تقارير وملفات إضافية

هل تصبح العملة الرقمية الصينية بديلاً للدولار أم شريكاً له في الهيمنة العالمية؟

هل تصبح العملة الرقمية الصينية بديلاً للدولار؟ سؤال بات يتردد في الأوساط المالية مع الإعلان عن الرنمينبي الرقمي. 

هنري بولسون، وزير الخزانة الأمريكي الأسبق، كتب مقالاً في مجلة Foreign Affairs الأمريكية، عرض فيه لحقيقة المخاطر التي تمثلها العملة الرقمية الصينية على الدولار، وهل يمكن أن تتعايش العملتان معاً؟

وكان مسؤول صيني قد كشف الشهر الماضي أن بنك الصين الشعبي (البنك المركزي) بدأ إجراء اختبارات تجريبية مغلقة للعملة الرقمية الصينية.

وستعتمد العملة الرقمية الصينية الجديدة، على الائتمان الوطني، بخلاف عملة “البيتكوين” و”Libra” التي تخطط فيسبوك لإطلاقها.

ويمكن استخدام العملة الرقمية الصينية في الدفع قليل المبلغ والبيع بالتجزئة والدفع عالي التردد من دون حاجة إلى دفع الفائدة، ولذلك لا يوجد فرق بينها وبين النقود الورقية، وفقاً للصحيفة الصينية.

وتتميز العملة الرقمية الصينية بالتكاليف المنخفضة وعملية المعاملات الأكثر ملاءمة. ولا تتربط النسخة الصينية من العملة الرقمية بأي حساب مصرفي، وتتخلص من تحكُّم نظام الحساب المصرفي التقليدي.

 وبدعم تقنية DC/EP خارج الخط، يمكن تحقيق التحويل بين الحسابات والدفع، في حالة إشارة شبكة الإنترنت الضعيفة أو تعطيل منصة الدفع الإلكتروني.

وقالت الصحيفة، إن العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي الصيني ستستبدل بنفس قيمة العملة المتداولة.

يستعرض الوزير الأمريكي السابق تاريخ الدولار الأمريكي القريب، قائلاً: “في أواخر مارس/آذار، كانت الأسواق المالية العالمية تنهار وسط فوضى جائحة فيروس كورونا الجديد”. 

لذا لجأ المستثمرون العالميون مباشرةً إلى الدولار الأمريكي، كما فعلوا إبان الأزمة المالية عام 2008، واضطر المصرف الاحتياطي الفيدرالي إلى توفير كميات ضخمة من الدولارات لنظرائه الدوليين. وبعد 75 عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يزال الدولار محتفظاً بمكانته وريادته.

والهيمنة الدائمة للدولار مسألةٌ جديرةٌ بالاهتمام، خاصةً بالنظر إلى صعود الأسواق الناشئة والتراجع النسبي للاقتصاد الأمريكي، الذي كان يُمثّل 40% من إجمالي الناتج المحلي العالمي عام 1960، ووصل لحد الآن إلى 25% فقط. لكن مكانة الدولار ستتعرّض لاختبارٍ حقيقي يعتمد على قدرة واشنطن على أن تتحمّل عاصفة كوفيد-19 وتخرج منها بسياسات اقتصادية تسمح للبلاد مع الوقت بإدارة الدين الوطني وكبح جماح العجز المالي الهيكلي.

وتُمثّل حقيقة حفاظ الدولار على هذه المكانة فترةً طويلة حالةً فردية غير مسبوقة تاريخياً، خاصةً في سياق صعود الصين. إذ إنّ الرنمينبي الصيني هو المُرشّح الأقرب حتى الآن لتولّي دور مُنافس الدولار، حيث إنّ حجم الاقتصاد الصيني، وآفاق نموه المستقبلي، والاندماج مع الاقتصاد العالمي، والجهود المتسارعة لتدويل الرنمينبي، جميعها يُمكن أن تمنح العملة الصينية دوراً أكبر.

ولكن ما تزال هناك عقبات كبرى يجب أن تجتازها بكين حتى تبرز عملتها فعلياً بوصفها عملة احتياطي عالمية رئيسية. وتشمل التدابير التحويلية الحاجة إلى إحراز مزيد من التقدم في الانتقال إلى اقتصادٍ قائمٍ على السوق، وتحسين حوكمة الشركات، وتطوير أسواق مالية تتميّز بالكفاءة والتقنين الجيد، لتكتسب احترام المستثمرين الدوليين؛ حتى تستطيع بكين إلغاء ضوابط رأس المال وتحويل الرنمينبي إلى عملةٍ يُحدّد السوق قيمتها.

ويجب على واشنطن أن تكون أكثر ذكاءً حيال الأشياء المُعرَّضة للخطر، نتيجة منافستها مع الصين. كما يجب على الولايات المتحدة أن تحتفظ بريادتها في مجالات الابتكار التقني والمالي، دون الحاجة إلى المبالغة في تأثير عملة الاحتياطي الرقمية الصينية على الدولار الأمريكي. علاوةً على ذلك، يجب أن تُحافظ الولايات المتحدة على الظروف التي شكّلت ريادة الدولار في المقام الأوّل، وهي: اقتصادٌ نابض بالحياة مع سياسات اقتصاد كلي وسياسات مالية سليمة، ونظام سياسي شفّاف ومُنفتح، وقيادة أمنية وسياسية واقتصادية في الخارج.

يُعلّق كثيرون ممن زاروا الصين مؤخراً، على المجتمع غير النقدي الذي حقّقته البلاد بكل انبهار. إذ تجري المعاملات كافةً الآن عبر الهواتف الذكية وأكواد الاستجابة السريعة QR، بدءاً من شراء الوجبات الخفيفة ووصولاً إلى منح المال للمتسوّلين. 

وصارت صفوف الانتظار أمام ماكينات الصرف الآلي مُجرّد ذكرى من الماضي. إذ باتت الشركات الصينية أكثر تنافسية في مجال التكنولوجيا المالية، فضلاً عن أنّ المستهلكين الصينيين أكبر مُستخدميها.

وتدفع تلك الحقائق بالنقّاد إلى اعتقاد أنّ الهيمنة الصينية على مجال التكنولوجيا المالية ربما تُقوّض المكانة العالمية للدولار قريباً. لكن تلك المخاوف ليست جادة، كما لم يتضح بعدُ أن الولايات المتحدة تتخلّف عن الصين فعلياً فيما يتعلّق بمسائل التكنولوجيا المالية. 

إذ لم تكُن الصين رائدة مجال التكنولوجيا المالية، ولكنها اعتمدت التكنولوجيا الجديدة وزادت حجمها سريعاً. وكان استيعاب الشركات الصينية للخدمات الجديدة استثنائياً. لدرجة أنّ حجم معاملات المدفوعات عبر الهاتف في الصين بلغ نحو 41.5 تريليون دولار في عام 2018 فقط مثلاً.

ويعود جزءٌ كبير من الفضل في هذا النجاح إلى أنّ البنية التحتية المالية القائمة في الصين كانت عتيقة، فضلاً عن أنّ نظام الدولة المصرفي كان يفتقر إلى الفاعلية. وعلى القدر نفسه من الأهمية نجد أن بطاقات الائتمان لم تلقَ رواجاً في الصين، لذا كان من المنطقي تماماً أن تقفز البلاد من الاقتصاد القائم على المعاملات النقدية إلى الخدمات المصرفية عبر الهاتف مباشرةً بمجرد توافر الهواتف الذكية الرخيصة على نطاقٍ واسع.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأمريكيين أيضاً سيُعانون من أجل تذكّر آخر مرة استخدموا خلالها النقود الورقية لدفع أي شيء بخلاف المعاملات الصغيرة، كما هو الحال مع الصين “غير النقدية”. ويمكنهم تحويل الأموال من بنك إلى آخر فوراً وبكل سلاسة. كما تتوافر خدمات الدفع عبر الهاتف مثل Venmo وApple Pay، وهي خدماتٌ شبيهة بـAlipay وWeChat في الصين. ولكن الشطر الأعظم من الأمريكيين يُفضلون استخدام بطاقات الائتمان، لأنّ استخدامها هو بنفس سهولة استخدام الهاتف، فضلاً عن أن البنية التحتية المالية آمنة وقوية وجديرة بالثقة.

وسرّعت شركات التكنولوجيا الصينية عملة الابتكار؛ من أجل تلبية طلب المستهلكين والتعويض عن عدم كفاية البنية التحتية المالية في البلاد. علاوةً على أنّها بدأت نشر تقنياتها داخل الأسواق النامية، التي تشجّعت بفضل اقتصاداتها الناشئة، على قبول الهواتف الذكية فوراً، مما أتاح فرصةً هائلة أمام الشركات الصينية لتستحوذ على حصصٍ في تلك الأسواق.

رغم قدرة البنك المركزي الصيني على أن يُطلق عملة رقمية خلال العام الجاري، فإن عناوين الأخبار تُبالغ في مدى التحوّل الذي ستُمثّله تلك الخطوة على أرض الواقع. ومن الخطأ القلق حيال أن هذه الخطوة ربما تُبشّر بنهاية ريادة الدولار الأمريكي، لأنّ شكل الأموال هو ما سيتغيّر وليس طبيعتها.

إذ إن الرنمينبي الرقمي سيظل يُمثّل عملة الرنمينبي الصينية، ولن يُعاد ابتكار العملة مثلاً. وربما تختلف التقنيات، لكن آفاق الصين فيما يتعلّق بوضعية عملة الاحتياطي ستعتمد على العوامل نفسها التي تنطبق على مُصدِر تلك العُملة، حيث ما يزال تسعير النفط -وغيره من السلع الأساسية- يجري باستخدام الدولار الأمريكي، رغم ترويج الحكومة الصينية لاستخدام الرنمينبي في تسوية المعاملات التجارية وسط مساعيها لتدويل العملة.

لم يكُن الامتياز الممنوح للدولار الأمريكي بوصفه عملة الاحتياطي العالمية نتاج تخطيطٍ مُسبق. إذ جاء تفوّق الدولار بسبب مزيجٍ من الأحداث التاريخية، والظروف الجيوسياسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وسياسات الاحتياطي الفيدرالي، والحجم والنشاط الهائلين للاقتصاد الأمريكي. وربما يبدو “الاحتكار الطبيعي” للدولار الأمريكي اليوم على أنّه عنصرٌ ثابت في النظام العالمي، ولكن الدولار والجنيه الإسترليني كانا يحظيان بالمكانة نفسها كعملة احتياطية خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ومع الوقت، على الأرجح سيمنح النظام النقدي الدولي مجدداً وزناً مساوياً نسبياً لعملتين أو أكثر من عملات الاحتياطي العالمي. ويُعَد الرنمينبي مُنافِساً رئيسياً، وهو بالفعل عملة للاحتياطيات إلى جانب الين الياباني واليورو والجنيه الإسترليني. ويُعَد الاقتصاد الصيني في طريقه ليصبح الأكبر بالعالم في المستقبل القريب، ما لم تحدث كارثة كبرى. وسيصبح كذلك أول اقتصاد كبير يتعافى من أزمة فيروس كورونا المستجد.

مع ذلك، فإنَّ إمكانية انضمام الرينمينبي إلى الدولار كعملة رئيسية للاحتياطيات ليست أمراً مفروغاً منه. فتحقيق هذه الوضعية سيتطلَّب من الصين إصلاح اقتصادها وتطوير أسواقها المالية بطرق صعبة، وتنطوي على اعتبارات داخلية معقدة. 

وأُرجِئت مؤخراً طموحات صينية أخرى كانت تتطلَّب تحولات، كما حدث مع هدف تحويل شنغهاي إلى مركز مالي عالمي مكتمل بحلول عام 2020.

المشكلة أمام الصين أنه: ببساطة لا يمكن تأسيس مركز مالي في وجود ضوابط على رأس المال وعدم خضوع العملة لآليات السوق.  

من المستبعد أن يُقوِّض وجود عملة رقمية مدعومة من بكين سيادة الدولار، ولكنه من الممكن أن يُسهِّل مساعي الصين لتدويل الرينمينبي. 

ففي البلدان ذات العملات غير المستقرة، مثل فنزويلا، يُعَد الرنمينبي الرقمي بديلاً جذاباً للعملة المحلية. وبإمكان الشركات الصينية مثل Tencent، التي تملك بالفعل حضوراً كبيراً في البلدان النامية بإفريقيا وأمريكا اللاتينية، أن تُوسِّع نطاق حضورها؛ وهو الأمر الذي يؤدي إلى حصول الرينمينبي الرقمي المستقبلي على حصة سوقية. وقد يساعد ذلك في تعزيز مكانة الرنمينبي العالمية ويصبح جزءاً من استراتيجية أوسع لاستعراض النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني في الخارج.

في الوقت الراهن، يجب أن تقلق الولايات المتحدة أقل بشأن هيمنة الدولار كعملة احتياطي عالمية، وأكثر بشأن قدرة قطاعها الخاص على توظيف تقنيات مالية جديدة. 

فالعملة الرقمية ليست فكرة صينية وحسب، ولا هي تقع ضمن نطاق البنوك المركزية حصراً؛ فالابتكار المالي في العملات الرقمية والمدفوعات عبر الهاتف المحمول يحدث في القطاع الخاص الأمريكي أيضاً.

في الوقت نفسه، تنطوي هذه التقنيات الجديدة على مخاطر كامنة تتعلَّق بصعوبة ضمان الخصوصية القوية للبيانات، وإمكانية تسهيل غسل الأموال والأنشطة المالية غير الشرعية.

ولطالما قادت شركات وادي السيليكون وول ستريت الطريق في خلق الابتكارات المالية، والمنصات الرقمية الجديدة للمعاملات، والأشكال الجديدة للمال. وإذا ما تحققت ثمار تلك الابتكارات، فقد تُوجِد الشركات الأمريكية أفضل العملات الرقمية في العالم وأكثرها أمناً وأماناً.

ويجب على صانعي السياسات إذن تحقيق توازن حذِر بين تقليص مخاطر التقنيات الجديدة ودعم قدرة الشركات الأمريكية الخاصة على الابتكار. لكن الخطر يتمثل في أنَّ الجهات التنظيمية الأمريكية المُفرِطة في الحماسة قد ترفع حاجز الدخول إلى السوق أمام الشركات الأمريكية خدمةً لأولئك الذين يُفضِّلون التمويل الرقمي على الخدمات المصرفية التقليدية في الولايات المتحدة والمستهلكين غير المتعاملين مع البنوك حول العالم، وهم بحسب البنك الدولي نحو ملياري شخص، يعيش السواد الأعظم منهم في بلدان نامية بها أسواق مالية أضعف وعملات متقلبة.

من المؤكد أنَّ الولايات المتحدة يجب أن تأخذ الصين على محمل الجد باعتبارها منافساً اقتصادياً كبيراً. لكن حين يتعلَّق الأمر بتفوق الدولار، فإنَّ الخطر الرئيسي لا ينبع من بكين ولكن من واشنطن نفسها. فيتعين على الولايات المتحدة الحفاظ على اقتصاد ينشر المصداقية والثقة عالمياً. والإخفاق في عمل ذلك سيُعرِّض موقع الدولار الأمريكي للخطر بمرور الزمن.

وتُعَد وضعية الدولار مؤشراً على متانة النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي. ولحماية وضعية الدولار، لابد أن يحافظ الاقتصاد الأمريكي على نموذج نجاح ليحاكيه الآخرون. وهذا بدوره يتطلَّب وجود نظام سياسي قادر على تطبيق سياسات من شأنها أن تسمح لمزيد من الأمريكيين بالازدهار وتحقيق الرخاء الاقتصادي، وقادر على الحفاظ على الصحة المالية للبلاد. فلم يعرف التاريخ بلداً ظلَّ على القمة دون حصافة مالية على المدى الطويل.

وخيارات السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة في الخارج مهمة كثيراً أيضاً؛ لأنَّها تؤثر على المصداقية الأمريكية وتحدد، بدرجة كبيرة، قدرتها على تشكيل النتائج العالمية.

وعلى واشنطن أن تدرك أيضاً أنَّ العقوبات الأحادية –التي أصبحت ممكنة بفضل سيادة الدولار- ليست بلا ثمن. إذ يمكن أن يؤدي تحويل الدولار لسلاح إلى دفع حلفاء الولايات المتحدة وخصومها بحماسة إلى تطوير عملات احتياطي بديلة، بل ربما يتكاتفون معاً لتحقيق ذلك.

وللسبب نفسه، فإنَّ انضمام الرنمينبي إلى الدولار كعملة احتياطي كبرى من عدمه سيتحدد بالكامل من خلال الطريقة التي تعيد بها الصين تشكيل اقتصادها. 

فإذا نفَّذت بكين الإصلاحات المطلوبة، فستخلق اقتصاداً أكثر جاذبية لتصدير السلع والخدمات الأمريكية، وتؤسس مجالاً أكثر تكافؤاً للشركات الأمريكية العاملة في الصين، وهي التغييرات التي ستفيد الولايات المتحدة.

إنَّ قيمة العملة الوطنية بالنسبة لحائزيها هي في النهاية انعكاس للأسس الاقتصادية والسياسية للبلاد. والكيفية التي ستبرز بها الولايات المتحدة في السنوات التالية لأزمة فيروس كورونا ستكون اختباراً مهماً. وأولاً وقبل كل شيء، لابد أن تعزز البلاد سياساتها الاقتصادية الكلية التي تضعها في مسارٍ مستدام للسيطرة على الدَّين العام ومسار العجز المالي الهيكلي، ويجب ألا تبدد الأسس التي حافظت على قوتها الاقتصادية، وهي كلها متجذرة في روح الابتكار والحُكم الفعَّال. وإن كانت واشنطن ستسلك هذا المسار، فهناك كل ما يدعو إلى الثقة بالدولار.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى