تقارير وملفات إضافية

صحيح أن 40% من سكان العالم يخضعون لقمع الحكام.. لكن للمتظاهرين سلطة غيّرت مسار الأحداث في 2019

تابعنا ونحن نطوي صفحات عام 2019 الكثير من الأحداث الملتهبة حول العالم، كيف تعرضت الكثير من الشعوب لعمليات القمع، لكن  كان من اللافت أيضا أن المتظاهرين كان لهم سلطة وقدرة على الفعل غيّرت إلى حد ما مسار الأحداث وصنعت التاريخ في بعض البلدان. 

هذا التقرير يشرح لنا كيف أصبح للمتظاهرين سلطة، لكن قبل الخوض في تلك التفاصيل علينا أولاً التأكيد أن حالة القمع التي تعرض لها سكان العالم في 2019 قد زادت. 

مجلة Foreign Policy الأمريكية استشهدت في هذا الصدد بتقرير لمرصد التحالف العالمي من أجل إقامة الشراكات Civicus Monitor، المعني بتجميع بيانات في نطاق الحرية الشخصية،  والذي أشار إلى أن 40% من سكان العالم يعيشون الآن في بلدان تُنتهك فيها حرية التجمع أو التعبير بشكل روتيني،  بنسبة ارتفعت عن نسبة 19% المسجلة في عام 2018.

لكن هذا بالطبع هو نصف الحكاية ليس إلا، فالوجه الآخر من الصورة أن عام 2019 كان عام سلطة الشعب.

في بوليفيا.. أجبرت مظاهرات حاشدة اندلعت عام 2019 الرئيس إيفو موراليس على الفرار من البلاد، بعد أن حاول التلاعب بالانتخابات. وفي تشيلي، أعلن الرئيس سيباستيان بينيرا الأحكام العرفية في مواجهة أكبر احتجاجات تشهدها البلاد منذ إطاحة الديكتاتور أوغستو بينوشيه في الثمانينيات. وفي الإكوادور، شلّت أعمال الشغب الاقتصاد وخلفت سبعة قتلى بعد أن فرض الرئيس لين مورينو سياسة تقشفية حتى يصبح البلد مؤهلاً للحصول على قرض بقيمة 4.2 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.

في أماكن أخرى، هزت مظاهرات هائلة كلاً من السودان والجزائر والعراق وإيران ولبنان، وهي بلدان تخطاها الربيع العربي إلى حد كبير. أجبر الغضب الشعبي من جراء الفساد والإهمال رؤساء الدول على التنحي في جميع البلاد ما عدا إيران. فمن الواضح أن شرارة الاحتجاج التي أُطفئت بعد عام 2011 قد عادت إلى الحياة.

لا تبدو انتفاضات 2019 وكأنها حدث مترابط، نظراً لانتشارها في أنحاء العالم. ومع ذلك، تغذيها كلها المظالم المشتركة وتمثل مطلباً مشتركاً بأن تُسمع ويستجاب لها، إذ أجاب توماس شانون، وهو دبلوماسي أمريكي سابق رفيع المستوى، لدى سؤاله عن رأيه في الانتفاضات الجارية في الأمريكتين قائلاً: «يريد الناس المزيد من الديمقراطية». وهو الأمر الحقيقي حتى في بلد يتسم نسبياً بالليبرالية مثل الإكوادور، حيث خفض مورينو دعم الوقود وحرر الأسواق من القيود التنظيمية دون الرجوع  لشركائه. عوقب مورينو ليس فقط لتبنيه سياسات الليبرالية الجديدة، في رد فعل معتاد للغاية، لكن لتعامله مع المساءلة الديمقراطية باعتبارها أمراً ثانوياً.

أما بالنسبة لتشيلي، فقد شهدت انتفاضة شعبية شاملة بعد أن فرض الرئيس التشيلي سيباستيان بنييرا  زيادة قدرها حوالي 0.04 دولار على تعريفة التنقلات في أوقات الذروة. ورغم تواصل الاستفزازات للجماهير، كان الأمر بسيطاً في بادئ الأمر. إلا أن الاحتجاجات الأولى نجحت في كشف الغطاء عن استياء عميق من انعدام المساواة الجذري والفقر واسع الانتشار وزوال المعاشات التقاعدية.

في ضوء ذلك يقول شانون: «كانت هناك أزمة تمثيل واضحة عانت منها قطاعات كبيرة من المواطنين ممن لا يثقون بالسياسيين أو الأحزاب السياسية للاستجابة لاحتياجاتهم». من جهته، زاد بينيرا الطين بلة بإعلان الأحكام العرفية واتخاذ إجراءات صارمة ضد الاحتجاجات، التي توفي فيها 22 شخصاً. اعتبر التشيليون الحريات الديمقراطية التي اكتسبوها من الجيل السابق لهم مسألة مقدسة، وعادوا إلى الشوارع بدلاً من الرضوخ في منازلهم.

دفعت الظروف شبه الثورية النخب لمحاولة إجراء تسويات في كل من الدولتين الليبراليتين نسبياً.
أما في أماكن أخرى، فقد ضيق على الحكام الخناق؛ فمثلاً لا مجال للشك في رغبة الزعيم الصيني  شي جين بينغ في سحق الاحتجاجات في هونغ كونغ بدلاً من احترام الحريات المحدودة التي لا تزال تحت نموذج «دولة واحدة ونظامان».

 كان ينبغي للربيع العربي أن يُعلم العالم أن  الحكام المستبدين مستعدون للخوض في أنهار من الدماء لإبقاء السلطة في قبضتهم. إلا أن النجاح لا يكون حليفهم دائماً.

ففي أكبر نجاح منفرد لسلطة الشعب في عام 2019، أجبرت الاحتجاجات الجماهيرية في السودان الرئيس السوداني عمر البشير، الذي لجأ في الماضي إلى الإبادة الجماعية لإخماد الثورات الإقليمية، على مغادرة منصبه. ويستعد النظام الانتقالي الآن للعودة إلى الحكم المدني، في حين حُكم على البشير بالسجن وقد يواجه المحاكمة لارتكابه جرائم حرب، برغم من أن محمد حمدان دقلو، نصيره السياسي الغاشم، لا يزال شخصية محورية لعبت دوراً مهماً في كواليس الانتهاكات.

في لبنان والعراق، كان الغضب من وجود علاقة مترابطة بين الفساد والفشل الاقتصادي هو ما دفع الاحتجاجات في المقام الأول.

فعندما انزلق الاقتصاد اللبناني نحو أزمة واسعة النطاق في وقت سابق من هذا العام، كف المواطنون اللبنانيون عن قبول المساومة طويلة الأمد التي تعرضت فيها الدولة المتداعية للهيمنة والنهب من زعماء الجماعات الطائفية المختلفة في البلاد.

لم يكتف الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع بأعداد لم تُر من قبل إلا في ما تعرف بثورة الأرز عام 2005، بإدانة المحاباة فقط، بل أدانوا نظام المحسوبية العرقي نفسه. وصحيح أن الاحتجاجات تجاوزت الحواجز الطائفية، إلا أنها لا تزال أقوى بكثير بين السنة والمسيحيين منها في الشيعة. ومثلما قال أحد الناشطين لصحيفة The Guardian البريطانية، فإن «اليد الخفية» التي يلومها الحكام اللبنانيون دائماً على التحريض الشعبي «ليست سوى كرامتنا التي استيقظت. أُسكتتت أفواهنا وخُدرت عقولنا لفترة طويلة، والآن استيقظنا».

لم تثر أي أزمة المظاهرات الحاشدة في العراق، التي قتل فيها أكثر من 300 شخص في ثلاثة أشهر. لكنه الغضب الشعبي المحتدم والمتصاعد في وجه حكومة تكسب 68 مليار دولار سنوياً من النفط، لكنها تعجز عن توفير المياه والكهرباء لمواطنيها. تجاوز المتظاهرون ما كان في السابق خطاً أحمر لا ينبغي تجاوزه عندما صبوا غضبهم نحو إيران؛ ففي نوفمبر/تشرين الثاني، أحرق المتظاهرون الشيعة في مدينة النجف المقدسة القنصلية الإيرانية وهم يهتفون «لتخرج إيران من البلاد!».

لا يتعلق الغضب العراقي من إيران بالقومية العراقية بقدر ما يتعلق باحتقار العراقيين لحكامهم، الذين ينظر إليهم على أنهم دمى تحركها طهران. وأشعل المتظاهرون النار في مقرات الأحزاب السياسية والمباني الحكومية. ومثلما هو الحال في لبنان، كف شباب، بلا أي ذكرى لأهوال اختبرها جيل سابق، عن التساهل مع ما تعلم آباؤهم تقبله.

ويقول بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إن الشباب العراقي ينظر إلى مظالمه من زاوية جيلية بدلاً من الزاوية المذهبية الطائفية، إذ يقول: «صحيح أنهم شيعة، لكن هذا الجيل يطور هوية لا تقف عند كونها مستقلة تماماً عن إيران فحسب، بل تعارضها كذلك».

يقارن سالم الاحتجاجات الحالية بثورة الأرز في لبنان، عندما تمرد المواطنون ضد الهيمنة السورية. وهذه مقارنة حكيمة، إذ لم تمس الثورة اتفاق الحكم الطائفي في لبنان. صحيح أنه من الممكن لرأي عام معبأ أن يطيح زعيماً فقد مصداقيته، على الأقل في البلدان التي تتمتع بنظام انتخابي فعال مثلما هو الحال في العراق ولبنان، لكن الثقافات السياسية تتغير ببطء شديد، خصوصاً تلك التي شكلها وشوّهها العنف. فمن النادر لمن انسحب إلى الهويات القبلية تحت ضغط الحرب الأهلية أن يستعيد حسه بالغاية الوطنية مجدداً.

ومع ذلك، من المهم ألا يستمر الناس في قََبول ما قبلوه من قبل، من المهم أن يتوقع الناس أن يُنصت إليهم. ومع زيادة مستوى القمع اللازم لاحتواء الغضب العام، سيضيق بعض القادة الخناق، بينما سيختار آخرون فتح المجال، أو سيُرغمون على ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى