تقارير وملفات إضافية

هل تراجَع التأييد الشعبي لحزب الله؟ الأمر قد يكون أبعد من ذلك، فثورة اللبنانيين قد تقسمه من الداخل

حارب أبوحسين ضد إسرائيل منذ التسعينيات، وقتل العديد من المُقاتلين في الحرب السورية، لكن تزايد صعوبات حياة الطبقة العاملة في لبنان والثورة الشعبية ضد قادة البلاد أجبراه على إعادة تقييم خدمته المُستمرة لحزب الله منذ عقود.

وصُنِّف «حزب الله» تنظيماً إرهابياً من قِبل الولايات المتحدة منذ الثمانينيات. ويُعتبر أكثر قوةً من الجيش اللبناني، ويحظى بحق الاعتراض السياسي على سياسات الدولة، إلى جانب دعمه من قِبَل إيران. وجعل البيت الأبيض في عهد ترامب من حزب الله هدفاً رئيسياً لحملة «الضغط المُكثَّف» ضد إيران، والتي تسعى إلى الضغط على الجمهورية الإسلامية اقتصادياً حتى تُوقِّع اتفاقاً جديداً حسب هوى ترامب -يُنهي دعم إيران لميليشياتٍ مثل حزب الله، ولا يُغطي القضية النووية فقط. واستهدفت العقوبات أعضاء الحزب في البرلمان اللبناني، وبنكاً لبنانياً متهماً بالتورُّط في إدارة حساباتٍ تابعةٍ لحزب الله.

لكن الجهود الأمريكية زادت من الضغوط المفروضة على أزمة لبنان الاقتصادية، علاوةً على امتلاك إيران للعديد من سُبل الرد.

إذ قالت راغدة درغام، مؤسسة مركز Beirut Institute للأبحاث لموقع The Daily Beast الأمريكي: «ترى إيران في لبنان مسرحاً مهماً في نزاعها مع واشنطن، ولن تُضحي بفرس رهانها «حزب الله» مهما كان الثمن». ويُمكن أن تكون تكلفة جهود سحق الانتفاضة هائلةً على البلاد، ولا يرغب بعض مُقاتلي حزب الله أن يكونوا جزءاً من ذلك.

وأشارت الصحيفة، في تقريرها، إلى أنها التقت أبوحسين (ويستخدم أبوحسين اسماً مستعاراً لأنّ مُقاتلي حزب الله ممنوعون من الحديث إلى وسائل الإعلام، خاصة الغربية) عدة مراتٍ على مدار الأعوام الأربعة الماضية،  موضحة أن أبوحسين كان يدين بالولاء التام والالتزام الأيديولوجي الكامل تُجاه الحزب حين يعود في كل مرة، بغض النظر عن مدى شراسة القتال في سوريا.

ويشعر الآن بالإحباط من تعامل حزب الله مع احتجاجات الحشود الشعبية التي فاض بها الكيل من الفساد والتقشُّف وارتفاع تكاليف المعيشة. وبعد سنواتٍ من القتال خارج البلاد بوصفه قائداً لإحدى وحدات التدخُّل السريع، التي يُقدَّر عدد أفرادها بـ200 مُقاتل؛ دفعت به القضايا المحلية -وليس الإقليمية- إلى التخلِّي عن الحركة.

وبنى حزب الله قوته وشعبيته أول الأمر بفضل القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. وقال الضابط الذي تبدَّل قلبه: «هل أنا عضوٌ في حزب الله ضد الإسرائيليين؟ نعم. هل أن عضواً في حزب الله ضد الشعب في الشوارع؟ لا!».

وقبل شهرين فقط، كان أبوحسين جزءاً من القوات التي أُعيدت من سوريا، بالتزامن مع وقوف إسرائيل ولبنان على شفير الحرب بعد تبادلٍ لإطلاق النار على الحدود، وكان يقود الدوريات ومهام الاستطلاع على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل.

ولكن في الشهر الماضي، خرج أبناء الطبقة المتوسطة والعاملة من الشعب في كافة أنحاء لبنان إلى الشوارع اعتراضاً على الطبقة السياسية الحاكمة، التي لا تزال قائمةً في البلاد منذ الحرب الأهلية التي اندلعت بين عامَي 1975 و1990، والتي تُثري نفسها بالتزامن مع انهيار اقتصاد البلاد.

وبدلاً من إلقاء اللوم على الانقسام الطائفي الراسخ في المنظومة السياسية المذهبية بلبنان؛ اجتمع المسيحيون والدروز والشيعة والسنة على إدانة فشل قادتهم هذه المرة. وهنا تغيَّر شيءٌ في قلب أبوحسين. إذ يقول إنَّه يرفض العودة إلى سوريا الآن، ولم يخرج في دوريةٍ بالجنوب منذ اندلاع الاحتجاجات، ولن يقبل التعبئة في بيروت.

وقال عن الاحتجاجات التي تُطالب بإنهاء المنظومة الطائفية التي يعتمد عليها حزب الله لزيادة سلطته: «مطالب المتظاهرين شرعيةٌ 100%، ولا يمتلكون خياراً آخر لتلبية مطالبهم». وأكَّد أنَّ أعداداً متزايدةً من رفاقه في حزب الله يدعمون التظاهرات وقطع الطرق حيث يُغنِّي الناس «كلن يعني كلن».

وجاءت الاحتجاجات لتوبيخ كافة القادة السياسيين بالبلاد: بدءاً من رئيس الوزراء السني سعد الحريري، والرئيس المسيحي الماروني ميشال عون، ورئيس البرلمان الشيعي نبيه برِّي، والزعيم الدرزي النافذ وليد جنبلاط، وزعيم حزب الله حسن نصرالله.

وقال أبوحسين، في حديثه عن الحركة التي ركّزت على توسيع نفوذها العسكري إقليمياً بالتزامن مع تحمُّل الطبقة العاملة الشيعية لأسوأ أعباء البلاد الاقتصادية: «ارتكب حزب الله خطأ كبيراً، إذ اعتقد أنَّه أكبر من لبنان. ولم يعتقدوا أنَّ الناس ستثور ضدهم وهم بهذه القوة، وبدأوا يشعرون بسخونة الأحداث الآن».

وبالنسبة لحزب الله، الحركة التي ألهمتها الثورة الإيرانية وتدين بالولاء للجمهورية الإسلامية؛ فإنَّ فقدان الثقة هذا يُمثِّل مشكلةً لن تستطيع النجاحات العسكرية حلها.

ففي المدن الجنوبية مثل النبطية ووادي البقاع، حيث يتنافس حزب الله مع حركة أمل -التابعة لرئيس البرلمان نبيه بري- على الفوز بالدعم الشيعي؛ سبَّ المتظاهرون كلاً من برّي ونصرالله. لدرجة أنَّ شباب الضاحية الجنوبية، ذات الأغلبية الشيعية محدودة الدخل، في بيروت انضموا إلى الاحتجاجات في قلب العاصمة حول ساحة الشهداء.

وقال القائد، وهو يصف المزاج العام بين الكتلة الرئيسية من أنصار حزب الله: «هناك أطفال نواب حزب الله في البرلمان الذين يُخبرون آباءهم بأنَّ مطلب الشعب يجب أن تُسمع». وحرص على إبقاء نصرالله فوق الشبهات، وإلقاء اللوم على المُحيطين به وحليفه الضعيف برّي، الذي تحوَّل من قائدٍ عسكري إلى رئيسٍ للبرلمان عام 1992 واحتفظ بالمنصب منذ ذلك الحين.

ففي خطاب مُتلفز أُذيع في كافة أنحاء البلاد يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول؛ حاول نصرالله أول الأمر رفض الاحتجاجات بوصفها مخططاً أجنبياً مُعادياً، مع الزعم بأنَّه لن يقبل استقالة الحكومة أو الرئيس. وبعد ثلاثة أيامٍ من انهيار الحكومة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، ظهر على الهواء مباشرةً ليُعلن على مضضٍ هذه المرة قبوله لواقع استقالة حكومة الحريري. وحاول أن ينأى بنفسه عن تعليقاته السابقة حول كون الاحتجاجات مخططاً غربياً أو إسرائيلياً، ودعا إلى الحوار.

وفي ظل عجزه عن الظهور علناً بسبب التهديدات باغتيالٍ إسرائيلي؛ اعتاد الأمين العام -الذي يشغل المنصب منذ فترةٍ طويلة- على تصوير خطاباته المتلفزة في جهةٍ غير معلومة.

وقال القائد، الغاضب بسبب مزاعم التدخُّل الأجنبي: «يستطيع حزب الله أن يقول ما يشاء». وأضاف أنَّه يعرف الكثير من الأشخاص الذين انضموا إلى الاحتجاجات، وأنَّ المُتظاهرين يُغيّرون رأي الناس فيها.

وأردف: «في كل مرةٍ يصلون إلى نقطةٍ يشعرون فيها بأنَّ لديهم مشكلةً مع شعبهم؛ يُلقون باللوم على شخصٍ آخر. إنَّهم في مشكلة، ولا يعلمون ما الذي يجب أن يفعلوه».

صار صراخ الأواني والقدور، الذي يتردَّد صداه من المباني السكنية في كافة أنحاء بيروت، آخر أشكال التعبير عن الاستياء بعد شهرٍ من ثورة البلاد الشعبية. وتزداد أزمة لبنان الاقتصادية عُمقاً، بالتزامن مع حظر البنوك لعمليات تحويل الأموال وسحبها من الخارج، في حين تتسع الفجوة بين سعر صرف الليرة اللبنانية -المرتبطة بالدولار الأمريكي- الرسمي وبين سعرها في السوق السوداء. وبالتزامن مع إضافة الاحتجاجات والركود السياسي إلى الأزمة الاقتصادية؛ استمر تبخُّر الثقة في الأحزاب القائمة، حتى في أوساط كُتل المؤيدين الرئيسية.

ولا يقتصر هذا التآكل على حزب الله فقط، ولكن يبدو وكأنَّه يحدث بطول الانقسام السياسي في المؤسسة الحاكمة، ويُهدِّد مستقبل كافة الأحزاب المُتحالفة وغير المتحالفة مع إيران وسوريا أو الغرب والخليج. وهو استياءٌ من منظومة سياسة الوكلاء التي تستغل الانقسامات الطائفية، وتتجاهل الاحتياجات الأساسية للشعب الذي يُهدِّد بتغيير السياسات والسلطة في لبنان.

إذ قال أحمد موصللي، أستاذ العلوم السياسية والمتخصِّص في الحركات الإسلامية بالجامعة الأمريكية في بيروت: «هناك تحوُّل نموذجي في طريقة تفكير الناس؛ إذ بدأ الناس يبتعدون عن الأحزاب التقليدية التي كانوا مرتبطين بها، وهناك نفورٌ عام من حزبية الأحزاب. وغالبية الناس في الشارع هذه الأيام لم يخوضوا الحرب الأهلية في لبنان، لكنَّهم أيضاً لم يعرفوا سوى تلك الزمرة الفاسدة».

وفي الوقت ذاته، واصلت الأحزاب صراعها حول هوية تكتُّلها التقليدي الذي سيُهيمن على الحكومة الجديدة؛ إذ يزعم كلٌ منها أنَّه يحمل لواء أهداف الشارع لمُناهضة الفساد والإصلاح الاقتصادي، ومطالبه بإقامة ديمقراطيةٍ مدنية علمانية.

وأضاف موصللي: «إنَّهم يُحاولون ركوب الموجة بطريقةٍ أو بأخرى. ولا أعتقد أنَّ الشعب عموماً يرغب في حدوث ذلك مُجدَّداً».

وأشار موصللي إلى أنَّ هذا الاتجاه أثَّر على حزب الله، لكنَّه جادل بأنّ القناعة الأيديولوجية الشديدة لدى أعضائه -وخاصةً المقاتلين- تضعه في موقفٍ أفضل من الأحزاب الأخرى القائمة في المنظومة السياسية، حيث يعتمد الولاء عادةً على المحسوبية.

وفي حين يقول أبوحسين إنَّه واحدٌ من بين أعدادٍ متزايدة من المقاتلين الذين سيتركون التنظيم، لكن أبو عبدالله يقول إنَّ دعمه لن يتزعزع، ورفض استخدام اسمه أيضاً بسبب القيود التي يفرضها حزب الله على حديث المقاتلين إلى وسائل الإعلام. وقاتل أبو عبدالله ضد إسرائيل عام 2006، ثم دعم نظام الأسد في الحرب السورية، وهو يُدرِّب المقاتلين الآن.

ووصف عبدالله وحدات حزب الله في كافة أنحاء البلاد بأنَّها على «أهبة الاستعداد»، وقال إنَّهم يبحثون عن أعمالٍ أمريكية أو إسرائيلية لزعزعة الاستقرار من خلال الاحتجاجات. ويعرف أبو عبدالله أيضاً أشخاصاً من الضاحية انضموا إلى الاحتجاجات، ويسمع عن الاستياء من حزب الله والطبقة السياسية إجمالاً، لكنَّه استمع كذلك إلى اتهامات نصرالله واقتنع بأنَّ الاحتجاجات جاءت نتيجة تحريضٍ أجنبي.

وقال بتصميم: «يشعر الإسرائيليون والأمريكيون أنَّهم يستطيعون الدخول عبر هذه الاحتجاجات، ولكنَّنا لن نسمح لهم بذلك».

وفي عام 2008، سيطر مقاتلو حزب الله على شوارع بيروت في استعراضٍ لهيمنتهم العسكرية وسيطرتهم الفعلية على البلاد، لكن أبو عبدالله صرَّح أُحادياً بأنَّ حزب الله لا ينتوي فعل ذلك حالياً.

ووافقه موصللي الرأي قائلاً إنَّ أي تحرُّكٍ عسكري ضد الشعب اللبناني سيخلق على الأرجح مشكلةً أكبر لحزب الله، مما سيُؤدِّي إلى تفاقم انقساماته الداخلية ونفور قاعدة أنصاره.

ورغم ذلك، يُؤكِّد أبو عبدالله أنَّ حزب الله لن يسمح بانهيار النظام الطائفي الذي يستخدمه لتأمين مصالحه وتجنُّب العزلة الدولية للبنان، والتي ستحل حين يصير الحزب -الذي صنَّفته الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً- هو الحاكم الرسمي للبلاد. وهذا موقف يقول أبو عبدالله إنَّه على استعدادٍ للموت من أجله، وفعل أيّ شيءٍ يراه قادته ضرورياً.

وأضاف: «إذ صدر أمرٌ أو فتوى بإطلاق النار على الشعب، فسوف أفعل ذلك. وسأطلق النار على أخي».

أما بالنسبة لأبوحسين، فليس هناك أمرٌ أو مرسومٌ ديني بإمكانه أن يجعله ينقلب على شعبه، ويُفضِّل أن يتخلَّى عن منصبه قريباً على أن يُساعد حزب الله في استغلال قوته ضد الشعب. وبالنسبة لحزب الله، فإنَّ المخاوف حياب ازدياد أعداد أمثال أبوحسين بين صفوفه قد يكون أحد أسباب بقاء رد فعله سياسياً – حتى الآن.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى