تقارير وملفات إضافية

«مصر كانت قدوة للهند».. ما هي شروط التنمية التي مكنت مجموعة من الدول الفقيرة من التفوق على بلدان أغنى منها؟

على الرغم مما يقال عن تفاقم الفقر، فقد انخفض عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر المدقع في العالم، كما حققت العديد من أفقر دول العالم إنجازات لافتة خلال العقود، فما هي شروط تحقيق التنمية التي تحققت لهذه الدول ومكنتها من التفوق على دول كانت أفضل حالاً منها.

تمكنت العديد من الدول مثل الهند والصين وحتى بنغلاديش من تحقيق إنجازات لافتة بينما تأخرت العديد من البلدان العربية رغم أنها كانت في وضع أفضل.

«تحديد شروط التنمية أمر صعب»، كما يشير إلى ذلك مقال نشر بمجلة Foreign Affairs الأمريكية، لمؤلفي كتاب «الاقتصاد الجيد في الأوقات الصعبة»، وهما أبهيجتيف بانريجي أستاذ الاقتصاد الدولي لمؤسسة فورد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وإستير دوفلو أستاذة لمؤسسة عبداللطيف جميل لتخفيف وطأة الفقر واقتصادات التنمية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

يقول الكاتبان إنه الرغم من أن جميع المخاوف حول تفجر حالة عدم المساواة في الدول الغنية بدأت في الظهور في عصرنا الحالي، فإن العقول القليلة الماضية كانت جيدة على نحو ملحوظ لصالح فقراء العالم. 

فبين عامي 1980 و2016، زاد متوسط دخل نسبة الـ50% من ذوي الدخل الأدنى بما يقرب من الضعف، ذلك أن هذه الفئة من ذوي الدخل استحوذت على 12% من النمو في إجمالي الناتج المحلي العالمي. وانخفض عدد من يعيشون على أقل من 1.90 دولار أمريكي لليوم -أي الحد الذي وضعه البنك الدولي للفقر المدقع- بنسبة تزيد على النصف منذ عام 1990، فبعد أن كان العدد يبلغ حوالي ملياري إنسان وصل إلى حوالي 700 مليون شخص. لم يسبق أبداً في تاريخ الإنسانية أن أُخرج كل هذا العدد من دائرة الفقر بهذه السرعة.

كما تحققت تحسينات كبيرة في جودة الحياة، حتى بالنسبة لمن لا يزالون فقراء. فمنذ عام 1990، انخفضت معدل وفيات الأمومة إلى النصف، وكذلك معدل وفيات الرضَّع، وبذلك تم إنقاذ حياة أكثر من 100 مليون طفل. اليوم، يحظى جميع الأطفال تقريباً ذكوراً وإناثاً بالحق في التعليم الأساسي، باستثناء المناطق التي تشهد اضطرابات اجتماعية كبرى. وحتى الوفيات الناجمة عن فيروس الإيدز، الذي كان يوماً ما وباءً لا أمل في شفائه، بلغت ذروتها مع بداية الألفية، غير أنها آخذة في الانخفاض منذ ذلك الحين.

يمكننا أن ننسب الفضل في كثير من تلك المكاسب للنمو الاقتصادي. حققت الزيادة الثابتة في إجمالي الناتج المجلي زيادة في دخل الناس، وبالإضافة إلى ذلك، سمحت للحكومات (وغير الحكومات) بالإنفاق على المدارس والمستشفيات والأدوية ونقل الدخل إلى الفقراء. 

وقد اتسم انخفاض معدلات الفقر بسرعة خاصة في اثنين من أكبر الاقتصادات في العالم، وهما الصين والهند. 

ولكن الآن، ومع بدء تباطؤ النمو في كلا البلدين، ثمة أسباب تدعو إلى القلق. هل يمكن للصين والهند القيام بأي شيء لتجنب التوقف؟ وهل تقدم هاتان الدولتان وصفة مضمونة يمكن لدول أخرى محاكاتها، بحيث تتمكن من إخراج الملايين من شعوبها من دائرة الفقر.

قضى رجال الاقتصاد، بما فيهم كاتبا هذا المقال، مسارهم المهني بالكامل في دراسة التنمية والفقر، والحقيقة المرَّة هي أن هذا المجال لا يملك تفسيراً جيداً لأسباب نمو بعض الاقتصادات دون غيرها. إذ ليس ثمة معادلة واضحة للنمو. 

ولو كان هناك خيط مشترك بها فهو أن النمو الأسرع يبدو وكأنه يأتي من إعادة توزيع الموارد المخصصة بشكل سيئ؛ أي توجيه رأس المال والعمالة نحو الاستخدام الذي سيحقق أعلى إنتاجية. 

ولكن في نهاية المطاف، تتقلص عوائد تلك العملية، وعند هذه النقطة سيكون على الدول إيجاد استراتيجية جديدة لمكافحة الفقر.

رغم أن النمو كان أمراً أساسياً في تقليل الفقر، فإن العبارات من قبيل «نمو أسرع» أو حتى «مواصلة النمو السريع» تعد بمثابة تعبير عن الآمال أكثر من كونها توصيات قابلة للتنفيذ للسياسات. وإبان الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، قضى رجال الاقتصاد الكثير من الوقت في إجراء تحليل انحدار النمو في جميع الدول، وهو تحليلٌ يهدف إلى توقع معدلات النمو استناداً إلى عدد من المتغيرات. 

وفي هذا التحليل، أضاف الباحثون بيانات -تخص التعليم والاستثمار والفساد وغياب المساواة والثقافة والمسافة من البحر وخلافه- في محاولة لاكتشاف العوامل التي ساعدت في تحقيق النمو أو أضرت به. كان الأمل هو العثور على بعض نقاط القوة التي يمكن تحفيزها لزيادة النمو.

غير أن عملية البحث عن نقاط القوة تلك احتوت على مشكلتين. الأولى هي ما بينه عالم الاقتصاد ويليام ويليام إيستيرلي، والمتمثلة في أن معدلات النمو في بلد واحد يمكن أن تتغير تغيراً جذرياً من عِقد إلى آخر دون وجود الكثير من التغير الواضح في أي شيء آخر. 

ففي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، كانت البرازيل صاحبة الحظ الأوفر عالمياً فيما يتعلق بالنمو؛ ولكن، مع حلول عام 1980، توقفت البرازيل عن النمو لعقدين من الزمن (قبل أن تنمو مجدداً ثم تعاود التوقف). 

في عام 1988، نشر روبرت لوكاس، أحد مؤسسي الاقتصاد الكلي الحديث، مقالاً يتساءل فيه عن الأسباب التي جعلت الهند متأخرةً إلى ذلك الحد وتمنى لو أصبحت سريعة النمو، كما هو الحال في مصر أو إندونيسيا

غير أن الأقدار كانت لها كلمة أخرى؛ فالهند حينها كانت في بداية فترة من النمو السريع استمرت لثلاثين عاماً، في حين كانت مصر وإندونيسيا في بداية التأخر عن ركب النمو.

أما عن بنغلاديش، التي كان يُنظر إليها باعتبارها حالة ميؤوساً منها بعد فترة وجيزة من تأسيسها عام 1971، فقد شهد اقتصادها نمواً بمعدل 5% أو أكثر في معظم السنوات بين عامي 1990 و 2005.

وفي 2016 و2017 و2018، تجاوز النمو في بنغلاديش 7% لتصبح من بين أسرع عشرين اقتصاداً نمواً في العالم. وفي جميع تلك الحالات، حدث النمو أو توقف دون أي سبب واضح.

ثانياً، وعلى المستوى التأسيسي، فإن الجهود المبذولة لاكتشاف أسباب النمو لا معنى لها. ذلك أن جميع المتغيرات المتعلقة بالنمو تقريباً في أي دولة تعد جزئياً نتاج شيء آخر. لنأخذ التعليم، على سبيل المثال، فهو أحد العوامل المرتبطة ارتباطاً إيجابياً بالنمو. 

غير أن التعليم يعد جزئياً أحد نتائج نجاح الحكومة في إدارة المدارس وتمويلها. والحكومة التي تجيد القيام بذلك، يمكن أن تجيد أشياء أخرى، مثل بناء الطرق. فإذا كان النمو أعلى في الدول التي لديها نظام تعليم أفضل، فهل ينبغي أن ننسب الفضل للمدارس التي تقوم بتعليم القوى العاملة أم إلى الطرق التي جعلت التجارة أسهل؟ أم أن هناك أمراً آخر مسؤولاً عن ذلك النمو؟ ولكي تزداد الصورة التباساً، دعونا نقل إن الناس يكونون أكثر التزاماً بتعليم أطفالهم حين تكون حالة الاقتصاد جيدة؛ وبالتالي فإن النمو هو ما يؤدي إلى التعليم، وليس العكس. وبالتالي، فإن محاولة استخلاص عوامل فردية تؤدي إلى النمو يعد  مسعى غير مجدٍ. ويصدق ذلك أيضاً على عملية وضع توصيات للسياسات بالاستناد إلى تلك العوامل.

فما الذي تبقى لواضعي السياسات إذاً؟ ثمة أشياء يجدر تفاديها: التضخم المفرط، وأسعار الصرف الثابتة المقومة بأكثر من قيمتها إلى حد كبير، والشيوعية بأنواعها السوفيتية أو الكورية الشمالية أو الماوية؛ وتضييق الخناق على القطاع الخاص كما كان الحال في الهند في سبعينيات القرن العشرين، حيث امتلكت الدولة كل شيء بدءاً من مرافئ السفن وحتى مصانع الأحذية. غير أن هذه النصيحة ليست مفيدة بشكل خاص اليوم، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه ما من أحدٍ يحاول تحقيق تلك الخيارات المتطرفة اليوم.

وما تحاول معظم الدول النامية معرفته ليس ما إذا كان عليها تأميم كل القطاع الخاص بين عشية وضحاها بل ما إذا كان عليها محاكاة النمو الاقتصادي للصين. 

ورغم أن الصين اقتصادٌ سوقي إلى حدٍ بعيد، فإن منهجيتها في التعامل مع الرأسمالية تختلف اختلافاً كبيراً عن النموذج الأنجلو ساكسوني، الذي يتسم بانخفاض الضرائب وفرض لوائح أقل، بل وحتى عن الصورة الأوروبية لذاك النموذج، حيث تلعب الدولة دوراً أكبر. في الصين، تلعب الدولة على المستويين المحلي والوطني دوراً أكبر مما ينبغي في تخصيص الأراضي ورأس المال بل وحتى العمالة. 

كما انحرفت اقتصادات أخرى في شرق آسيا عن النموذج الرأسمالي التقليدي وشهدت عقوداً من النمو المرتفع؛ لننظر إلى اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، جميع أماكن سعت فيها الحكومة في بادئ الأمر إلى وضع سياسة صناعية نشطة.

وقد حققت جميع تلك الاقتصادات نجاحاً باهراً بعد أن طبقت سياسات غير تقليدية. والسؤال هو هل فعلت ذلك بسبب الاختيارات التي اتبعتها أم أنها حققت ذلك بالرغم من الاختيارات التي اتخذتها. وهل كان ما حدث في شرق آسيا ضربة حظ، أو أن هناك درساً ينبغي تعلمه من هذا النجاح؟.

لقد تعرضت الاقتصادات في هذه المنطقة إلى دمار بالغ بفعل الحرب العالمية الثانية، وبالتالي يمكن أن يكون النمو السريع جزئياً نتاج عملية التعافي في حد ذاتها. وأيضاً، ما عناصر التجربة الصينية التي يُفترض أن تحاكيها الدول؟ هل ينبغي على تلك الدول أن تبدأ كما بدأت الصين في عهد دنغ شياوبنغ، باقتصادٍ بالغ الفقر وتعليم ورعاية صحية ممتازين وتوزيع مسطح للغاية للدخل؟ أم عليها أن تبدأ بالثورة الثقافية التي كانت محاولة للقضاء على مزايا النخبة والمساواة بين الجميع؟ أم أن عليها أن تبدأ بتاريخ الصين السابق الذي امتد لأربعة آلاف عام؟ إن من يمدحون تجربة اقتصادات شرق آسيا لإثبات نجاح أي مقاربة حالمون للغاية: فليس ثمة طريقة لإثبات هذا الشيء.

ببساطة، لا توجد وصفة مجربة لكيفية جعل الدول الفقيرة تحقق نمواً عالياً بشكل مستمر. وقد أصبحت هذه الحقيقة مقبولة حتى بالنسبة للخبراء. 

في عام 2006، طلب البنك الدولي من عالم الاقتصاد مايكل سبنس أن يقود لجنة عن النمو الاقتصادي. 

وأقرت اللجنة في تقريرها النهائي بعدم وجود مبادئ عامة للنمو وأنه ما من حالتين متطابقتين بشكل كامل فيما يخص التوسع الاقتصادي. 

وقد وصف عالم الاقتصاد ويليام إيستيرلي ما بذلوه من جهد بعبارات أقل تسامحاً: «بعد عامين من عمل لجنة قوامها 21 زعيماً دولياً وخبيراً عالمياً، ومجموعة عمل قوامها 11 عضواً، و300 خبير أكاديمي، و12 ورشة عمل، و13 جلسة للمشاورات، وميزانية قدرها 4 ملايين دولار أمريكي، يرد على الخبراء على السؤال عن كيفية تحقيق نمو مرتفع بالقول «لا ندري، ولكن علينا أن نثق أن الخبراء سيتوصلون إلى إجابة».

غير أن رجال الاقتصاد تعلموا بالفعل شيئاً من هذا الأخذ والرد حول مصادر النمو. فقد توصلوا بشكل خاص إلى فهم مفاده أن حالات التحول تعد جزءاً مهماً غالباً ما يتم التقليل من شأنه في مسألة النمو. 

ومن بين المعتقدات المركزية لنظرية النمو التقليدية أنَّ عمليات التحول غير مهمة، ذلك لأن قوى السوق ضمنت أن الموارد سيتم توزيعها بشكل سلس وسريع ليتم استخدامها بأكثر الصور إنتاجية. 

فأكثر الأراضي خصوبة ينبغي أن زرعها أكثر من غيرها؛ وأفضل العمال ينبغي أن ينتهي بهم الحال في الشركات الأكثر دراً للربح؛ والمستثمرون ينبغي أن يعهدوا برأس مالهم لدى رواد الأعمال أصحاب المستقبل الواعد.

غير أن هذه الفرضية غالباً ما تكون خاطئة. إذ نجد في أي اقتصاد شركات منتجة وأخرى غير منتجة، كما أن الموارد لا تتدفق دائماً بشكل يحقق منها أفضل استخدام ممكن. 

ويصدق هذا بشكل خاص في الدول النامية، حيث تتسم العديد من الأسواق، مثل أسواق الائتمان أو الأراضي أو العمالة بسوء التشغيل.

 وغالباً ما تكون المشكلة غير متعلقة بشكل كبير بعد توفر المواهب أو التكنولوجيا أو رأس المال، بل تكون متعلقة بعدم استخدام هذه الأشياء الاستخدام الأمثل داخل الاقتصاد. 

بعض الشركات لديها عدد موظفين أكبر مما تحتاج، في حين تعجز شركات أخرى عن تعيين من تحتاجه من الموظفين. وبعض الشركات تستخدم أحدث التكنولوجيا، وبعضها لا تفعل.

 بعض رواد الأعمال ممن لديهم أفكار عظيمة يمكن أن يعجزوا عن تمويلها، في حين يواصل آخرون ممن لا يحملون مواهب مميزة عملهم. وهذا ما يطلق عليه علماء الاقتصاد «سوء التخصيص».

ومن المعروف أن سوء تخصيص الموارد يضعف النمو، ما يعني أن إعادة تخصيصها يمكن أن تحسن النمو. 

في السنوات الأخيرة، حاول علماء الاقتصاد القيام بتحديد كمِّي لمدى إمكانية تحقيق النمو من نقل الموارد إلى حيث تحقق الاستخدام الأمثل. 

وانتهى تشانغ تاي وبيتر كليناو -على سبيل المثال- إلى أن مجرد إعادة التخصيص داخل بعض الصناعات، مع إبقاء رأس المال والعمالة على حالهما، يمكن أن يزيد إنتاجية الصين بنسبة 30%-50% وإنتاجية الهند بنسبة 40% – 60%. ولو تمت إعادة التخصيص على نطاق أوسع داخل اقتصاد الدولة، فإن العائد سيكون أكبر.

بعبارة أخرى، من الممكن تحفيز النمو بالاكتفاء بإعادة تخصيص الموارد الموجودة لتحقق استخدامات ملائمة بشكل أكبر. 

فإذا بدأت أي دولة العمل في ظل وجود موارد مستخدمة بشكل سيئ، كما كان الحال في الصين قبل وصول دينغ أو الهند في أيام إفراط الدولة في التدخل في الشؤون الاقتصادية، فإن المكاسب الأولى للإصلاح يمكن أن تأتي من مجرد تسخير الموارد العديدة التي يساء استخدامها. 

ثمة طرق عديدة لتحسين تخصيص الموارد، بدءاً من إيقاف الزراعة المشتركة كما فعلت الصين في ظل حكم دينغ ووصولاً إلى الجهود التي بذلتها الهند في تسعينيات القرن العشرين للتسريع من تسوية نزاعات الديون وبالتالي جعل أسواق الائتمان أكثر نجاعة.

غير أن الجانب السلبي لهذا الأمر هو أنه عند نقطة ما، تبدأ المكاسب في التآكل. وتسير العديد من الدول النامية اليوم في اتجاه الوصول إلى هذه النقطة. وسيكون على تلك الدول وعلى العالم بأسره التصالح مع الحقيقة المزعجة: إن عصر النمو المبهر في طريقه إلى الانتهاء.

لننظر في المسار الصيني. تخلصت الصين من الصور الصارخة لسوء تخصيص الموارد. 

وعملت بحكمة على إعادة استثمار المكاسب المحققة من النمو الناتج عن ذلك في استثمارات جديدة، ومع نمو الناتج، بدأت بيعه خارج البلاد لتستفيد من جوع العالم إلى الصادرات.

غير أن هذا المسار قد وصل هو الآخر إلى طريق مسدود: فبعد أن أصبحت الصين أكبر مصدرٍ في العالم، لا يمكن لها أن تواصل نمو صادراتها بوتيرة أسرع من نمو الاقتصاد العالمي.

ربما يكون بوسع الصين في نهاية المطاف اللاحق بركب ما حققته الولايات المتحدة فيما يتعلق بدخل الفرد، غير أن تباطؤ النمو فيها يعني أن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً. 

وإذا انخفض معدل النمو الصيني إلى 5% سنوياً، وهو أمرٌ غير مستبعد، وظل عند هذه النسبة، وهو احتمال متفائل إلى حد ما، وإذا واصل معدل النمو الأمريكي البقاء في محيط نسبة 1.5%، فإن الصين ستستغرق على الأقل 35 عاماً للحاق بركب الولايات المتحدة فيما يتعلق بمعدل دخل الفرد. 

في هذه الأثناء، يصبح من المنطقي أن نتوقع أن السلطات الصينية تفهم أن النمو السريع أمرٌ مؤقت، ويبدو أنها تفهم ذلك. ففي عام 2014، تحدث الرئيس الصيني شي جين بينغ عن التأقلم مع «الوضع الاعتيادي الجديد» المتمثل في بطء النمو. وفسر البعض ذلك باعتبار أنه يقصد أنه بالرغم من أن أيام معدل النمو السنوي المتكون من رقمين قد ولت، فإن الاقتصاد الصيني سيواصل التوسع بمعدل 7% سنوياً خلال المستقبل المنظور. غير أنه حتى هذا الأمر قد يبدو مفرطاً في التفاؤل. إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض نمو الصين إلى نسبة 5.5% بحلول عام 2024.

وفي الهند أيضاً ينكشف الستار عن قصة مشابهة.

ففي عام 2002، شهد قطاع التصنيع في البلاد تحسناً كبيراً من حيث تخصيص الموارد. وأقدمت المصانع على رفع الكفاءة التكنولوجية فيها، وبدأ تدفق رأس المال بشكل متزايد إلى أفضل الشركات الموجودة ضمن كل قطاع. 

ولأن هذه التحسينات بدت غير مرتبطة بأي تغيير في السياسات، تحدث بعض علماء الاقتصاد عن «معجزة التصنيع الغامضة للهند»

ولكن، لم يكن ثمة معجزة في الأمر — كل ما هنالك تحسن متواضع عن نقطة بداية سيئة. يمكننا أن نتخيل تفسيرات عديدة لهذا الصعود. ربما حدث تحول في الأجيال، مع انتقال التحكم في الشركات من الآباء إلى الأبناء الذين تلقى العديد منهم تعليمه خارج البلاد وكانوا أكثر طموحاً وتمكناً من التكنولوجيا والأسواق العالمية. 

أو ربما كان ذلك من تأثير تراكم الأرباح المتواضعة، التي مكنت في نهاية المطاف من سداد ما يلزم للتحول إلى مصانع أكبر وأفضل.  أياً ما كان السبب الدقيق، فإن أفضل طريقة لفهم صعود الهند الاقتصادي هي أنه جاء نتيجة لتصويب حالات سوء التخصيص: أي أنه نوع من النمو يمكن تحقيقه من قطف الثمار الدانية.

غير أن هذا النوع من النمو لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. ذلك أنه حين يتخلص الاقتصاد من أسوأ المصانع والشركات الموجودة فيه، تنكمش المساحة المخصصة لتحقيق المزيد من التحسين. واليوم، يبدو أن الهند تواجه احتمالية حدوث تباطؤ حاد. إذ خفض صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الآسيوي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعاتهم لنمو الهند لعام 2019-2020 إلى حوالي 6%. وأشارت جهات أخرى إلى أن اقتصاد الهند ربما قد شهد تباطؤاً بالفعل: إذ يرى أرفيند سوبرامانيان، كبير المستشارين الاقتصاديين لنيودلهي من عام 2014 إلى عام 2018، أن التقديرات الرسمية بالغة في تقدير النمو الذي حققته البلاد بما يصل إلى 2.5% في السنوات الأخيرة. 

يمكن أن يتعافى النمو في الهند، ولكن عند نقطة ما، سيتباطأ إلى الأبد. وبالفعل يمكن أن تجد الهند نفسها عالقة في براثن «فخ الدخل المتوسط» المخيف. ولن تكون وحيدة هناك: إذ أفاد البنك الدولي أنه من اقتصادات الدخل المتوسط البالغ عددها 101 دولة في عام 1960، لم تنجح سوى 13 دولة في الوصول إلى اقتصادات الدخل المرتفع بحلول عام 2008.

لسوء الحظ، وكما أن علماء الاقتصاد لا يعرفون الكثير عن كيفية تحقيق النمو، فإنهم أيضاً لا يعرفون الكثير عن السبب الذي لأجله أصبحت بعض الدول، مثل المكسيك، عالقةً في فخ الدخل المتوسط، ولماذا بعض الدول، مثل كوريا الجنوبية، ليست عالقة. 

ومن بين أحد الأخطار الحقيقية التي تحدث في هذا السياق أنه أثناء محاولة الدول التي تواجه تباطؤاً حاداً في النمو الاحتفاظ بالنمو السريع، فإنها ستنحرف تجاه سياسات تضر بالفقراء اليوم باسم تحقيق النمو في المستقبل. 

وأثناء محاولة العديد من الدول الاحتفاظ بالنمو، فإنها تفسر التوصية بأن تصبح صديقة للشركات بأنها رخصة لسن كافة السياسات والقوانين التي تضر بالفقراء وتصب في صالح الأغنياء، مثل خفض الضرائب على الأغنياء وإعفاء الشركات الكبرى منها.

كان هذا أسلوب التفكير المتبع في الولايات المتحدة إبان حكم الرئيس رونالد ريغان وفي المملكة المتحدة إبان حكم رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر. وإذا كان من الممكن التماس أي دليل من تجربة البلدين، فهو أن إلزام الفقراء بربط الأحزمة أملاً في أن التنازلات المقدمة للأثرياء ستؤدي أكلها في نهاية المطاف.

ولكن ما يحدث أنه لا يخدم النمو ولا يخدم الفقراء بأي شكل كان: ففي كلتا الدولتين، لم يحقق النمو أي تحسن يذكر، وارتفعت نسبة انعدام المساواة إلى بسرعة كبيرة. 

وعلى المستوى العالمي، كانت نسبة الواحد% في الدولة الثرية بالفعل هي المجموعة الوحيدة التي تحسن أداؤها في الفترة بين 1980 و2016 أكثر من نسبة الخمسين% من الفقراء؛ هذا بالإضافة إلى ظهور عدد متزايد من ذوي الثراء الفاحش في الدول النامية استحوذوا على 27% من إجمالي النمو إبان تلك الفترة. 

أما نسبة التسعة وأربعين%، والتي شملت جميع من يعيشون في الولايات المتحدة وأوروبا، فقد دهستهم الأقدام، وشهد دخلهم ركوداً كبيراً خلال تلك الفترة.

إن تفشي انعدام المساواة في الدول التي لم تعد تشهد نمواً أمرٌ سيئ بالنسبة للنمو المستقبلي.

 ذلك أن الارتدادات السياسية لهذا الأمر تؤدي إلى انتخاب قادة شعبويين يعدون الناس بحلول سحرية نادراً ما تنجح؛ وغالباً ما يؤدي إلى كوارث على شاكلة ما حدث في فنزويلا. 

وفي الدول الغنية، بدأت تبعات ذلك تظهر على السطح بالفعل، بدءاً من صعود الحواجز التجارية في الولايات المتحدة ووصولاً إلى متاهة بريكست في المملكة المتحدة. بل إن صندوق النقد الدولي نفسه، الذي كان يوماً ما حصناً حصيناً للعقيدة التي تدافع عن تحقيق النمو أولاً، بدأ يدرك أن التضحية بالفقراء لتحقيق النمو سياسة فاشلة. وبدأ اليوم يُلزم الفرق التابعة له في كل بلد على أخذ حالات عدم المساواة في المساواة عند إسداء النصح.

الراجح أن النمو يشهد تباطؤاً، على الأقل في الصين والهند، وربما لا يوجد الكثير مما يمكن القيام به حيال ذلك. يمكن أن يلتقط أنفاسه في دول أخرى، ولكن لا أحد يمكنه التنبؤ بأسباب ذلك أو مكان حدوثه. 

الخبر السار هو أنه حتى في غياب النمو، ثمة طرق لتحسين مؤشرات التقدم الأخرى. ما يحتاج واضعو السياسات إلى تذكره هو أن إجمالي الناتج المحلي وسيلة لتحقيق غاية، وليس غاية في حد ذاته. 

وهو وسيلة نافعة ولا ريب، لا سيما حين تخلق وظائف أو ترفع أجوراً أو تزيد من موازنات الدول بحيث تتمكن الحكومات من إعادة توزيعها بشكل أكبر. 

غير أن الغاية النهائية تبقى تحسين جودة الحياة، لا سيما بالنسبة للأشخاص الأفقر.

وجودة الحياة لا تعني الاستهلاك وحده. 

ورغم أن الحياة الأفضل تعني جزئياً القدرة على الاستهلاك بشكل أكبر، فإن معظم البشر، حتى الفقراء منهم، يهتمون بأمور أكبر من ذلك. 

فالإنسان بفطرته يريد أن يشعر أنه محل تقدير واحترام، وقادر على الحفاظ على صحة والديه، وتعليم أولاده، وأن صوته مسموع، وقادر على السعي خلف أحلامه. 

يمكن لارتفاع إجمالي الناتج المحلي أن يساعد الفقراء على تحقيق العديد من تلك الأشياء، غير أنه ليس إلا وسيلة واحدة للوصول إلى ذلك، وهي ليست الوسيلة الأفضل على الدوام. 

في الواقع، تختلف جودة الحياة اختلافاً شاسعاً بين الدول التي تحظى بمستويات دخل متشابهة: على سبيل المثال، لدى سيريلانكا نفس معدل إجمالي الناتج المحلي للفرد الذي تحظى به غواتيمالا، ومع ذلك فإن معدلات وفيات الأمومة والرضع والأطفال فيها أقل بكثير.

ينبغي ألا تثير هذه الاختلافات دهشتنا؛ فبالنظر إلى الوراء، يتضح أن العديد من النجاحات المهمة التي تحققت إبان العقود القليلة المنصرمة لم تكن نتيجة النمو الاقتصادية، وإنما كانت نتيجة التركيز المباشر على تحسين نتائج بعينها، حتى في الدول التي كانت بالغة الفقر وظلت كذلك. 

على سبيل المثال، انخفضت معدلات وفيات الأطفال تحت سن الخمس سنوات انخفاضاً كبيراً في كافة أنحاء العالم، حتى في بعض الدول بالغة الفقر التي لم تشهد نمواً سريعاً بدرجة مميزة. ويعود الفضل في ذلك في معظم الأحيان إلى تركيز واضعي السياسات على الرعاية الصحية لحديثي الولادة والتطعيمات والوقاية من الملاريا. 

ويمكن تطبيق نفس المقاربة، بل وربما ينبغي تطبيقها، على أي من العوامل الأخرى التي تُحسِّن جودة الحياة، سواءً كانت في التعليم أو المهارات أو ريادة الأعمال أو الصحة. إذ ينبغي أن يكون التركيز على تحديد المشكلات الأساسية والتوصل إلى كيفية لحلها.

وهذا عمل يتطلب صبراً: ذلك أن إنفاق المال في حد ذاته لا يؤدي إلى توفير تعليم حقيقي أو صحة جيدة. ولكن بخلاف الحال مع النمو، يعرف الخبراء فعلياً كيف يحققون التقدم في هذه المجالات. 

ومن بين المزايا الكبرى للتركيز على التدخلات المحددة بوضوح هو أن تلك السياسات لها أهداف قابلة للقياس، وبالتالي يمكن تقييمها تقييماً مباشراً. إذ يمكن للباحثين إجراء تجارب عليها وتجاهل ما لا يصلح فيها وتحسين ما يصلح. وهذا هو ما أنفقنا قدراً لا بأس به من حياتنا المهنية فيه، وما يفعله مئات الباحثين وواضعي السياسات بشكل روتيني اليوم بمساعدة مؤسسات مثل معمل عبداللطيف جميل لمكافحة الفقر (وهو شبكة بدأت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) ومؤسسة الابتكارات من أجل مكافحة الفقر، الممولة من عالم الاقتصاد دين كارلان.

لذا، فرغم أنه لا أحد يعرف كيف يمكن أن نحوِّل كينيا إلى كوريا الجنوبية، فبفضل عمل جيسيكا كوهين وباسكالين دوباس بتنا نعرف بالفعل على سبيل المثال أن توزيع ناموسيات مشبعة بمبيدات الحشرات على نطاق واسع ودون مقابل هو الطريقة الأمثلة لمكافحة الملاريا. 

وفي سلسلة من التجارب العشوائية، انتهى هذان الباحثان إلى أن أخذ مقابل على الناموسيات قلل من استخدامها، خلاف المعتقد الذي كان سائداً في هذا الصدد. 

وهذا الدليل أقنع في نهاية المطاف مؤسسات التنمية الكبرى على عدم فرض رسوم على الناموسيات. 

وفي الفترة ما بين عامي 2014 و2016، تم توصيل إجمالي 582 مليون ناموسية مشبعة بمبيدات الحشرات على مستوى العالم، تم منح 75% منها من خلال حملات التوزيع المجاني، على نحو أنقذ حياة عشرات الملايين من البشر.

خلاصة القول هي إن المكونات الحقيقية للنمو الاقتصادي المستمر لا تزال غامضة. غير أن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن القيام بها للتخلص من أكثر المصادر جسامة للهدر في اقتصاديات الدول الفقيرة ومصادر معاناة شعوبها. 

فالأطفال الذين يموتون من أمراض يمكن الوقاية منها، والمدارس التي لا يحضر المدرسون فيها، وأنظمة المحاكم التي تستغرق ردحاً من الزمن للبت في القضايا؛ جميعها أمورٌ تعطل الإنتاجية بلا شك وتجعل الحياة بائسة. بطبيعة الحال، يمكن ألا يؤدي إصلاح تلك المشكلات إلى دفع الدول لتحقيق نمو أسرع على الدوام، غير أنها يمكن أن تؤدي إلى إدخال تحسين كبيرة على رفاه مواطنيها.

علاوة على ذلك، فرغم أنه لا أحد يعرف متى ستبدأ قاطرة النمو في أي بلد، ولكن إذا انطلقت فعلاً، فسيكون الفقراء قادرين على القفز فيها إذا كانوا في صحة جيدة وقادرين على القراءة والكتابة، وعلى التفكير فيما هو أبعد من ظروفهم المباشرة. 

وليس صدفة أن نجد أن العديد من الدول المستفيدة من وجود العولمة كانت دول شيوعية استثمرت بكثافة في رأس المال البشري لأسباب أيديولوجية (مثل الصين وفيتنام) أو أماكن سعت لتحقيق سياسات مشابهة نظراً لوجود تهديد عليها من المد الشيوعي (مثل كوريا الجنوبية وتايوان).

إذاً، فالرهان الأفضل بالنسبة للدول النامية مثل الهند هو محاولة رفع معايير مستوى المعيشة باستخدام الموارد المتوفرة بالفعل: أي بالاستثمار في التعليم والرعاية الصحية، وتحسين عمل المحاكم والمصارف، وبناء طرق ومدن أفضل يمكن الحياة فيها. 

والأمر نفسه يصدق على صناع السياسات في الدول الغنية، الذين ينبغي عليهم الاستثمار بشكل مباشر في رفع مستويات المعيشة في الدول الأفقر. 

ونظراً لعدم وجود إكسير سحري للتنمية، فإن الطريقة المثلى لإحداث تحول في حياة الملايين من الناس ليس في المحاولات العابثة لتعزيز النمو، بل في التركيز الكامل على الأمر الذي يُفترض أن يحققه النمو: رفاه الفقراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى