تقارير وملفات إضافية

الديمقراطية بدل النفط.. هل يضطر الأمير محمد إلى تخفيف قبضته على السلطة؟

اختارت المملكة العربية السعودية وقتاً مشؤوماً جداً لشن حرب أسعار النفط الأخيرة، وقد تؤدي سياستها إلى زعزعة استقرار دول الخليج برمتها، حسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.

فبينما أدَّت القيود المفروضة على السفر في مختلف أنحاء العالم بسبب فيروس كورونا إلى انخفاضٍ حاد في معدلات الطلب على النفط، ومع فشل أوبك وروسيا في الاتفاق على تمديد اتفاق تخفيضات إنتاج النفط الذي ظل قائماً فترةً طويلة، أعلنت الرياض في 6 مارس/آذار أنها ستمزق الاتفاق تماماً. 

وبدلاً من خفض الإنتاج، عكست المملكة العربية السعودية مسارها، ورفعت الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً.

وكأن ذلك ليس كافياً، فقد أكد السعوديون أنهم سيرفعون الطاقة الإنتاجية الإجمالية إلى مستوى غير مسبوق يبلغ 13 مليون برميل يومياً. ومن ثم، انهارت أسعار النفط -التي كانت منخفضة بالفعل- بمقدارٍ تجاوز نصف قيمتها فوراً. ووصل سعر النفط إلى أدنى مستوياته في 18 عاماً ليصبح أكبر بقليلٍ من 20 دولاراً للبرميل في 18 مارس/آذار الجاري، بعدما ظل حوالي خمس سنوات فوق 50 دولاراً للبرميل، وحوالي 10 سنواتٍ عند 100 دولار للبرميل.

والآن في أسواقٍ على أرض الواقع،  يُباع البرميل بأقل من 10 دولاراتٍ، بل إن منتجي النفط في بعض الأسواق الحبيسة يدفعون للمُشترين ليُخلصوهم مما لديهم من خام، وفق ما قال تقرير نشرته وكالة Bloomberg الأمريكية.

هذه الاستراتيجية السعودية القائمة على توازن بين ضدين جعلت بعض المراقبين يتساءلون عمَّا إذا كانت حرب الأسعار هذه تُشكِّل مخاطر كبيرة على المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى التي يعتمد اقتصادها على النفط؟ وسنستعرض هنا السبب وراء ذلك. 

ويُمكن القول إن “حرب الأسعار” تُعَد بمثابة أداة قوة عشوائية، والسلاح الرئيسي الذي تملكه المملكة العربية السعودية لإعادة الانضباط بين منتجي النفط في العالم

إذ يؤدي تكثيف إنتاج النفط إلى انخفاض الأسعار، ما يُلحق ضرراً بالمنافسين مثل روسيا ومنتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة. فضلاً عن أنَّها تبعث برسالة تذكير مفادها أنَّ مكانة الرياض في صدارة الدول المُنتِجة للنفط بأقل تكلفةٍ في العالم تعني أن جميع المُنتِجين المنافسين يعتمدون إلى حدٍّ ما على أفضال السعودية للحفاظ على حصتهم في السوق.

ولكن هل يمكن لهذه الخطة أن تأتي بنتائج عكسية، ما يؤذي جميع منتجي النفط؟ لقد عانى العالم حرب أسعار قصيرة في عام 2014، وحرب أسعار مُدمِّرة في عام 1986 ألحقت خسائر جسيمة بكل مدينةٍ تعتمد على النفط من مدينة باكو في أذربيجان إلى مدينة بيكرسفيلد في كاليفورنيا.

وتأتي حرب الأسعار الجارية في خضم أزمة اقتصادية عالمية نجمت عن جائحة فيروس كورونا. إذ أسفرت الجائحة بالفعل عن تقليص الطلب على النفط بمقدار العُشر، أي حوالي 10 مليون برميل يومياً. ومع استمرار انتشار الفيروس، فمن المحتمل أن ينخفض ​​استهلاك النفط بدرجةٍ أكبر. لذا يبدو إطلاق حرب أسعار في هذه الظروف تصرُّفاً غير مسؤول، إذا أردنا وصف بأقل الكلمات حدةً. 

عائدات النفط تضمن بقاء النظام.. ومخاوف من احتجاجات واسعة النطاق

تضمن الأنظمة في الخليج بقاءها في السلطة عن طريق توزيع أرباح النفط لشراء دعم شعوبها. وحين تنخفض أرباح النفط، ينخفض ​​الإنفاق الحكومي، بما في ذلك المزايا المالية التي توزعها تلك الأنظمة على مواطنيها لتعويضهم عن نقص مشاركتهم السياسية. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه سبق لحكومتي إندونيسيا وفنزويلا، العضويين في منظمة أوبك، أن أطيحتا بهما بفِعل انتفاضاتٍ أعقبت هزَّاتٍ عنيفة في أسعار النفط.

وكانت الأنظمة الاستبدادية في الماضي تستجيب أحياناً للسخط الشعبي بالسماح بزيادة طفيفة في المشاركة الديمقراطية للمواطنين. 

ولكن في أعقاب انتفاضات الربيع العربي التي شهدها عام 2011، تشعر الأنظمة الخليجية بذُعرٍ شديد يمنعها من فتح المجال السياسي.

وهذا لا يترك خياراً آخر سوى القمع. ففي جميع أنحاء الخليج، ازداد القمع منذ الانتفاضات العربية وانتشار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). فيما قفزت درجة “الإرهاب السياسي” في المملكة العربية السعودية من المستوى الثالث في عام 2011 إلى المستوى الرابع في عام 2018، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المستوى الأول يُمثِّل سيادة القانون الآمنة، فيما يشير المستوى الخامس إلى القمع الحكومي المُطلَق. 

وبالمثل، ارتفعت درجة الإرهاب السياسي في الإمارات العربية المتحدة من درجة 1.5، التي تشهد حرية نسبية، في عام 2011 إلى المستوى الثالث الذي يُعَد أشد قمعاً بكثير في عام 2018. ومن بين الدول العربية التي تعتمد على النفط، لم تظل درجة الإرهاب السياسية ثابتةً إلا في الكويت.

وقد تؤدي الندرة الأخيرة في عائدات النفط إلى إثارة سخطٍ شعبي، ما قد يُسفِر عن تفاقم هذه النزعات القمعية. أمَّا الخطر الأكبر بالتأكيد، فهو أن يؤدي هذا القمع -أو الحرمان- إلى احتجاجاتٍ واسعة النطاق.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن القرار السعودي بخفض الأسعار وزيادة الإنتاج جاء متزامناً مع حملة اعتقالاتٍ ضد منافسي الأمير السعودي محمد بن سلمان داخل العائلة المالكة السعودية والجيش السعودي. 

وبينما قالت الحكومة السعودية إن الاعتقالات استندت إلى مزاعم فساد، فربما كانت خطوةً تمهيدية أيضاً لحرب أسعار النفط التي تُنذِر بتقليص الإنفاق الحكومي بشدة. وقد تكون الاعتقالات بمثابة تحذيرٍ للمتآمرين المناهضين للنظام أو الفصائل الملكية المنافسة لمحمد بن سلمان أو المواطنين السعوديين الساخطين بأنَّ السلطات لن تتسامح مع المعارضة، وربما خطوةً لتمهيد الطريق أمام محمد بن سلمان لخلافة والده على العرش. 

يبدو أنَّ التحرُّك السعودي جاء استجابةً للاتجاهات بعيدة المدى في أسواق النفط وردَّاً على الخلافات الأخيرة داخل أوبك. 

ففي أوائل الشهر الجاري مارس/آذار، اقترح السعوديون في البداية تخفيضاتٍ من شأنها أن تجعل إنتاج النفط العالمي يتماشى مع تقديرات وكالة الطاقة الدولية، التي توقعت انخفاضاً بنسبة 3% تقريباً في معدلات الطلب على النفط طوال السنة التقويمية كلها بسبب فيروس كورونا.

لكن روسيا رفضت الموافقة على تخفيضات الإنتاج الإضافية التي اقترحتها السعودية، ويبدو أنها الوحيدة التي فعلت ذلك تحالف “أوبك بلس”. 

إذ يؤكد واضعو سياسة النفط الروسية -متأثرين بادِّعاءات إيغور سيتشين رئيس شركة روسنفت الروسية- أن إجراء مزيدٍ من التخفيضات لن يسفِر إلَّا عن إطالة فترة انتهازية منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة، الذين كانوا يرتعون مستغلين تخفيضات الإنتاج التي اتبعها تحالف أوبك بلس منذ عام 2016.

فكلما كانت تخفيضات أوبك تُسهِم في تعزيز أسعار النفط، كان منتجو النفط الصخري في الولايات المتحدة يطرحون مزيداً من النفط للبيع. وقد ذكر سيتشين أنَّ المُنتجين الأمريكيين، الذين أصبحوا متعثرين الآن بالفعل بسبب انخفاض أسعار النفط عن مستوى 50 دولاراً للبرميل، يجب أن يُجبَروا على إجراء التخفيضات الضرورية بسبب فيروس كورونا. (وهذا الأمر قيد الدراسة الآن في تكساس بالفعل).

ومع رفض روسيا المشاركة في التخفيضات، سرعان ما غيَّرت الرياض مسارها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المملكة العربية السعودية لطالما أكدت أنها لن تتحمل عبء موازنة السوق بمفردها. وهذا أسفر عن بداية حرب الأسعار. فبدلاً من أن تحمي السعودية عائداتها النفطية، حاولت الاستفادة من الأسعار المنخفضة لاسترداد حصتها في سوق النفط التي تنازلت عنها سابقاً لمنتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة وغيرهم. 

لم يشهد العالم قَط صدمتين متزامنتين كهاتين تؤثِّران سلباً في العرض والطلب في سوق النفط، لذا هناك هالةٌ كبيرة من الغموض تحيط بما سيحدث. ولعل أولى الضحايا المحتملين هي رؤية 2030 السعودية، التي تهدف إلى تنويع مصادر الاقتصاد السعودي وإنهاء اعتماده على النفط. إذ يتطلب هذا التنويع أرباحاً نفطية كبيرة لتنشئة الشركات غير النفطية، وهذه الأرباح لن تتوافر إذا استمرت حرب الأسعار فترة طويلة.

وإذا ظلَّت أسعار النفط منخفضة، سيتدهور الوضع المناخي كذلك؛ لأنَّ النفط الرخيص سيزعزع كفاءة الطاقة ومصادر الوقود البديلة مثلما سيُربِك الديناميات السياسية. فلا شك أن عدد الأشخاص المستعدين لدفع نفقاتٍ إضافية مقابل تقنيات الوقود النظيف سيقل حين يكون البنزين رخيصاً.

ومن المفارقات الكبرى أن إيران قد تكون المُصدِّرة الكبيرة الوحيدة في منطقة الخليج المعزولة عن حرب الأسعار، لأن صادراتها متوقفة بالفعل بسبب الحظر الأمريكي. لكنَّ إيران ستجد كذلك أنه من شبه المستحيل الانتقام بطريقتها المعتادة -أي مهاجمة شحنات النفط والبنية التحتية للمنشآت النفطية- لأن ذلك لن يكون له تأثير يُذكَر على الأسعار في عالمٍ مليء بالنفط الرخيص.

وصحيحٌ أن هذه الحرب يمكن أن تكون قصيرة الأجل؛ لأن السعودية قد تتراجع عن موقفها بعدما نجحت في إثبات استعدادها لإحداثٍ صدمةٍ قوية في السوق وقدرتها على ذلك، لكنَّ الصدمة ستكون قد أثَّرت بالفعل في الاقتصاد العالمي والسياسات الإقليمية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى