تقارير وملفات إضافية

هل تفوقت إيران على أمريكا مرة أخرى بالفعل؟ الإجابة لا تحتاج لكثير من التفكير

منذ ثورة الخميني في إيران التي أطاحت بحكم الشاه، والعلاقة بين واشنطن وطهران تتسم بالعداء المعلن، وشهدت عدة حلقات في سلسلة الصراع بينهما، وفي كل مرة يبدو أن إيران تتفوق وتخرج منتصرة وآخرها محاولة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، كيف ذلك؟

صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «إيران تفوقت على الولايات المتحدة مرةً أخرى»، أعده ماكس بوت، وهو مؤلف وصحفي أمريكي، وهو يجيب عن السؤال بشكل مباشر.

يُمكن القول إنَّ وصف السفارة الأمريكية في بغداد بأنَّها مجرد مهمة دبلوماسية يُقلِّل بشدة من نطاقها وحجمها؛ إذ تبلغ مساحة المجمع الذي يضم السفارة حوالي 421 ألف متر مربع  -أي نفس مساحة مدينة الفاتيكان تقريباً- فضلاً عن أنَّه مزود بغرف نوم كبيرة، وقاعات لتناول الطعام، ومحطة كهرباء، وقِسم إطفاء، وكل ما هو ضروري لدعم آلاف الدبلوماسيين والمتعاقدين الموجودين داخل جدرانه السميكة. لقد دخلت هناك عدة مرات، وفي كل مرةٍ من تلك المرات، شعرت بأنني نُقِلت بعصا سحرية من الشرق الأوسط إلى مدينة أمريكية صغيرة.

لذا صُدِمت للغاية حين قرأت أنَّ مئات من أنصار ميليشيا حزب الله، التي تدعمها إيران، اقتحموا المجمع يوم الثلاثاء 31 ديسمبر/كانون الأول ونهبوا قاعات الاستقبال المألوفة لجميع الزوار. وبالنسبة لأي شخصٍ من جيلي (مع العلم أنني وُلِدت في عام 1969)، فقد أعاد هذا الحادث إلى الأذهان فوراً ذكرياتٍ فظيعة عن أزمة محتجزي الرهائن الإيرانيين التي نشبت في الفترة من عام 1979 إلى عام 1981. حتى أنَّ المتظاهرين ردَّدوا الشعار نفسه الذي هتف به محتجزو الرهائن الإيرانيين آنذاك: «الموت لأمريكا». ولحسن الحظ، انتهى اقتحام السفارة يوم الثلاثاء دون أن يتعرض أيُّ أمريكي للأذى بعد وصول قوات الأمن العراقية متأخراً لاستعادة النظام، لكنَّ المتظاهرين ما زالوا موجودين خارج جدران السفارة مباشرة.

ولعل ذلك الحادث تذكيرٌ آخر بأنَّه في الصراع القائم منذ أمدٍ بعيد بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية، تعرَّضنا عدةَ مرات لإذلالٍ وإيذاء على يد خصمٍ أصغر، لكنَّه أشد عزماً وقسوة. بل يمكن القول إنَّ إيران، على مرِّ السنوات الـ41 الماضية، أظهرت خبرةً كبيرةً في حربٍ غير نظامية، تاركةً الولايات المتحدة في حالةٍ من الحيرة بشأن كيفية الرد على تصرفاتها.

ففي الثمانينيات من القرن الماضي، احتجزت قواتٌ مدعومة من إيران عشرات الرهائن الأمريكيين في لبنان، ودمَّرت السفارة الأمريكية وثكنات قوات مشاة البحرية الأمريكية في بيروت بشاحناتٍ مفخخة أسفرت عن مقتل المئات. وكان رونالد ريغان، الرئيس الأمريكي آنذاك، يائساً بشدة من عدم إيجاد طريقةٍ لتحرير الرهائن لدرجة أنَّه وافق على بيع صواريخ لإيران، وهي مناورة خلف الكواليس تكشَّفت وتحولت إلى أكبر فضيحة في إدارة ريغان بعدما جرى تحويل عائدات البيع سراً إلى حركات الكونترا المناهضة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا. 

وفي عام 1987، أرسل ريغان قوات بحرية أمريكية لمنع إيران من إغلاق الخليج الفارسي في إطار حربها ضد العراق. فتعرَّضت إحدى فرقاطات البحرية الأمريكية لإغراقٍ شبه كامل بعد ضربها بصاروخٍ عراقي، فيما أغرِقت فرقاطةٌ أخرى بلغمٍ إيراني، لكنَّ القوات الأمريكية ألحقت أضراراً جسيمة بقوات الحرس الثوري الإيراني، وأسقطت طائرة ركاب إيرانية بطريق الخطأ.

وقد كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي تتقاتل فيها قواتٌ أمريكية وإيرانية في معركة مباشرة. إذ تُفضِّل إيران إلحاق معظم الأضرار عبر وكلائها. ففي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، قتلت الميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران مئاتٍ من الجنود الأمريكيين. وصحيحٌ أنَّ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن أدان إيران واصفاً إيَّاها بأنها جزءٌ من «محور الشر»، لكنَّه اتخذ قراراً حكيماً بعدم تصعيد الأعمال العدائية. إذ كانت الولايات المتحدة آنذاك غارقة في حروبٍ كافية تجعلها في غنى عن دخول حربٍ أخرى ضد دولة يبلغ عدد سكانها 81 مليون نسمة.

واستغل الإيرانيون قرار بوش غير الحكيم بالإطاحة بعدوهم صدام حسين لتمديد النفوذ الإيراني في جميع أنحاء العراق تحت أنظار المحتلين الأمريكيين مباشرة، فيما كانت إيران بالفعل الطرف الفاعل المهيمن في لبنان. وفي العقدين الماضيين، أصبحت الطرف الفاعل المهيمن في العراق وسوريا واليمن كذلك. ومن ثَمَّ، يُمكن القول إنَّ الإمبراطورية الفارسية الجديدة تمتد من طهران إلى بيروت.

وكان الرد الأمريكي الفعَّال الوحيد على التهديد الإيراني منذ حرب الناقلات في عهد ريغان هو قرار الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إبرام اتفاقٍ مع إيران في عام 2015 لتجميد برنامجها النووي. وصحيحٌ أنَّ الاتفاق لم يكبح النفوذ الإيراني الإقليمي، بل عزَّزه برفع العقوبات الاقتصادية، ولهذا السبب عارضته أنا وآخرون آنذاك، لكنَّه على الأقل أوقف تطوير إيران للأسلحة النووية. ثم ارتكب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطاً فادحاً بالانسحاب من الاتفاق النووي في عام 2018، وفرض عقوبات اقتصادية على إيران في العام الماضي 2019، مع أنَّها كانت تمتثل لبنود الاتفاق.

وبذلك، أصبحت إيران ووكلاؤها محصورين في زاويةٍ ضيقة، فهاجموا بعض ناقلات النفط في الخليج، وأسقطوا طائرة أمريكية بدون طيار، وضربوا منشأةً نفطية سعودية رئيسية بصواريخ كروز، وأطلقوا صواريخ على مجمعٍ عسكري بالقرب من مدينة كركوك العراقية. وقد دفع هذا الهجوم الأخير، الذي أدى إلى مقتل متعاقد أمريكي وإصابة أربعة أفراد من القوات الأمريكية يوم الجمعة الماضي 27 ديسمبر/كانون الأول، ترامب إلى الانتقام بشنِّ غارات جوية في جميع أنحاء العراق وسوريا أسفرت عن مقتل 25 من أعضاء حركة حزب الله -التي يُلقى عليها باللوم في الهجوم الصاروخي الأخير- وأثار احتجاجاتٍ غاضبة مناهضة لأمريكا. ولعل اقتحام السفارة الأمريكية يوم الثلاثاء هو الرد الثأري الإيراني لتوضيح أنَّ إيران لن تذعن للضغوط الأمريكية. والآن، حان دورك للرد يا ترامب.

وهنا يُمكن القول إنَّ الولايات المتحدة أمامها طريقتان فقط للخروج من هذه الأزمة المتصاعدة: القتال أو التفاوض. ولكن كما قلت سابقاً، فدخول حربٍ مع إيران يمكن أن يُدخِل الولايات المتحدة في عدة مآزق، لأنَّ هذه الحرب يمكن أن تخرج بسهولة عن نطاق السيطرة وتتحول إلى هجماتٍ انتقامية متبادلة كالتي شهدناها في الأيام الأخيرة؛ لذا فمن الأفضل التفاوض، وهذا يعني محاولة إعادة إبرام اتفاق نووي أشد صرامةً مقابل رفع العقوبات الأمريكية.

لكنَّ ترامب لا يُبدي اهتماماً يُذكَر بالتفاوض بجدية أو حتى القتال بجدية؛ إذ شن حرباً اقتصادية على إيران، لكنَّه لم يفعل شيئاً لكبح عدوانها في المنطقة، بل سمح بتمديد النفوذ الإيراني حين قرَّر سحب القوات الأمريكية من أحد أجزاء شمال سوريا؛ لذا أصبحنا أمام أسوأ سيناريو ممكن: وهو أن تشن إيران مرةً أخرى صراعاً منخفض الشدة، وتعجز أمريكا مجدداً عن اتخاذ رد فعلٍ فعَّال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى