تقارير وملفات إضافية

ازدياد استقلال النساء وتطبيقات المواعدة والناس تخشى الذهاب وراء الشمس.. يوميات صحفية إسرائيلية بالسعودية

جلس في شوارع الرياض رجلٌ عجوزٌ مُلتحٍ تنُمُّ نبرة صوته عن شوقٍ إلى الماضي، لم يكن يعلم على الأرجح أنه يتحدث لصحفية إسرائيلية، فلقد أباح بقدر ما يختلج في صدره إزاء إصلاحات ولي العهد السعودي.

كان إبراهيم عضواً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية، التي أرهبت أيّ شخصٍ يحيد عن الشرائع الدينية طوال سنوات، حسب وصف الصحفية الإسرائيلية تمارا باراز التي قامت بجولة في المملكة وكتبت ملاحظاتها في مقال نُشر بصحيفة Haaretz الإسرائيلية.

حين سُئِلَ عن ماضيه؛ تلوّى إبراهيم في حالةٍ من عدم الارتياح (جرى استبدال اسم إبراهيم وغيره ممن أُجرِيِتَ معهم المقابلات؛ حفاظاً على سلامتهم). وازدادت الأمور سوءاً، لأنّه كان يتحدّث إلى امرأة. فهو يُفضّل عدم النظر إلى النساء، لذا ظلّت أنظاره طوال محادثتنا مُوجّهةً في اتّجاهٍ آخر. ولم يفتح قلبه حين سُئِلَ عن رأيه في فقدان الدوريات لسلطتها. إذ قال باقتضاب: “هذه أوامر الملك، وهم يطيعونها. ودوريات الأمر بالمعروف هيئةٌ تنفيذية، وليست لها أجندة. كنا مثل الجنود، نفعل ما نُؤمر به. وليس لي رأيٌ شخصي في المسألة”.

ووقف طارق بجوار إبراهيم، لكنّه لم يُشارك في الحديث؛ بل اكتفى بإطلاق ابتسامةٍ ساخرة سريعة بين الفينة والأخرى. ثم أعرب عن رأيه بعد مغادرة إبراهيم: “كانوا يتحرّشون بالناس، ويفرضون وجهات نظرهم على الجميع. لقد أخذوا شيئاً جميلاً مثل الدِّين، وخلقوا منه نسخةً مُشوّهة”.

وربما كان طارق يُفكّر في حادثة اندلاع حريق بمدرسة بنات في مكة عام 2002، حين منعت دوريات الهيئة الطالبات من مغادرة المبنى، لأنّهن لم يكُنّ مرتديات العباءات -وهي الثياب التقليدية التي تُغطّي الشعر- ورجال الإطفاء في الخارج كانوا من الرجال. وماتت يومها 15 فتاة، وأُصيبت أُخريات! 

وربما كان يشير إلى واقعة اقتحام رجال الهيئة منزل شخصٍ يُشتبه في تناوله الخمر، قبل أن يعتدوا عليه بالضرب حتى الموت. وتبدو هذه القصص، التي يعود تاريخها إلى أكثر من عقدٍ من الزمن، الآن أشبه بالتاريخ القديم.

ولا شك في أن دوريات الهيئة الآن باتت شيئاً من الماضي. إذ جرّدهم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية، من سلطاتهم عام 2016. ومنعهم من تحريك الدوريات في الشوارع، واحتجاز المارة، وطلب رؤية هوياتهم الشخصية، والتحرّش بهم. ولم يتبقَّ أمام أفراد الهيئة سوى إبلاغ الشرطة عن أي أنشطةٍ مشبوهة. وقد اختفوا عملياً الآن، ولم يعُد هناك وجودٌ للهيئة اليوم إلا على الورق.

ولم يأتِ اختفاء الدوريات من المشهد العام مُصادفةً. إذ إنّه جزءٌ من مشروعٍ أوسع نطاقاً يقوده بن سلمان تحت عنوان “رؤية السعودية 2030″؛ سعياً إلى تكوين صورةٍ ليبرالية مُنفتحة عن البلاد. إذ بات هناك تساهلٌ أكبر مع قواعد ارتداء الملابس في الشوارع، وحصلت النساء على مزيد من الحقوق، وأُلغِيَ الفصل بين الجنسين بالأماكن العامة، وفُتِحَت أبواب البلاد في وجه السُّياح الأجانب. 

وبدءاً من الشهر الماضي، بدأت إسرائيل أيضاً السماح لمواطنيها بزيارة السعودية، وليس من أجل الحجّ فقط. والقرار واضح، رغم أنّه ليس للجميع، وليس مُتاحاً للأغراض كافة (ورغم أن السلطات السعودية لم تُخفّف القيود على دخول السعوديين).

ولا شكّ في أنّ دافع ولي العهد إلى إدخال هذه التحوّلات الحادة على السياسة ليس الرغبة في تحويل البلاد إلى الديمقراطية، أو منح الشعب السعودي هذا الأمل. إذ يعتقد كثير من المُعلّقين أنّ السبب الرئيسي لهذه التغيرات المُتسارعة هو رغبة الحاكم السعودي في إعادة تأهيل بلاده وصورته. وهذا بعد أن تشوّهت صورته بشدة خلال السنوات الأخيرة، بسبب انخراط العائلة الملكية في حرب اليمن عموماً، وقضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الناقد الشرس لقيادة البلاد، خصوصاً داخل القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018، وهي الحادثة التي نسبها الغرب إلى محمد بن سلمان.

تقول الصحفية الإسرائيلية: “لقد تجلَّت بعض التغيرات العميقة التي أحدثها ولي العهد محمد خلال زيارتي للسعودية مدة شهرٍ ونصف الشهر، رغم أنّه كان من الواضح أنّ بعوضة الحرية لم تقرص الجميع بعد”. 

وتضيف قائلة: “ما يزال البعض يخشى العقاب، في حين ذكر آخرون أنّ القمع ما يزال متواصلاً في الخفاء خارج المُدن الكُبرى، وبعيداً عن رؤية السعودية 2030”.

والفارق الرئيسي بين السعودية في الماضي -أي قبل أربع سنوات- والسعودية الآن هو أنّ تصنيفات “الممنوع” و”المسموح” الواضحة حلّت محلّها كثير من التصنيفات الضبابية. ورغم أنّ كثيراً من العادات الليبرالية ليس مسموحاً بها رسمياً بعد، فإن كثيراً من أشكال الرقابة أُلغِيَت فعلياً؛ وشجّعت حالة عدم اليقين هذه على كسر القيود. 

وتقول: “هذا هو الشعور الذي انتابني حين زُرت مُتنزهاً في مدينة جدة السعودية المُطلّة على البحر الأحمر، والتي كانت معروفةً بتحرُّرها النسبي منذ وقتٍ طويل”.

هل الأمر مسموح به؟ لا. هل هو ممنوع؟ لا. إذ تقول سهيلة، من جدة: “تغيّرت قواعد ارتداء الملابس في عملي بالطريقة نفسها. لم يُعلِن أحدٌ أنّكِ تستطيعين الذهاب إلى العمل في عبايةٍ مفتوحة وبشعرٍ مكشوف. ولكن كانت هناك شائعةٌ عن تلقّي الحرس في المكتب تعليمات بعدم التعليق على ملابس النساء. فحضرت النساء الأشجع إلى العمل، بأزياء جديدة، ولم يُعلّق الحرس؛ لذا بدأت النساء في ارتداء ما يحلو لهن”.

وليست جدة استثناءً هنا. إذ يمكن العثور على مشاهد شبيهة في شوارع الرياض المُلوّنة ومقاهيها الأنيقة ومطاعمها الحديثة. ونحن لا نتحدّث هنا عن برشلونة أو ميامي: إذ لا تتجوّل النساء بأكتافٍ وسيقان مكشوفة. لكن رياح التغيير بدأت تهُب.

إلى جانب التحوّلات بالموضة، ظهر التغيُّر في عادات الصلاة أيضاً. فحتى وقتٍ ليس ببعيد، كان هناك انضباطٌ صارم في هذا المجال. 

إذ إنّ الصلاة خمس مراتٍ يومياً فرضٌ في الإسلام، ولكن يُمكن القول إنّ الأمر كان أشبه بالإلزام فعلياً في السعودية، لأنّ الجميع كانوا يُغادرون أماكن عملهم في مواقيت الصلاة؛ من أجل تأديتها في المسجد المحلي.

إذ يقول وليد: “كانت الدوريات تدعو الجميع إلى الصلاة. وإذا وجدوا شخصاً في الخارج خلال أوقات الصلاة؛ يصطحبونه إلى أقرب مسجدٍ ويُجبرونه على توقيع ورقةٍ مُرتجلة مكتوبة بخط اليد تنص على: (أنا فلان الفلاني أتعهّد بأن ألتزم الصلاة في أوقاتها، وأنا أُدرِك أن ارتكاب هذا الإثم مرةً أخرى سيُعرِّضني للاعتقال). ولم تكُن تلك التهديدات فارغةً، إذ كانوا يُرسِلون الناس إلى السجن فعلياً”.

وانطبق التوجيه على أصحاب الأعمال أيضاً، والذين كانوا يُغلقون متاجرهم بمجرد سماع الأذان. 

وفي الشتاء، حين كان الوقت بين بعض الصلوات لا يتجاوز ساعة أحياناً، كان هناك شعورٌ بأن الناس يُمضون أوقاتهم في انتظار أن تفتح الأعمال التجارية أبوابها. وخلال أوقات الصلاة في بعض الحالات، تصير الشوارع المُزدحمة الصاخبة مهجورة، وهذا ما يزال أمراً واقعاً. لكن الأمر لم يعُد شائعاً كما كان.

وفي العام الماضي، حين توصّل السعوديون إلى استنتاجٍ مفاده أنّ إغلاق الأعمال التجارية بالإكراه ثلاث مراتٍ يومياً على الأقل تسبّب في خسائر سنوية تصل إلى مليارات الريالات السعودية؛ أعلن ولي العهد أن المتاجر تستطيع البقاء مفتوحةً 24 ساعة يومياً. 

وبات زُوّار مول العرب في جدة -أحد مراكز التسوّق التي جرى افتتاحها خلال الأعوام القليلة الماضية- يعلمون أنّه بمجرد سماع المؤذّن؛ يُمكنهم التوجّه للصلاة أو الصعود إلى الطابق العلوي، حيث يُواصل مطعم بيتزا تقديم وجباته بالقرب من السينما.

وفي حالات بعينها، يتوافق ازدهار مراكز التسوّق السعودية مع العمليات الأخرى التي تمُرُّ بها المملكة. 

وعلى النقيض، في الوقت الذي يهجر فيه الغربيون مراكز التسوّق لصالح التسوّق عبر الإنترنت، تحظى مراكز التسوّق السعودية بإقبالٍ شديد. إذ باتت تتمتّع الآن بدُور عرضٍ سينمائي (كانت محظورةً في الماضي)، ومرافق أخرى للترفيه والمُتعة -بدءاً من صالات البولينغ وحتى حلبات التزلّج على الجليد- تراجع اهتمام العالم بها منذ التسعينيات. ولا شكّ في أنّ مركز التسوّق هي الخلفية المثالية في بلدٍ سُمِحَ فيه للرجال والنساء مؤخراً فقط بالظهور معاً في العلن.

وليست مراكز التسوّق المكان الوحيد الذي لم يعُد الناس يكترثون داخله بجنس من يجلسون معاً: إذ بدأت تتطوّر ثقافةٌ جديدة من السفر في مجموعاتٍ مُختلطة داخل البلاد. وتُعرف السعودية بمناظرها الطبيعية مثل: الكثبان الرملية الحمراء، والامتدادات الصحراوية اللانهائية، والسواحل الخلّابة، والمنحدرات الحمراء والأرجوانية بين الوديان الخضراء، والواحات المليئة بنخيل الدوم. ولكن حتى وقتٍ قريب، لم تكُن النساء يحلُمن حتى بالذهاب إلى تلك الأماكن، في حال أردن الذهاب دون مُرافقٍ ذكَرٍ على الأقل. 

وستظل أيّ خيالات حول لقاء شريك حياتهن هناك مُجرّد خيالات. وهذا يُفسّر كذلك فورة الحماسة الحالية، التي كانت ملموسةً للغاية خلال الرحلة المسائية التي شاركت فيها. إذ كُنت واحدةً من قرابة 200 شخص -عائلات وعُزّاب وعازبات- شاركوا في رحلة السير على الأقدام.

وبعد اجتياز الوادي، وصلنا إلى موقعٍ كان يمثل النقطة المُضيئة بالحدث، حيث شارك الحضور في غناءٍ جماعي على أنغام العود والدربوكة (وهي آلاتٌ ما يزال عزفها ممنوعاً في العلن، ويُحجِم الناس عن استخدامها في شوارع المدينة عادةً). وانسجم بعض الحاضرين لدرجة أنّهم شرعوا في الرقص على الطريقة الشرقية.

وقال جواد، الذي كان يجلس مع أصدقائه مُحاطين بالشيشة (النرجيلة) والغيتارات: “لم يكُن هذا يحدُث قبل عامين. إذ كان علينا في الماضي أن نعثر على أماكن خفية في الصحراء، وإرسال الدعوات شفهياً إلى الأصدقاء الموثوقين. 

كان الأمر سرياً تماماً، لأنّ دوريات الهيئة كانت تُطاردنا دائماً وسط الكثبان الرملية في جنح الليل. وتستطيع الشرطة فعل ذلك اليوم، ولكنهم لا يرغبون في ذلك، لأنّهم منشغلون بأشياء أكثر أهمية. ويُفضّل الناس غض الطرف عنهم”.

تقع مدينة نجران الحدودية بالقرب من الحدود مع اليمن، وهي معقلٌ للسعوديين المُحافظين.

تقول الصحفية الإسرائيلية “نصحتني مُسافرةٌ، بمجرد وصولنا إلى المدينة قائلةً: (هنا يجب أن تُغطّي شعرك. فالأمور مُختلفةٌ هنا)”.

وبالطبع ترتدي غالبية النساء هنا النقاب، ويُغطّين وجوههن. إذ يقول جعفر، المُواطن المحلي: “رغم أن دوريات الهيئة فقدت سلطتها، ما يزال هناك مُتطوعون يُلقون تعليقاتهم ويُضايقونكِ بين الفينة والأخرى”. ولكن رغم غيابهم، فإن نجران ليست في عجلةٍ من أجل التغيير.

وأردف جعفر: “اصطحاب امرأةٍ ليست من عائلتك داخل سيارتك سيُسبّب لك المشكلات. لقد حافظنا على العادات القديمة؛ من أجل أسبابٍ ثقافية في الأساس، لأنّ كلام الجيران لن يكون لطيفاً، واحتراماً للمكان، وليس خوفاً من محظورات القانون”.

وقالت نور، وهي في الثلاثينيات من عُمرها: “يتمتّع الوضع الجديد بكثير من المزايا. فبوجود كل هذه القوانين الجديدة، بات الرجال يخشون مُضايقة النساء أو تعنيفهن، أو حتى استخدام بوق السيارة في مواجهة سائقةٍ كسرت قوانين القيادة. وأعتقد أنّنا سنفقد تلك المزايا في غضون بضع سنوات، حين يعتاد الجميع المساواة. وحينها سيقطع الرجال علينا الطريق في أثناء القيادة”.

قبل وقتٍ ليس ببعيد، كان من المُعتاد أن يتحرّش الرجال بالنساء في الشارع. إذ تقول لطيفة: “كان الأمر أشبه بالكابوس”. وتحدثت عن واقعةٍ ارتدى خلالها ممثلٌ كوميدي ثياب امرأةٍ بعباءةٍ وحجاب، وصوّر ما حدث له في الشارع: “كان عدد المرات التي تعرّض خلالها للتحرّش جنونياً!”.

وكان من المفترض بدوريات الهيئة أن تمنع حدوث ذلك، لكن عديداً من الناس يقولون إنّها أدّت إلى تفاقم الأوضاع. لكن إبراهيم، عضو الهيئة السابق، قال مادحاً “الهيئة”: “يقول الناس إنّنا نُحاكم النساء فقط ونُركّز على ملابسهن، ولكنّ ذلك ليس حقيقياً. إذ ساعدنا عدداً كبيراً من النساء اللواتي صوَّرهن الرجال سراً، ثم حاولوا ابتزازهن بالتهديد بنشر صورهن. يُقال إنّنا نضرب النساء بالعصي.. لم يسبق أن ضربت أحداً، ولم يفعل زملائي ذلك أيضاً. لم نرفع أيدينا على أحد، فهذا ممنوع”.

وأقر إبراهيم رغم ذلك بأن الجميع لم يلتزموا السلوك نفسه، وقال عن أولئك الذين تجاوزوا حدود سلطاتهم: “كان هناك بعض المُغرّدين خارج السرب، ولكن كل مُنظمةٍ تضُمُّ هذا النوع من الأعضاء. كُنا نُشرف على الملابس؛ من أجل حماية النساء في الشارع، وهو مكانٌ ليس لطيفاً على الإطلاق”.

ولا جدال في أن الشارع كان مكاناً كريهاً بالنسبة للمرأة السعودية. أما اليوم، فيبدو أن السائحة الأجنبية تستطيع التجوّل بزيٍّ غربيٍّ كامل دون أن يُعلّق أحدٌ على ملابسها. 

ويأتي هذا التغيير على خلفية قانونٍ جديد يفرض غرامةً بقيمة 300 ألف ريال (80 ألف دولار) على التحرش الجنسي. ويجري تطبيق القانون، كما يعلم من تجرّأوا على تحديه حتى الآن.

وجاء التذكير العلني بهذا الأمر في ديسمبر/كانون الأول الماضي، خلال مهرجان مدل بيست الموسيقي في الرياض، وهو واحدٌ من سلسلة الفعاليات التي استهدفت جذب السياح الأجانب ونجحت في ذلك، رغم عدم السماح بالكحول فإنه ما يزال محظوراً في المملكة. 

ورغم ذلك، لن يتذكّر الناس من أحداث تلك الفعالية أداء ديفيد غيتا أو تييستو؛ بل سيتذكرون القبض على 200 من الحضور. إذ جرى القبض على كثيرين بتُهم التحرش الجنسي، في حين قُبض على آخرين بتهمة تبدو كأنها تعود إلى عصر ما قبل الإصلاح في البلاد: “زيٌّ غير لائق!”. وبطبيعة الحال، جادل البعض بأن القانون القائم حول المسموح والممنوع فيما يتعلق بالملابس ليس واضحاً تماماً.

لكن البعض أوضحوا أن “المقبوض عليهم كان يجب أن يتذكروا أنهم ما يزالون في السعودية” بكل احترام. والأهم هو أن يفعلوا ذلك إذا كانوا من السكان المحليين، إذ أظهرت صورة شهيرةٌ امرأةً سعوديةً شابة بوجهٍ مكشوف وترتدي كنزةً شفافة في أثناء اصطحاب رجال الشرطة لها إلى المخفر.

وبالنسبة للسعوديين، تضمّن المهرجان الكثير من التناقضات الناجمة عن التغيّرات السريعة في البلاد. إذ قال صلاح من جدة: “كُنّا في الحفل، وأُصيب الكثيرون بالهلع. فهناك الكثير من المُحرمات، ثم فجأةً صار كل شيءٍ مسموحاً بين ليلةٍ وضحاها -لدرجة إقامة حفلٍ كبير في المساء. وأنا قلقٌ من أنّ التغيير يحدث أسرع من اللازم. ولا يمتلك الناس أدوات التكيّف معه”. وذكّر المهرجان صلاح بالقصص حول الانهيار في دبي: “كُنت أشاهد أصدقائي يُسافرون إلى هناك ويستكشفون الحرية، ويشربون الكثير من الخمر، ويتشاجرون من أجل النساء في النوادي الليلية، ويتعاركون. وأخشى أن يصل هذا الجنون إلينا هنا أيضاً. وأخشى على بناتي حين يبلغن سن المراهقة”.

يبدو أنّ الجيل الشاب في المُدن الكُبرى بدأ يتكيّف سريعاً مع العصر الجديد. إذ تقول فاطمة، وهي مُدرسة: “شهدت تغيرات هائلة في غضون سنوات قليلة. حين بدأت التدريس، لم تكُن الفتيات يزرن صديقاتهن في المنزل بسبب وجود رجالٍ في العائلة. واليوم تخرج الفتيات للمواعدة عن طريق التطبيقات، وبعلم الأهل”.

ووصل تطبيق Tinder إلى السعودية ليفتح عالماً جديداً أمام العزاب، حتى بوجود أذيال العالم القديم في الخلفية. إذ تقول أسما من جدة: “لا تزال المحكمة قادرةً على إجبار الرجل أن يتزوّج امرأةً أفقدها عذريتها. لكنّ ذلك لا يُثني أصدقائي عن اللجوء إلى Tinder”.

ولا يكمُن الاختلاف في أنّ الناس يبتكرون طرقاً للمواعدة، بل في حقيقة أنّهم يتواعدون من الأساس. إذ قال راشد: “يجب أن تفهمي كيف كانت الأمور تسير هنا حتى وقتٍ قريب. بكل بساطة: لم تكُن هناك مواعدة. أنا من بلدةٍ صغيرة حيث يتكفّل الأهل بالتوفيق بين العزاب. وبعدها يأتي الرجل إلى منزل العروس، حيث تُقدَّم له شقيقتها الصغرى التي تبلغ من العمر خمسة أعوام، ثم يقولون له: العروس تُشبهها تماماً، لكنّها أكبر سناً”.

وفي العائلات الأكثر تحرّراً، يقول راشد إنّ العروس المستقبلية قد يُسمح لها بفرصة لقاء العريس المستقبلي المُحتمل. إذ تحمل صينية القهوة وتدخل غرفة المعيشة “حيث يجلس العريس المستقبلي مع والديه. وتعرض نفسها أثناء تقديم القهوة، ثم تعود إلى المطبخ. وربما تسنح لها الفرصة بالحديث إلى العريس المُحتمل في الغرفة المجاورة بمفردهما. وهناك بعض العائلات التي تسمح بتبادل الرسائل والحديث عبر الهاتف. لكن البعض كانوا يُصرون على الخروج في موعدٍ حقيقي بمبادرةٍ شخصيةٍ منهم، وهي مخاطرةٌ يتحمّلون عواقبها”.

وكان راشد واحداً من المُخاطرين. إذ قال: “أعطيت جواز سفر شقيقتي للفتاة التي أُواعدها، والتي كانت ترتدي العباية وغطاء الوجه بالطبع. وتستطيع دوريات الهيئة توقيف السيارات في نقاط التفتيش لتتأكّد من صلة القرابة بين السائق ومرافقته الأنثى. وفي هذه المرحلة، يجب أن تبدو المرأة هادئةً وواثقةً في نفسها، لأنّ دورية الهيئة تمتلك سلطة أن تطلب منها رفع غطاء وجهها للتأكّد من توافق صورة جواز السفر مع وجهها”.

والحقيقة أنّ هذه التطوّرات، والاحتمالات الجديدة التي أثارتها، هزّت عالم الزواج أيضاً. إذ تمُر المملكة حالياً بموجة طلاقٍ غير مسبوقة، وهو الموضوع الذي تتعاطى وسائل الإعلام المحلية معه بجدية. ولا تتوافر بياناتٌ دقيقة، لكن التقديرات تُشير إلى أنّ مُعدّل الطلاق ارتفع بمُعدّلٍ يتجاوز الـ10%.

 ووجدت دراسةٌ نشرتها جمعية التنمية الأسرية بالسعودية، في أبريل/نيسان عام 2019، أنّ نسبة طلبات الطلاق قبل إتمام الزواج حتى، وصلت إلى 45%. 

وبحسب مستشارٍ لشؤون الأسرة، أجرى مقابلةً مع صحيفةٍ محلية: “ارتفع مُعدّل الطلاق لأنّ نساء هذه الأيام غير عفيفات اللسان، ويدخلن المنزل ويخرجن منه كما يحلو لهن، ويقضين الكثير من الوقت على الهاتف المحمول، ويتجاهلن المنزل والزوج والالتزامات الأسرية، فضلاً عن تدخّل الأقارب في حياة الزوجين الشخصية”.

ولم يأت تبنّي العادات الغربية دون مُعارضةٍ كما يبدو.

إذ أكّد البعض أنّ الزيادة في معدّلات الطلاق ليست بالضرورة انعكاساً لتمكين النساء، لأن نسبة كبيرة من طلبات الطلاق تأتي من الرجال. 

وأشار عاصم، المُطلّق، إلى أنّه “رغم كون الرجل هو رب الأسرة، لكنّه يجب أن يتشاور مع زوجته ويُظهر اعتباراً لرأيها. ولكن هناك العديد من الرجال “الحمقى” الذين لم يُدركوا ذلك. ويتصرّفون مثل الحكام الديكتاتوريين، لأنّ القانون يسمح لهم بذلك. ثم يتعرّض المُجتمع فجأةً لتغييرٍ هائل -وفجأةً صارت النساء قادرات على العمل والقيادة والحصول على جواز السفر، ثم تُلغى قوانين الطلاق- ولا يستوعب الزوج الوضع الجديد بسهولة. فهل من المُفاجئ حصول العديدين على الطلاق؟”.

وخير مثالٍ على الروح الديكتاتورية التي ذكرها عاصم هي حقيقة أنّه في السابق، كان الزوج يستطيع الحصول على الطلاق دون إعلام زوجته حتى. ولكن اعتباراً من الشهر الماضي، ألزمت المحكمة الرجل بإرسال رسالةٍ نصية إلى الزوجة حول نيته. ولكنّ هذا ليس التغيير الوحيد في هذا الصدد.

 فرغم أنّ غالبية طلبات الطلاق يتقدّم بها الزوج، لكن الزوجة تستطيع أخذ شريكها إلى المحكمة والحصول على مساعدةٍ مالية علناً لتغطية تكاليف التقاضي. 

ومن المفيد أيضاً أنّ المحكمة باتت تمنع الزوج من التغيُّب عن حضور الجلسات، وهي الوسيلة التي كانت تُتبّع في الماضي لتأخير الطلاق. ويبدو أنّ أثار هذه التغييرات تأخذ مجراها تدريجياً.

ولا شكّ أنّ السنوات القليلة الماضية شهدت ارتفاع نسب النساء العاملات. فبحسب آخر الإحصائيات، تُشارك نسبة 23% من النساء السعوديات في القوى العاملة. 

إذ تقول ريما: “في الماضي، كانت النساء اللاتي يدخلن الجامعة يتزوجن ويصرن ربات بيوت بمجرد الحصول على شهادة التخرّج”. 

ولكن الآن، تذهب النساء السعوديات إلى العمل بشكلٍ مُتزايد وفي مجالات كانت تُعتبر “بعيدةً عن متناولهن” في السابق. 

وأضافت ريما: “كان هناك وقتٌ في الماضي يستحيل أن ترى خلاله امرأةً سعودية تعمل نادلة. لأنّ وظيفةً من هذا النوع في مكانٍ عام، وبوجود زبائن من الرجال، كانت إشكالية”.

وفي الوقت الحالي، بات المشهد شائعاً في المدن الكُبرى على الأقل. وأردفت ريما: “أعتقد أنّه من الجيد أن تعمل النساء، ويشعرن بالاستقلالية، وأن يدركن معنى جني المال وكيفية إدارته. وحتى وقتٍ قريب، كانت النساء إمّا خادمات أو أميرات بتمويلٍ من أزواجهن. ولم تكُن هناك مساحةٌ في المنتصف”.

وأثّرت الاتجاهات الجديدة على المُتزوجين منذ أيام السعودية القديمة. إذ قالت وئام، وهي في الثلاثينات من عمرها: “هناك العديد من الزوجات اللاتي قضين سنوات طويلة داخل المنزل، وكان الزوج أو الأب يتكفّل بإعالتهن، وفجأةًً بدأت كل النساء في الحصول على وظائف من حولهن. وهُنّ يُرِدن ذلك أيضاً. لقد ظهر اقتصاد وظائف في البلاد. فهناك امرأة تخبز الكعك وتبيعه، وأخريات ينظّمن الحفلات في منازلهن مُقابل رسوم دخول، في حين تصنع البعض منحوتات طينية وتبيعها عبر Instagram. لا أعتقد أنّ الأرباح ستكفي احتياجاتهن الأساسية، لكنّهن يستطعن الآن إخبار صديقاتهن أنّهن نساءٌ عاملات”.

تصدّرت عناوين الأخبار -المحلية والعالمية- مؤخراً حالة الاستقلال النسبي التي باتت تتمتّع بها النساء السعوديات اليوم. وخير مثالٍ على ذلك كان القرار بإبطال قوانين وصاية الرجل في البلاد. وللمرة الأولى في تاريخ السعودية، باتت المرأة تستطيع الحصول على جواز سفر ومغادرة البلاد دون الحاجة إلى الحصول على إذنٍ من زوجها أو والدها (رغم أنّ الأخير لا يزال يستطيع التقدُّم بالتماسٍ إلى المحكمة لمنعها من السفر خارج البلاد). وجرى تخفيف هذا القيد لاحقاً كذلك، حتى تستطيع النساء اصطحاب أطفالهن معهن في تلك الرحلات. فضلاً عن إلغاء حظر قيادة النساء.

وقال أحمد من الرياض: “الحقيقة هي أنّ ذلك يُوفّر الكثير من الوقت والتعب. قبل التغيير كُنت أهدِر الكثير من الوقت في اصطحاب شقيقاتي ووالدي وزوجتي إلى العمل، وأواصل القيادة خلال أوقات الذروة عادةً”.

ويُوفّر ذلك المال أيضاً بقدر توفير الوقت. ففي دولةٍ ليست بها وسائل مواصلاتٍ عامة تقريباً؛ كانت المرأة العاملة تُنفِق 1500 ريال (400 دولار) على سيارات الأجرة شهرياً على الأقل. وفي الواقع، تُعَدُّ سيارات الأجرة إشكاليةً في حدّ ذاتها. فحتى عام 2016، لم يكُن يُسمح للمرأة بركوب سيارة أجرة بمفردها مع سائقٍ سعودي ليس من أقاربها. ونتيجةً لذلك، كانت السعودية تفتح أبوابها أمام سائقي الأجرة من دولٍ مثل بنغلاديش وباكستان، وهذا على الأرجح لأنّهم لا يُعتبرون مصدراً للإشكالية لسببٍ ما. ثُم أُلغِيَ هذا الحظر، وبدأت شركاتٌ مثل Uber وCareem في توظيف السائقين المحليين. واليوم، صار السائقون السعوديون يُمثّلون الأغلبية.

وعلى غرار كل شيءٍ آخر كان يحدث في السعودية خلال السنوات الأخيرة، فإنّ إصلاح نظام سيارات الأجرة هو مجرّد جزءٍ صغيرٍ من اتّجاهٍ أكبر -يُسمى مبدأ “السعودة”، وهو عبارةٌ عن خطةٍ لإدخال المزيد من السعوديين إلى القوى العاملة وتحرير البلاد أيضاً من اعتمادها على النفط. 

وبموجب هذه العملية سُلِب الكثير من الأجانب من وظائفهم، لتُمنَح إلى مواطنين سعوديين. ونتيجةً لذلك، يُصادف الزائر في العديد من الفنادق موظّف استقبالٍ سعودي لا يستطيع التحدُّث بالإنكليزية. فيستدعي الموظّف عادةً عضواً هندياً في طاقم الفندق، كان موظف استقبالٍ في السابق قبل تقليص مهام وظيفته والاقتطاع من أجره. وعملياً، يظل الهندي هو من يُدير شؤون الفندق في واقع الأمر.

ولا يكفي أنّ العامل الأجنبي بات يتقاضى أجراً أقل، بل بدأ يدفع رسوماً أكبر كذلك: إذ يفرض قانونٌ جديد ضريبةً بقيمة 300 ريالٍ (79 دولاراً) شهرياً على كل أجنبي يعيش في البلاد. أيّ أنّ عائلةً من والدين وثلاثة أطفال ستضطر لدفع 1500 ريالٍ شهرياً (400 دولار). وفي حال لم يكُن الأجنبي يمتلك كفيلاً أو صاحب عمل، تصير الضريبة أكبر، إذ تصل إلى 100 ألف ريال (أي قرابة الـ27 ألف دولار).

وتقول سحر، التي وُلِدَ أبواها في الخارج: “لا تستطيع عائلتي دفع تلك المبالغ. كما هو الحال مع غالبية العمالة الأجنبية، كانت أجور والدَي أقل من أن يستطيعا تحمُّل تكلفة البقاء هنا، لذا غادرا البلاد. وفي الوقت ذاته أعيش أنا هنا بمفردي، وأذهب للعمل، وأدفع ضريبتي الشهرية، وأُحاول الحصول على تأشيرة إقامة في بلدٍ آخر”.

ويحوي القانون السعودي تعريفاً مطاطاً للغاية لوصف الأجنبي، يمتد حتى الجيل الرابع من المُهاجرين. إذ إنّ اعتبار الشخص مواطناً سعودياً كامل الحقوق يستوجب حصوله هو أو عائلته على الجنسية إبان تأسيس الدولة في الثلاثينيات. أما العائلات التي وصلت إلى البلاد بعد تلك الفترة وحتى السبعينيات، فيحق لها التقدّم بطلب الحصول على الجنسية إن أرادت (بعد دفع مبالغ ضخمة من المال أحياناً)، ولكن جرى تشديد القوانين منذ ذلك الحين. 

وفي الوقت الحالي، لا يستطيع الشخص المولود في البلاد أن يحصل على الجنسية، حتى وإن كان مولوداً لأُمٍ سعودية وأبٍ أجنبي. ويخضع للموقف نفسه قرابة الـ70 ألف من أبناء العائلات البدوية، التي لم تُكلّف نفسها عناء الحصول على الوثائق اللازمة. ومن بين سكان السعودية البالغ عددهم 33 مليون نسمة، نجد أنّ ثلثهم تقريباً لا يحملون الجنسية.

لكن المعاملة التي يتعرّض لها الأجانب والصعوبات التي يُواجهونها لا تتصدّر عناوين الأخبار الآتية من السعودية في هذه الأيام. وليست هذه الموضوع الوحيدة التي لا يُسلّط عليها الضوء، ولا يجري نقاشها في سياق “الربيع السعودي”. 

فضلاً عن أنّ موقف السلطات من الحقوق الفردية وحرية التعبير والصحفيين هي أمورٌ لا مجال للكتابة عنها في السعودية، بحسب منظمات حقوق الإنسان. وتُشير تلك المنظمات إلى مراقبة السلطات للرسائل التي ينشرها السعوديون على الشبكات الاجتماعية بأنّها تجسُّس -وصل إلى الاغتيال في حالة جمال خاشقجي مثلاً. وعادةً ينتهي المطاف بالصُحفيين المحليين غير المعروفين خلف القضبان. وبدءاً من أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، كان هناك قرابة الـ30 منهم على الأقل، وغالبيتهم لم تُوجّه لهم تهمٌ رسمية. وارتفع العدد منذ ذلك الحين بالتأكيد. والصحفيون هم مجرد واجهة، إذ تمتلئ السجون السعودية بآلاف السجناء السياسيين: والكثير منهم رجال دين مُتّهمون بـ “تهديد حالة التوافق في البلاد”، وبعضهم مُجرّد أشخاصٍ زُجّ بهم في السجون بتهم مُلفّقة، وأخريات هم مُجرّد ناشطات نسويات دافعن عن حقوق المرأة.

وواحدةٌ من تلك الناشطات هي لجين الهذلول. إذ كانت لجين واحدةً من المجموعة التي تظاهرت ضد حظر قيادة النساء في عام 2018، قبل وقتٍ قصير من إلغاء الحظر، وأُلقِيَ القبض عليها أثناء القيادة على خلفية الحركة الاحتجاجية وخضعت للمحاكمة وأُرسِلَت إلى السجن بسبب انتهاكها الظاهر لمرسومٍ ملكي يتعلّق بالمُعارضة. ورغم تعديل القانون لاحقاً، لكنّها لا تزال في السجن مع أخريات. 

وكتبت صحيفة The Guardian البريطانية في افتتاحيتها أغسطس/آب الماضي: “ليس من المُفاجئ أنّ الناشطات النسويات تعرضن للاعتقال قبل وقتٍ قصير من إلغاء حظر القيادة. إذ أرسل احتجازهن -والتعذيب الذي يُعتقد أنّ بعضهن تعرضن له عقب القبض عليهن- رسالةً واضحة لنساء ورجال السعودية: لا تحق لكم المُطالبة بالحريات على أنّها حقوق، بل تحصلون عليها شاكرين حين يُقرّر المسؤولون منحكم إياها”.

ووصلت الرسالة بوضوحٍ وقوة. إذ تخشى المنظمات غير الربحية والمؤسسات الأخرى -والمتحدثون باسمها- إجراء المقابلات، وخاصةً مع الصُحفيين الأجانب.

إذ أخبرتني إحدى المنظمات غير الربحية: “لا يستطيع فرعنا التحدّث إلى وسائل الإعلام الأجنبية”. في حين أجابتني أخرى: “يُسعدني إجراء مقابلة بمجرد حصولكِ على تصريحٍ من وزارة الاتصالات”.

ولا يبدو أنّ الغالبية العُظمى من الناس فوجِئوا بحذر النشطاء. إذ قال لي سائق الأجرة، مع الإشارة إلى الهيكل الضخم المرئي على الطريق السريع المُؤدّي إلى جدة: “الأشخاص من هذا النوع يُسجنون في هذا السجن. نصف طوابقه تحت الأرض، ولا يرى السُجناء نور الشمس أبداً. وهناك تعبيرٌ يُستخدم مع الأشخاص الذين يتحدّثون بحريةٍ أكبر من المسموح: هل تُريد الذهاب خلف الشمس؟ وخلف الشمس هو السجن الذي تنظرين إليه الآن”.

ورغم ذلك، هناك تهديداتٌ أسوأ من السجن في الظلام. وحتى في الوقت الذي تخلّصت خلاله السعودية من ماضيها على عدّة مستويات، نجد أنّ القانون الجنائي لا يزال قائماً وفقاً لأحكام الشريعة. وبالتالي، لا تزال عقوبة الإعدام تُطبّق بالرجم والشنق وقطع الرأس. وليست هناك ندرة في هذه العقوبات. فبحسب وكالة الأنباء الحكومية، جرى إعدام 141 شخصاً في عام 2017 فقط، ومن بينهم 59 بسبب تهم مُتعلّقة بالمخدرات. 

وذكر تقرير مُنظّمة العفو الدولية أنّ العديد من المحكوم عليهم بالإعدام لم يخضعوا لمحاكمةٍ عادلة بالمعايير الدولية، وفي بعض الحالات كانت الإدانة تأتي عن طريق اعترافات مُنتزعة تحت التعذيب.

ووعد ولي العهد بخفض أعداد عمليات الإعدام، لكن إحصائيات العام الماضي تروي قصةً أخرى. 

ففي عام 2019، حُكِم على 134 شخصاً بالإعدام، و37 أُدينوا بالتورّط في الإرهاب، وبعضهم تعرّضوا للمحاكمة بعد تعذيبهم. وبنهاية المطاف، انتهى العام بإعدام الـ134 شخصاً، وفقاً لتقرير صحيفة The Sun البريطانية.

وقال يوسف عن إحدى المناطق التي تشتهر بنشاط تجار المخدرات داخلها، والذين يُعاقبون بشدة عند القبض عليهم: “كل أسبوع تقريباً، بعد الصلاة في المسجد، يُدعى الجميع إلى مشاهدة عمليات الإعدام بقطع الرأس في ساحة المدينة.

 ويأتي الناس بدافع الفضول. إذ كان هناك قرابة الـ200 شخص في آخر مرة”. والإشارة هنا إلى بلدةٍ غير معروفة للكثيرين خارج السعودية، ناهيك عن ما يحدث داخلها.

وقال كريم: “لن تُشاهدي شنقاً أو قطع رأس في ساحة المدينة بجدة أو الرياض. ولي العهد يُطارد الإرهابيين الآن، وليس من الجيد إظهار هذا الجانب”.

وتُروى القصة نفسها عن الساحة المُجاورة لقصر المصمك في الرياض. فحتى وقتٍ قريب، كانت مركزاً لعمليات الإعدام، وتُعرف باسم “ميدان العدل” -أو “ميدان القطع” في روايات أخرى. واليوم، باتت مركزاً لموسم مهرجانات العاصمة السعودية، تحت عنوان “نبض الرياض”. 

وفي الحدث الأخير الذي استمر لشهرٍ كامل أواخر العام الماضي، تجوّل الرجال مع النساء بين الأكشاك العديدة إبان عزف الفرق الغنائية الغربية لأنغامها الموسيقية على خشبة المسرح.

نبض الرياض سريع، وكذا هو الحال مع التغيرات التي تتعرّض لها البلاد. فهل سينجح الربيع السعودي -الآتي من القيادة العليا- في تحقيق ما فشل فيه الربيع العربي؟

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى