تقارير وملفات إضافية

انسحاب القوات الأمريكية.. هل كل العراقيين يرغبون بذلك أم أن القصة أكثر تعقيداً؟

لا شك أن القضية الأكثر إثارة للجدل في العراق منذ
مطلع العام الجاري هي انسحاب أو طرد القوات الأمريكية من هناك، ومواقف الفصائل
المسلحة والقوى السياسية معروفة ومعلنة، لكن السؤال: ماذا عن رأي الشعب العراقي
نفسه الذي قامت غالبيته بثورة تطالب برحيل الطبقة السياسية بالكامل؟

والآن وعلى الرغم من هدوء الأوضاع أو بالأدق
تجميدها فجأة مع انتشار وباء كورونا حول العالم الذي فرض حظر التجول وتقييد
الحركة، لا يزال مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق هو القضية الأكثر
تفاعلاً في الساحة العراقية، ومن المهم تسليط الضوء على مواقف مكونات الشعب
العراقي المختلفة والناس العاديين (غير المرتبطين بالجهات المسلحة والسياسية) تجاه
هذه القضية، بحسب تقرير للأناضول اليوم الخميس 9 أبريل/نيسان.

وتكمن أهمية هذه النقطة في حقيقة أن الاحتجاجات أو
الثورة الشعبية الأخيرة والتي انطلقت مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019، أثبتت وجود
خلافات وتناقضات كبيرة في الرأي والرؤية بين الشعب والطبقة السياسية، حول مجمل
القضايا الداخلية والخارجية المتعلقة بالشأن العراقي.

من الطبيعي أن أي شخص لديه الحد الأدنى من
الانتماء لوطنه سيرفض أي وجود لقوات أجنبية على أراضي بلده، لكن قضية الوجود
العسكري الأمريكي مختلفة ومعقدة وتنطوي على تساؤلات عديدة حول طبيعته، ومن هذه
التساؤلات: هل القوات الأمريكية في العراق بعد عام 2011 قوات احتلال أم قوات
حليفة؟ ولماذا تصاعدت المطالبات بانسحابها في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا هذه
المطالبة تصدر فقط من الجهات السياسية-المسلحة العراقية المرتبطة بإيران؟ وهل رأي
الجهات المرتبطة بإيران يمثل رأي جميع مكونات الشعب العراقي بخصوص هذه القضية؟

يشعر الكثير من العراقيين والمراقبين للشأن
العراقي بالحيرة بشأن توصيف طبيعة الوجود العسكري الأمريكي “الحالي” في
العراق، حيث مر بمراحل مختلفة ومتناقضة، فبعد الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق، في
أبريل/نيسان 2003، كان توصيف القوات الأمريكية في العراق سهلاً وواضحاً بأنها
“قوات احتلال”، حتى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483، الصادر في 22
مايو/أيار 2003 بإجماع الأعضاء، وصف القوات الأمريكية والبريطانية في العراق بأنها
“قوات احتلال”.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2008 توصلت الحكومتان
العراقية والأمريكية إلى اتفاقية تعاون أمني استراتيجي تنص على إكمال انسحاب
القوات الأمريكية من العراق نهاية 2011، وإبقاء عدد “محدود” من الجنود
الأمريكيين في قواعد عسكرية “محدودة”، لأغراض تدريب القوات العراقية
وتقديم الدعم اللوجستي لها.

وتم بالفعل تنفيذ بنود الاتفاقية، وانسحبت القوات
الأمريكية رسمياً من العراق بحلول نهاية 2011، لكن بعد ظهور تنظيم
“داعش” الإرهابي وسيطرته على مدن وأراضٍ واسعة من العراق، في
يونيو/حزيران 2014، طلبت الحكومة العراقية من الولايات المتحدة مساعدتها للوقوف
بوجه تهديدات ومخاطر داعش، وضرورة زيادة حجم ونوع الدعم العسكري الأمريكي المقدم
للعراق، تطبيقًا لاتفاقية التعاون الأمني الاستراتيجي.

وفي سبتمبر/أيلول 2014، تشكل التحالف الدولي
لمحاربة “داعش” من 82 دولة، بقيادة الولايات المتحدة، وتطلبت ظروف الحرب
ضد “داعش” زيادة أعداد القوات الأمريكية في العراق وزيادة قواعدهم
العسكرية. وبحلول نهاية الحرب على “داعش” في 2017، وصل عدد الجنود
الأمريكيين في العراق إلى أكثر من 5000 جندي، ينتشرون في 9 قواعد عسكرية في وسط
وغربي وشمالي العراق، ولم تواجه القوات الأمريكية في العراق أية مشاكل مع الجهات
السياسية-المسلحة العراقية المرتبطة بإيران خلال الحرب على “داعش”.

لكن بعد أن قررت الولايات المتحدة الانسحاب من
الاتفاق النووي مع إيران، في مايو/أيار 2018، وتشديد العقوبات الأمريكية على
طهران، تصاعدت المواجهة بين واشنطن وطهران، ويبدو أن العراق أصبح الساحة الرئيسية
لهذه المواجهة.

بدأت الجهات السياسية العراقية القريبة من إيران
تصعّد من لهجتها ضد الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وبدأت الفصائل المسلحة
المرتبطة بإيران تهدد بشن ضربات ضد القوات الأمريكية في العراق. هذه المواجهة وصلت
ذروتها بعد مقتل الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، بضربة جوية أمريكية قرب مطار
بغداد، فجر 3 يناير/كانون الثاني الماضي.

وبعد هذا الحادث بيومين أصدر مجلس النواب العراقي
قراراً يلزم الحكومة بالبدء بمفاوضات لإخراج القوات الأمريكية، بعد جلسة طارئة
حضرها معظم النواب الشيعة وعدد قليل جداً من نواب العرب السُّنة، وغياب معظم
النواب الأكراد.

ومن جهة أخرى تزايدت بعد مقتل سليماني الهجمات الصاروخية
التي شنتها الفصائل الموالية لإيران ضد القواعد العسكرية التي تحوي القوات
الأمريكية، وأصبح الخطاب الإعلامي للجهات السياسية-المسلحة القريبة من إيران يصف
القوات الأمريكية في العراق بـ(قوات احتلال).

القوى السياسية الشيعية التي تصدرت المشهد السياسي
في العراق بعد انتخابات 2018 هي “ائتلاف الفتح” (الحشد الشعبي)
و”ائتلاف سائرون” (الصدريين). وهذه القوى هي التي تقود حالياً الحملات
السياسية والإعلامية للمطالبة بانسحاب القوات الأمريكية من العراق، وتتكون تلك
القوى من فصائل مسلحة لديها أجنحة سياسية، أو أحزاب سياسية لديها أجنحة مسلحة،
وجميع هذه القوى قريبة من إيران وتوجهاتها.

لكن السؤال هو: هل يمثل “الفتح”
و”سائرون” معظم الشارع الشيعي في العراق؟ بالطبع لا، فهذه القوى لديها
نوعان من الجمهور في الوسط الشيعي بالعراق، الجمهور المنتمي لها تنظيمياً وعقائدياً،
والجمهور “النفعي”، الذي يؤيد توجهات تلك القوى لمنفعة شخصية. إن جمهور
هذه القوى لا يشكل النسبة الأكبر من المكون الشيعي في العراق، بدليل أن النسبة
(الحقيقية) للمشاركة في التصويت في الانتخابات الأخيرة بمحافظات وسط وجنوب العراق
الشيعية لم تتجاوز 20%.

والدليل الآخر هو الأعداد الكبيرة من الجماهير
الشيعية التي شاركت في الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، علماً بأن تلك الاحتجاجات
تركزت في مدن وسط وجنوب العراق الشيعية، وأن جوهر مطالبها هو إزاحة القوى
السياسية-المسلحة القريبة من إيران من المشهد السياسي بالعراق.

لكن هذه القوى ما زالت تفرض سيطرتها ونفوذها في
الشارع الشيعي في العراق بقوة السلاح والدعم الإيراني، والجماهير الشيعية من خارج
“الفتح” و”سائرون” لها رأي آخر في قضية الوجود العسكري
الأمريكي في العراق، فهم يرون أن هذا الموضوع هو قضية استراتيجية تتعلق بأمن
وسيادة ومستقبل العراق، ويجب مناقشتها واتخاذ القرار بخصوصها ضمن توافق وطني شامل
موحد، وليس ضمن إطار المصالح والتوجهات الإيرانية، ولا يجوز للجهات
السياسية-المسلحة المرتبطة بإيران أن تحتكر حق القرار في هذه القضية، واحتكار قرار
الحرب والسلام في العراق.

ويرى الكثير من شيعة العراق خارج إطار
“الفتح” و”سائرون” أنه لا يجوز تعريض الأوضاع الأمنية
والاقتصادية في العراق للخطر خدمةً للأجندات الإيرانية، وهؤلاء العراقيون الشيعة
يرون أن القوات الأمنية العراقية ما زالت بحاجة لدعم القوات الأمريكية لمواجهة خطر
الإرهاب المتنامي، وأن المؤسسة العسكرية العراقية بدأت مؤخراً تؤيد انسحاب القوات
الأمريكية؛ بسبب ضغوطات القوى السياسية-المسلحة المدعومة من إيران، كما أن الرئيس
الأمريكي دونالد ترامب هدد بأنه إذا أجبر العراقيون القوات الأمريكية على
الانسحاب، فسيفرض عقوبات اقتصادية على العراق “أقسى” من المفروضة على
إيران.

أما العرب السُّنة فموقفهم الحالي من الانسحاب
الأمريكي يعد من المفارقات التاريخية، فبين عامي 2003 و2011 كان العرب السُّنة
أكثر مكونات الشعب العراقي رفضاً للوجود الأمريكي، وشهدت مدن ومناطق العرب السُنة
الجزء الأكبر من العمليات المسلحة التي استهدفت القوات الأمريكية، وحتى الآن يوجد
المئات من العرب السُّنة في السجون العراقية، بتهمة المشاركة في أعمال مسلحة ضد
الأمريكيين.

أما الآن، فإن معظم العرب السُّنة (من خارج بعض
القوى السياسية السُّنية المتحالفة مع ائتلاف الفتح) لا يشعرون بالارتياح لانسحاب
الأمريكيين في هذا الوقت لعدة عوامل، منها أن العرب السُّنة (من خارج الطبقة
السياسية) لديهم نفس الهواجس والشكوك والانتقادات الموجودة لدى العراقيين الشيعة
(من خارج ائتلافي الفتح وسائرون)، فضلاً عن أن العرب السُّنة يعتقدون أن الانسحاب
الأمريكي في هذا الوقت سيجعلهم ومناطقهم مكشوفين أمام تهديدين خطيرين، هما تهديد
بقايا “داعش”، وتهديد الميليشيات المدعومة من إيران.

أما موقف معظم الجماهير الكردية من الوجود العسكري
الأمريكي فهو متطابق تماماً مع موقف القوى السياسية الكردية، فهم يرفضون أي انسحاب
أمريكي من العراق حالياً، وينطلق هذا الموقف الكردي من عوامل عديدة، وهي تجمع بين
تحفظات وانتقادات الشيعة (من خارج الفتح وسائرون) ومخاوف العرب السُّنة من تهديدات
“داعش” والميليشيات.

ويبدو أن المكون التركماني في العراق هو الأكثر
انقساماً حول هذه القضية، فهناك تركمان شيعة وتركمان سُنة، التركمان الشيعة
منقسمين إلى جزأين، جزء مرتبط تنظيمياً أو عقائدياً بالجهات السياسية-المسلحة
المدعومة من إيران، وهو جزء يدعم بحماس مطلب انسحاب القوات الأمريكية من العراق،
نصرةً لمواقف إيران.

أما الجزء الآخر من التركمان الشيعة فهم غير
المرتبطين بالقوى السياسية والمسلحة القريبة من إيران، ولديهم نفس هواجس وانتقادات
العرب الشيعة (من خارج القوى السياسية) حول هذه القضية، والتركمان السُّنة أيضاً
منقسمين إلى جزأين بخصوص تلك القضية، قسم منهم يشترك مع العرب السُّنة والكرد في
نفس المخاوف من تداعيات الانسحاب الأمريكي، أما القسم الآخر فيرى أن الانسحاب
الأمريكي قد يكون فيه مصلحة للتركمان، إذا شمل مناطق شمال العراق؛ لأنه سيُضعف قوة
“بعض” الأطراف الكردية التي تستقوي بالوجود والدعم الأمريكي، لاستهداف
وجود التركمان وحقوقهم في العراق.

الخلاصة هي أن المطالبة بخروج القوات الأمريكية من
العراق حق مشروع كفلته القوانين والأعراف الدولية، ومن المؤكد أن خلو العراق من كل
أنواع الوجود الأجنبي والتدخلات الخارجية (الأمريكية أو الإيرانية) يعد مكسباً
استراتيجياً.

لكن هذا الحق يجب أن ينطلق من تفاهمات وحوارات بين
كل مكونات الشعب العراقي السياسية والمجتمعية، مع مباحثات رصينة مع الجانب
الأمريكي، وأن تتم كل هذه الخطوات في إطار مصلحة الشعب العراقي ومتطلبات أمنه
واستقراره، غير أن ما يجري حالياً في العراق بشأن قضية الوجود العسكري الأمريكي هو
فوضى سياسية وأمنية غير محسوبة العواقب، تتم في أجواء متوترة.

وتتفرد أطراف سياسية-مسلحة محددة باتخاذ قرارات
خطيرة تتعلق بحاضر ومستقبل كل مكونات الشعب العراقي، بالاعتماد فقط على رأيها
ورؤيتها لمسار الأحداث وعلى الإرشادات والنصائح والدعم الذي يأتيها من الخارج، دون
التشاور مع باقي الأطراف والشركاء في الوطن أو في العملية السياسية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى