ثقافة وادب

رواية “خاتون بغداد”.. قصة المرأة البريطانية التي اعتبرها العراقيون ملكةً لهم

رواية شاكر النوري
هذه عن الخاتون. والمقصودة هي غيرترود بيل،
المرأة التي يرى عبدالرحمن منيف في كتابه عن تاريخ العراق أنها أنشأت دولة ونصبت
ملكاً.

في بدايات القرن
العشرين كانت الدولة العثمانية تلفظ أنفاسها، والقوى الاستعمارية تتحفز لملء
الفراغ. ولذا فقد أتى إلى العالم العربي الكثير من رجالات الإمبراطورية البريطانية،
جاؤوا كعلماء آثار وباحثين في شؤون السكان والعشائر، وكان أغلبهم مرتبطاً بأجهزة
استخبارات بريطانيا. 

غيرترود
بيل زارت المنطقة العربية في آسيا، تعرفت على قبائلها،
ودرست عاداتها ومعتقداتها وأديانها وتاريخها، وأغرت شيوخ عشائرها بالتعامل مع
بريطانيا ضد الإمبراطورية العثمانية… جمعت الكثير من آثار المنطقة، ودرست تاريخها،
ولذا فقد أصبحت من العاملين المثاليين الذين يضمهم المكتب العربي، وهو المكتب الذي
أقامته بريطانيا لإدارة نفوذها في المنطقة العربية. 

زاملت لورانس العرب،
وجون فيلبي، كانت أقل منهما شهرة، ولكن دورها لم يقل أهمية وخطورة عن أدوارهما. أهم أدوارها كان اختيار فيصل بن الحسين ليصبح ملكاً على
العراق، وهو أمر لم يكن سهلاً، وخاصة بعد أن سلبته فرنسا عرشه في دمشق.

كان على بيل أن تقنع
به رجال العشائر العراقية، وأن تجعل له قبولاً لدى أهلها الذين يتوزعون بين سنة
وشيعة وعرب وكرد، وبين أقليات كثيرة لأديان مختلفة. تمكنت من إبعاد منافسيه،
بالحنكة والمداهنة أبعدت عبدالرحمن النقيب، وبالمكيدة أبعدت طالب النقيب إلى
المنفى في الهند، وكثيرين غيرهم. 

وبعد وصول فيصل بقيت
مشيرته الأمينة، وصاحبة المهام الصعبة، كما كان لها دور في ترتيب البيت الملكي من
الداخل، وفي تنشئة أمرائه وأميراته، ومكنتها علاقاتها من الاطِّلاع على أسرار
الحياة الشخصية لبعض السياسيين العراقيين المهمين في تلك الفترة. كما تركت الكثير
من الكتابات عن العراق، ما جعل المنيف يقول إن كمّ المعلومات عن الخاتون لا بد أن يحرّض
العاملين في السينما والمسرح والتلفزيون على التعامل مع هذه الشخصية؛ إذ يمكن من خلال إعادة قراءتها أن نستعيد مرحلة تاريخية
كاملة، وأن ندرك بوضوح كيف تنشأ الدول، وكيف تُقام الممالك، وكيف يُنَصَّب
الملوك…؟ وأخيراً: كيف يُعزلون؟

في كتابه قافلة
الحبر، ذكر عنها سمير عطاالله أنها كانت الزائرة الثانية لمدينة حائل عام 1914م. غيرترود بيل المغامرة كانت قد دارت طويلاً في غرب
آسيا، وحاولت تسلق الألب من قبل. والطريف أنها -وقد كانت في الرابعة والأربعين- قد
سافرت سراً من دمشق، استأجرت ثلاثة حمالين وخادمين، وأقلعت من دون معرفة أحد،
لأنها كانت تدرك سلفاً أنه لا البريطانيون ولا الأتراك يمكن أن يسمحوا لها بالقيام
بتلك الرحلة.

كانت رحلة غيرترود مليئة بالمغامرات، لكن لدى وصولها إلى
حائل لم يُسمح لها بالدخول إلا في آخر يوم من الزيارة، حكام حائل من آل الرشيد
كانوا موالين للأتراك… أُعطيت منزلاً خارج أسوار المدينة. من حائل توجهت للعراق،
حيث أمضت حياتها في خدمة الحكم البريطاني، أولاً كخبيرة في شؤون القبائل، ثم
كمديرة آثار.

بيل
أول امرأة تنال الدرجة الأولى في التاريخ من جامعة أكسفورد العريقة. كانت حياتها
هادئة نوعاً ما، بدأت رحلاتها خارج بريطانيا بزيارة أحد أقاربها الذي كان وزيراً
مفوضاً في بوخارست، ثم في طهران. تعلَّمت اللغة الفارسية، ومن ثم قامت بترجمة
الأعمال الأدبية لشعراء فارسيين كثيرين. 

في عام 1899 توجهت
إلى القدس لدراسة اللغة العربية، ومن هناك سافرت إلى بعلبك وبترا، ثم إلى تركيا
وسوريا عام 1905م، كانت تلك السفرات مغامرة كبرى لامرأة بمفردها، ولكنها ذات قيمة
فائقة في جمع المعلومات للجيوش المقاتلة في الأراضي العربية، بعدها أصبحت بيل
السكرتيرة الشرقية للسير بيرسي كوكس، المفوض السامي في بغداد، وهو الرجل الداهية
الذي أسهم في رسم حدود العراق والكويت والسعودية. ظلت في العاصمة العراقية حتى
وفاتها عام 1926م.

يصفها أمين الريحاني
فيذكر أن العراقيين يسمونها الخاتون، أي سيدة البلاط التي تُعني بخير الدولة
وازدهارها، وقد توافرت في الآنسة بيل -التي بقيت دون زواج بسبب قصة حب مبكرة-
موهبتان: لسانها وعقلها، تملك ناصية الحديث بأيديها وتتحدث العربية من دون لكنة تقريباً. الإنجليزيةُ ذاتُ الملامحِ
الأرستوقراطيةِ أذهلت أمين الريحاني بطاقتها وسرعة حركتها. بيل واحدة من أربع
مستعربات تحولن إلى ما يشبه الأساطير.

رواية شاكر النوري
تحكي حكاية بيل في العراق، وحيث إن الرواية ليس عليها أن تتخذ حكماً أخلاقياً
صارماً على أبطالها، فإنها أخذت في تحليل الحالة النفسية لمس بيل بعيداً عن
التأطير المسبق للعلاقة بين المستعمِر (بكسر الميم) والمستعمَر (بفتح الميم). من
الواضح أن الشعب العراقي قد أحبها، بل وتحدث عنها الشعراء بإعجاب ممزوج ببعض
السخرية المهذبة، التي لقيت قبولاً حسناً من المس بيل.

 بيل أظهرت
حباً للشعب العراقي لم يتشكك فيه الشعب، ورغم أن ستانلي مود، القائد البريطاني
الذي انتصر على العثمانيين وجاءت ليل برفقته قد لاقى الشماتة بعد موته بالكوليرا،
فإن الشعب آنذاك لم ير في بيل صورة المستعمر البريطاني، لدى البعض اعتقاد أن بريطانيا خلَّصت العراق من العثمانيين الذين
لم يكونوا رحماء بالشعب، خاصة وقد ربط المؤلف قارءه بماري، خادمة بيل الأرمنية
التي تذكر بمذابح الأرمن. 

ولعل الشعب العراقي
قد قدَّر لبيل مجموعة من الإنجازات التي راقت حينَها له. فالشعب الذي ثار ثورات
متعاقبة على الاحتلال الإنجليزي المباشر قد فهم أن تحويل العراق إلى منطقة نفوذ
بريطانية بدلاً من الحكم المباشر كان تطوراً إيجابياً في العلاقة بين الطرفين.
أيضاً فإن تعيين ملك من أسرة عربية كانت تتأهل للخلافة، واستكمال شكل الدولة
بالبرلمان والجيش أنعش آمال الشعب العراقي. كل ذلك كان لجيروترود بيل دور كبير في
تحقيقه، حمد العراقيون لها هذا الدور. 

يردد الأفندية في
زوايا المقاهي المظلمة اسم الخاتون ويبجلونها، ويطلقون عليها المرأة الفريدة،
ويكرهون تسميتها المخبرة أو الضابطة أو الجاسوسة. يقولون “هي على الأقل مخلصة
لتراثنا وأرضنا، ألا يكفي أنها تريد تأسيس متحف ومكتبة؟ هل تتخيلون أنها أنقذت خان
مرجان من فؤوس أمين العاصمة الأحمق، الذي يريد أن يهدم كل شيء باسم التحديث. إنها
تعشق كنوزنا ولا تريد سرقتها، بل تحارب اللصوص الألمان والفرنسيين الذين يسرقونها،
ألا يكفي ذلك كي نحني لها رؤوسنا، ونبخر الطريق الذي تسير عليه؟ هل تصدقون يا
جماعة أنها وقفت ضد بلفور ووعده المشؤوم”.

 الرواية
تتناول حالة غريبة من التماهي بين الضحية والمستعمر، وهي حالة متبادلة، فبعض
الغزاة يعشقون أرضهم الجديدة وناسها، ويعملون لما يعتقدون أنه مصلحتها. 

مس بيل تعشق دجلة
كما بغداد، ولا ترغب حتى في الاصطياف في شمال العراق، لأن ذلك يخرجها من بغداد
الحبيبة التي تشتعل حراً في الصيف. وتفضل أن تموت فيها رغم أنها قد عانت من
التهميش في سنتيَها الأخيرتين. 

جاء التهميش من
الملك الذي صنعته هي، وأيضاً من المعتمد البريطاني الجديد، لكن عاطفتها نحو العراق
بقيت تشدها. جهز فيصل جنازتها بالحفاوة اللائقة. 

اليوم الضحية
العراقي أصبح يتذكر تلك الأيام بالحنين، ويقارن بين الاحتلال الأمريكي الجديد
والاحتلال البريطاني، بين البريطانيين الذين تركوا رفات جنودهم في الأرض العراقية
-سواء بوعي أو بغير وعي- تعبيراً عن علاقة لا تخلو من المحبة نحو البلد. أما
الأمريكان فلم يتركوا إلا الدمار، بل أخذوا حتى رفات جنودهم معهم. 

يقارن العراق اليوم
بين بيل التي أقامت المتحف والمكتبة، وبين بريمر الذي كان جاهلاً بالعراق، البلد
الذي جاء ليحكمه. العراق الذي احتضن كل حضارات العالم القديم التي تركت إبهارها
وبصماتها على التاريخ الإنساني. 

ترك بريمر متاحف
العراق ومكتباتها ومختبراتها وآثارها نهباً للصوص الذين لم يتركوا شيئاً، وتمادوا…
كانوا يدمرون تاريخ العراق وحضارته بشكل يكاد يكون منهجياً. 

حالة الحنين
الملتبسة التي أعادت إحياء ذكرى الخاتون في وجدان العراق المعذب. الرواية مفعمة
بالشجن الشاعري لنا نحن الذين باتوا يبكون على الأطلال. لا تشكل الرواية مرثية
لبيل فقط؛ بل تشعر بأنها مرثية للعراق، ولإنسان العراق وحضارته وبعض قيمه التي
تبدّلت، إذ تحول البلد الذي يجمع الأضداد في حالة من التكامل والتواصل الإنساني
والحضاري إلى بلد تتنافر قواه البشرية، ويبدد رصيده الحضاري السامق كما يبدد
إنسانه الجميل، يكاد لا يبقى من البلد الشامخ إلا الشاي العراقي، الذي عشقته المس
بيل كما عشقنا العراق.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى