آخر الأخبارتحليلات

شبكة استخباراتية صهيونية انتحرت قائدتها الميدانية قبل وصول العثمانيين إليها

بقلم الإعلامى

هشام محمود

عضو مؤسس بمنظمة “إعلاميون حول العالم”

قبل قرن من الزمان، نفذت منظمة التجسس “نيلي”، التي تعد اختصاراً لجملة “خلود إسرائيل ليس كذبة” بالعبرية وأسسها الصهيوني الروماني آرون آرونسون، سلسلة من العمليات وقفت شقيقته سارة خلف الجانب الميداني منها، بهدف التجسس على الأتراك لصالح البريطانيين في الحرب العالمية الأولى.

بدأ عمل “نيلي” من خلال مؤسِّسها آرون آرونسون، الذي استغل خبرته كعالم نبات، للتقرب من السلطات العثمانية. فعندما انتشر الجراد عام 1915، تم تعيين آرون ليكون القائد العام لمكافحة الجراد، بأمر من أحمد جمال باشا، الذي كان قائد الجيوش العثمانية في بلاد الشام. ومُنِحَ صلاحيات عسكرية كاملة، مكنته من التنقل بين المدن السورية، وتسجيل الملاحظات حول حجم القوات العسكرية، وإرسال المعلومات إلى الاستخبارات البريطانية في القاهرة.

أما سارة، فقد أوكل إليها مهمة تأسيس جيش نسائي من بائعات الهوى، للإيقاع بالضباط العثمانيين والألمان، وجمع المعلومات منهم. وأول ما قامت به هو توزيع جيشها النسائي على أكبر الفنادق، في كل من القدس، ودمشق، وبيروت، حيث تتواجد المقرات العسكرية التركية والألمانية، أما هي، فقد تمكنت من خلال علاقاتها مع إحدى العائلات البيروتية العريقة، من التعرُّف على أحمد جمال باشا (السفاح)، الحاكم المطلق لبلاد الشام آنذاك. فسلبت اليهودية الحسناء لبه، واستطاعت في فترة وجيزة أن تصبح عشيقته ومحل ثقته.

استطاعت “نيلي” أن تجمع معلومات تكتيكية حول الخصائص الجسدية والمهارات القتالية للضباط الأتراك، وكانت تركز على استخدام العميلات الإناث، وتقدم خدماتها للبريطانيين مباشرة، فيما كان الضابط التركي أحمد جمال باشا هدفاً خاصاً لهذه المنظمة، إذ كانت أي معلومات استخباراتية عنه تحظى بأهمية كبيرة لدى لندن، لأنه لاحقاً واجه الهجوم على مدينة غزة.

في البداية وحتى عام 1916م لم تتمكن الاستخبارات العثمانية من جمع معلومات كافية عن آرون أو شقيقته سارة، بل إنها لم تعرف أن سارة موجودة على الأراضي الخاضعة لسلطة الأتراك. ولفتت سارة انتباه الاستخبارات العثمانية من خلال زوجها السابق حاييم إبراهيم، وعلى رغم أن حاييم لم يكن يعمل ضمن منظمة “نيلي”، فإن تورطه في أنشطة تجسس أخرى دفع الاستخبارات لمراقبة زوجته السابقة سارة.

وبحلول عام 1917، توصلت مديرية الأمن العام التركية إلى نتيجة مفادها أن اليهود الصهاينة، وبخاصة الأوروبيون، يعملون ضمن شبكة استخباراتية في منطقة ممتدة من أضنة وحتى غزة، لكن حينها لم يكن هناك معلومات كافية عن كل أنشطة هذه الشبكة والغرض منها.

في السابق كانت الإمبراطورية العثمانية تتخذ كل الاحتياطات اللازمة لفك رموز وشيفرات منظمات التجسس التي تعمل في مصر والمناطق المحيطة بالقدس، خصوصاً من العرب اليهود والمسيحيين، لكن آرون استطاع أن يبني هيكلاً دقيقاً وقوياً لدرجة أن أنشطته لا تبدو أنها مزعجة، إلا أنه بعد تحقيقات واسعة اكتُشفت هذه المنظمة، وحُددت أهدافها.

لعل أول تلك الأهداف، محاولة الحصول على معلومات حول قطارات “أفيول”، من خلال رشوة بعض الضباط، والمعلومات المطلوبة كانت هي عدد القطارات التي تمر كل يوم، وكمية الذخيرة والحبوب والمدفعية والطائرات ووسائل النقل، والضباط الموجودين في مركز منطقة درعا، ومعرفة كمية وعدد القوات الموجودة في القدس، وعدد الكتائب وأسماء القادة.

وتولت منظمة التجسس الصهيونية مهمة التحقق من ماهية القوات الموجودة في يافا وحيفا والناصرة وعكا والمناطق المجاورة، وإعداد جداول وخرائط لمواقع السيارات والعربات وطرق السكك الحديدة وأسماء الضباط والمسؤولين الذين يميلون إلى حكومة الحلفاء، وذلك لأجل التخطيط لما بعد نهاية الدولة العثمانية، ولأجل نفس الهدف أيضاً كان لا بد من إجراء اتصالات مع رجال الدين في فلسطين.

ومن بين الأهداف أيضاً كان معرفة العربات والآلات المتوفرة في المحطات، والمواقع الاستراتيجية على ساحل فلسطين من أجل تزويد الألمان الموجودين هناك. وباختصار استطاعت منظمة “نيلي” خلق شبكة رشوة خطرة في البيروقراطية العثمانية، ووقع في فخ هذه المنظمة كثير من الضباط بهدف الحصول على مزيد من الأموال، لكن وعلى رغم كل هذه التعقيدات كانت الاستخبارات في تركيا جيدة واستطاعت اتخاذ خطوات استكشافية، وكان جمال باشا منخرطاً من كثب في هذه القضية لأنه كان يعلم أنه الهدف النهائي للمنظمة.

التوصل إلى المدعو “يوسف ليشانسكي”، وهو أحد الأعضاء المهمين في المنظمة، شكل ضربة كبيرة لها، فبعد الوصول إليه بدأت المنظمة بالتفكك، وبعد ذلك ضاقت الدائرة على المؤسس آرون أرونسون، لكن كان وضع شقيقته سارة في الإجراءات الميدانية قد أخر الضربة القاصمة للمنظمة، كون الأتراك حينها قللوا من أهمية سارة في البداية، وعندما أدركوا أهميتها شرعوا بالبحث عنها بشكل موسع حتى وصلوا إليها.

رحلة السقوط

بعد هذه الهزيمة، بدأت الشكوك تحوم حول سارة آرونسون ودورها في هذه الهزيمة، وقد اكتشف الباشا خيانتها، لكن بعد فوات الأوان. فقد خسر الحلف التركي الالماني، وتمكنت سارة من الهرب. فما كان من جمال باشا إلا أن رصد مكافأة مجزية، لمن يأتيه بسارة، في هذه الأثناء، استطاعت سارة التسلل إلى عمق التحصينات التركية، في غفلة من الباشا وجيشه. وتمكنت من الوصول إلى مخازن الذخيرة، والعتاد الحربي، ومناطق تموين الجيش التركي، وتمرير المعلومات للبريطانيين.

ثم تعرفت على الثري اللبناني يوسف عمران، واستطاعت تجنيده بدعوى أنها تعمل لصالح الألمان. فساعدها بجمع المعلومات، والتخفي عن أعين رجال جمال باشا. كما ساهمت علاقاته العميقة مع علية القوم، في جمعها معلومات عسكرية خطيرة، قامت بإرسالها عن طريق الحمام الزاجل إلى عتليت مقر شبكة “نيلي”، لكن شهر عسل يوسف عمران مع سارة آرنسون لم يستمر طويلاً، فقد تم القبض عليه أثناء مهمة تجسسية، وتم تعذيبه ومن ثم إعدامه، في فبراير من عام 1916، بعد أن علم بأن عشيقته كانت جاسوسة يهودية، تعمل لصالح الإنجليز والحركة الصهيونية. أما سارة فقد استطاعت الإفلات للمرة الثانية، وهربت متنكرة على هيئة راعي أغنام.

ورغم حياة الهرب التي عاشتها بعد ذلك، لم تتوقف عن عملها التجسسي. فقد أصبحت تحمل الرسائل بين أطراف الشبكة والاستخبارات الإنجليزية. استمرت في عملها هذا حتى سبتمبر من عام 1917. حيث وقعت حمامة زاجلة كانت تحمل رسالة إلى البريطانيين في يد العثمانيين. واستطاعوا فك شفرتها وتوصلوا إلى كشف شبكة نيلي، فتم اعتقال عدد من أعضاءها، كان من أهمهم سارة آرنسون، التي تم اعتقالها من منزلها في عتليت.

تعرضت سارة بعد اعتقالها لمختلف أنواع التعذيب البدني والنفسي، لتعترف بالمعلومات التي سربتها لكن دون جدوى.

فتقرر نقلها إلى دمشق لاستكمال التحقيق معها، إلا أنها قررت الانتحار بمسدس حصلت عليه من منزلها، عندما أخذها الجنود لتغيير ملابسها، قبل ترحيلها إلى دمشق، ولم يشأ الله أن تكون وفاتها فورية، فاستمرت في الاحتضار لمدة 4 أيام كاملة. قبل أن تسلم الروح في 9 تشرين أول من عام 1917، وهي بعمر 27 عام.

انتهت الحرب العالمية الأولى في عام 1918، فسحبت القوات التركية جيشها من سوريا، وحُل حزب الاتحاد والترقي، وتمت تصفية أحمد جمال باشا. وعام 1923 كتبت معاهدة “لوزان” التي وقعت شهادة وفاة الدولة العثمانية وشهادة ميلاد الدولة التركية الحديثة. وكان الفضل في ذلك لسارة آرونسون، التي أسقطت امبراطورية دامت 6 قرون، من فوق فراش الباشا.

لم يكن انتحار “سارة” فقط لحماية المنظمة، بل لأنها كانت تمتلك معلومات مهمة عن عملية غزة التي كان البريطانيون على وشك شنها، وبعبارة أخرى فإنها انتحرت لكي تسقط غزة.

بعد أن كُشف أمر المنظمة، أصدر أحمد جمال باشا تعليمات للجنود الأتراك تمثلت في أن القوة التي تحافظ على المنطقة الساحلية غير كافية من حيث الجودة، والمراكز التي تحرس الساحل قليلة جداً، والتدابير المتخذة لوقف أنشطة العدو لا تفي بالغرض، لذلك ستُشدد الإجراءات الأمنية على الجبهة الساحلية، وسيُكفل كل فيلق بحماية أمن منطقته، وإبلاغ قائد الجيش بالتدابير الجديدة المتخذة، مع تنفيذ “الإعدام” في حق أي مسؤول عن هذا الخطأ الكارثي، وفي حالة الضرورة فرض حظر ليلي على استخدام الطرق المؤدية إلى الشاطئ، على أن تمنع قيادة المشاة التركية من المرور عبر المنطقة الصحراوية، وبالنسبة إلى الصيادين سيتم حراسة قواربهم ليلاً من قبل المقاطعات المسؤولة.

بعد كل هذه الإجراءات وبعد انتحار “سارة” أُعدم 14 عضواً من “نيلي”، لكن معظم أعضاء المنظمة تمكن من الفرار، ومعظمهم فر إلى القاهرة. أما التقارير التي قدمتها المنظمة للبريطانيين فاستفادوا منها بشكل كبير خلال حرب غزة.

وبالنسبة لمنظمة “نيلي” فهي تعد سلف الموساد، وتمكن الأتراك حينها من القضاء عليها وتفكيكها، لكن بعد تأسيس إسرائيل كدولة بشكل رسمي أصبح الموساد أعظم قوة لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى