة وتطوير تلك الطرق، وهو ما يشابه ما تفعله المقاومة الفلسطينية اليوم في غزة.
نجحت جبهة التحرير الفيتنامية في تحويل الجغرافيا إلى صالحها ضد حربها مع الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، خاض الفيتناميون حرباً نفسية موجهة ومؤثرة استهدفت الروح المعنوية لدى الأمريكي ورغبة الأخير في مواصلة حرب مكلفة.

بدأت أمريكا حرباً لا تستطيع الفوز بها

في الرابع من أغسطس 1964 أعلن رئيس الولايات المتحدة السابق “ليندون جونسون” أن المدمرتين الأمريكيتين “مادوس” و”سي تيرنر” قد تعرضتا لهجوم مُعاد في خليج تونكين قبالة سواحل فيتنام الشمالية، وهو الهجوم الذي لا يزال يشكك البعض في أنه وقع بالأساس.

إثر تلك الحادثة طلب “جونسون” من الكونجرس منحه السلطة لصد الهجوم المسلح ضد القوات الأمريكية ومنع المزيد من العدوان، لتدخل الولايات المتحدة ما اعتبرت لاحقاً الحرب الأطول في تاريخها، والتي خسرت خلالها ما يزيد على 56 ألفاً من جنودها.

فمع كل جندي أمريكي عائد في نعش، تقلصت الرغبة الأمريكية في مواصلة الحرب في فيتنام.

الولايات المتحدة لا أحد ينكر أنها البلد الأعظم ولكن إلى متى؟؟؟؟؟ هناك من يقول إنها لم تعد كذلك بعد «وكستها» الفيتنامية وانسحابها من فيتنام وقفاها يقمر عيش.
تدخلت في الحرب الفيتنامية عام 1955 وخرجت تجر أذيال الهزيمة المنكرة عام 1977 بعد ضغط شعبي هائل أنقذ قادة أمريكا على خسارتهم الفاضحة من ذل أكبر كثيرا مما نالوه، وما أعداد القتلى والجرحى والمشوهين إلا دليل يجسد ذلك.. فقد بلغت أعداد القتلى 58 ألفاً وأكثر من 300 ألف مصاب، أما خسائر من جرت عليهم أمريكا هذه المصيبة من الحلفاء فبلغت نحو 170 ألف قتيل.
إذاً هو تدخل غير محسوب كانت نتيجته فقدان نحو 358 ألف أسرة أبناءها ما بين قتيل وعاجز أو مريض نفسي، ورغم أن هذا سبب منطقي لهبوط نجم أمريكا، لكن نتيجة البروباجندا ظلت تحظى بسمعة أنها الدولة التي ما يغلبها غلاب.
وفي محطة أخرى كادت تفقد هيمنتها عندما هزمت في عدة معارك شكلت مجتمعة هزة في قدرات أمريكا، ومنها معركة لونج آيلاند، ومعركة القصرين بتونس ومخلب النسر وكان هدفها تحرير رهائن من إيران.
أخطاء بالجملة يرتكبها مهندسو السياسة الأمريكية وسيئو السمعة البنتاجون وCIA التي معظم معلوماتها أوقعت أمريكا في عثرات كثيرة، ومنها حديثاً عندما تنبأت أن طالبان تحتاج إلى 6 أشهر لتسيطر على كابل لكن الأمر لم يستغرق إلا بضعة أيام وما نجم عنه من ارتباك في إنقاذ وترحيل المدنيين، وكذلك عندما صرحوا بأن كييف ستحتلها روسيا خلال أسبوعين.
لا تزال أمريكا تذوق مرارة هزيمتها في العراق، وإن كانت شكليا انتصرت بحرب من طرف واحد، حيث فشلت في جعل العراق بلدا يعيش بحرية وأمان وديمقراطية، وعلى العكس انتعشت فيه القاعدة وداعش، كما كان من أهم خسائرها تسليم كثير من مقدرات العراق لإيران.
إن فشل أمريكا الذريع في عدة أحداث كاد ينهي دورها كلاعب رئيس في النظام العالمي، وما يضاهي إلى حد ما حرب فيتنام تدخلها في أفغانستان فلعدم تعلمها من التجارب هرولت إليها، وهذا أيضا كان تاريخا يصلح ليكون مؤشرا لنهاية صلاحيتها ونفشة ريشها فقد استمرت الحرب 19 عاماً دخلتها أمريكا لتسقط طالبان وخرجت بطريقة عشوائية لتعود طالبان للحكم ويا كد مالك خلف.
إن سجن أبو غريب وسجن غوانتانامو وصمة العار في جبين سمعة أمريكا التي حتى لو أغلق سجن غوانتانامو لن تمحى، وها هو بايدن يقضي سنته الثانية في الحكم، والسجن والظلم فيه «شغال على ودنه»وعاصمة تمثال الحرية لا يندى لها جبين.
سجن غوانتانامو إرث عفن تظل تنوء به سمعة أمريكا، لقد أوجدته مع سبق الإصرار والترصد لسجن مخاليق الله وبالذات المسلمين وتعذيبهم، ولا بأس من تقطيع بعض أوصالهم فهم لحم حلال.. ذلك السجن وضع خارج حدود أمريكا في أقصى الجنوب الشرقي من كوبا حتى تسلم من المساءلة، وكأن حقوق الإنسان والعدل والديمقراطية بالنسبة لصناع القرار في أمريكا «تمام يا فندم» طالما هو خارج حدودها.

بينما أخذت المعارضة المحلية في أمريكا أنذاك في الارتفاع، حيث لعبت الأصوات المتصاعدة من المتظاهرين في الولايات المتحدة الامريكية وترابط تلك التظاهرات مع الحركات الاجتماعية والحقوقية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أمراً محورياً أيضاً في سقوط المشروع الأمريكي في فيتنام.
ما تبقى هو حرب الإرادة، الملحمة السياسية والعسكرية التي جسدها شعب فيتنام أمام أعظم ترسانة عسكرية في تاريخ الأمم، مضحياً بأكثر من 3 ملايين فيتنامي في سبيل الحفاظ على وطن موحد ذي سيادة على كامل ترابه.
مرة أخرى انتصر الضعفاء، وفي هذه الحرب بالذات تعددت الأسباب بعضها تاريخي، وبعضها متعلق بطبيعة القادة المعنيين، وبعضها متجسد في التكتيكات والاستراتيجيات المتبعة من قبل الطرفين، ولكن في نهاية المطاف ما كان حاسماً وجوهرياً بالفعل هو القدرة المهولة على التحمل عند شعب فيتنام من ناحية الخسائر البشرية الهائلة، والمراهنة على عدم قدرة الجيش الأمريكي على تحمل نفس العبء.
شكلت فيتنام نموذجاً في العمل السياسي والعسكري المترابط والمتسق مع الطبيعة الثقافية للمجتمع الفيتنامي، والتي ما زالت تشكل اليوم رؤية واقعية وإمكانية الانتصار في الحروب اللامتكافئة في مواجهة أعتى القوى السياسية العالمية والإمبريالية.
فبعد 41 عاماً على حرب فيتنام، وقف الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بجانب تمثال للقائد الثوري هو تشي منه وأعلن فتح ترسانة الولايات المتحدة الأمريكية من الأسلحة لحليفها الجديد والصاعد في الهند الصينية.

القادم

هزائم الأميركان في بلاد الأفغان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى