تقارير وملفات إضافية

هل تجبر التحديات الاقتصادية الجديدة سلطان عُمان على تغيير النهج الذي ورثه عن قابوس؟

في ظل الطابع الشخصي للقيادة في العالم العربي، فإنَّ وفاة أو إبعاد ملك أو سلطان أو أمير أو رئيس يُعَد بمثابة تدشين لحقبة جديدة في حياة البلد. كان هذا هو الوضع عقب خروج العديد من القادة العرب من الحكم على مدى العقود ووفاة كلٍّ من الرئيس المصري جمال عبدالناصر (1970)، والعاهل السعودي الملك فيصل بن عبدالعزيز (1975) وغيرهما. لكن لم يكن الحال كذلك في سلطنة عُمان بعد رحيل السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، الذي توفي بعد قيادة السلطنة لنصف قرن عقب إزاحة والده من الحكم عام 1970. وفي حين تُعَد وفاته إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في الحياة الوطنية بعُمان، فمن المستبعد أن تؤدي إلى تغييرات جدية في الطريقة التي تحاول بها البلاد إدارة شؤونها الداخلية والإقليمية أو العلاقات الدولية.

يقول الباحث عماد حرب، مدير الأبحاث والتحليل بالمركز العربي في واشنطن، في خلاصة بحثية له بموقع Responsible Statecraft الأمريكي للدراسات الاستراتيجية، إنه بالرغم من ذلك فإنَّ الظروف داخل وخارج سلطنة عُمان ربما تمثل تحدياً للسلطان الجديد هيثم بن طارق آل سعيد، في طريقه للحفاظ على نفس النهج الذي ساد خلال عهد سلفه. وقد يجد السلطان هيثم، الذي يعيش حالياً شهره الرابع في الحكم، أنَّ أكبر تحدياته تكمن في كيفية إدارة الظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة، في ظل التباطؤ العالمي الذي تسبَّبت به جائحة فيروس كورونا، كل هذا في ظل حالة عدم اليقين والفوضى الإقليمية. 

ومن ثَمَّ، من المرجح أن تمارس عُمان كثيراً من الحذر على مدار الأشهر القليلة المقبلة في طريقة تعاملها مع المشكلات المُلِحّة. وفي الوقت نفسه، قد يجد السلطان الجديد من المفيد الاستمرار في المناورات المُجرَّبة التي أثبتت جدواها التي انتهجها السلطان الراحل على مدار أكثر من نصف قرن من حكمه المطلق.

عُمان ليست غريبةً عن المشكلات الاقتصادية التي استدعت ردوداً جدية في الماضي، ويتوجَّب عليها اليوم معالجة الآثار الضارة الناتجة عن تباطؤ الاقتصاد العالمي المُترنِّح من جرَّاء الجائحة. وتعتمد السلطنة على صادراتها من النفط والغاز لتحقيق 70% من عائداتها الحكومية. 

وأنتجت في مارس/آذار الماضي زُهاء مليون برميل يومياً من النفط، ذهب 90% منها إلى الصين. لكن وفقاً لاتفاق “أوبك بلس” الجديد، ستُخفِّض الإنتاج بواقع نحو 200 ألف برميل يومياً في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران المقبلين. وتحتاج مسقط إلى مستوى سعر يقارب 82 دولاراً للبرميل لتحقيق التوازن في ميزانيتها، الأمر البعيد كل البُعد في ظل الأسعار الحالية التي انهارت إلى 11.47 دولار للبرميل. 

علاوة على ذلك، فإنَّ الانكماش الشديد في الاقتصاد الصيني نتيجة جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) لابد سيؤثر على المالية العُمانية. وأخيراً، في ظل تراجع عائدات التجارة والسياحة المحدودة، فإنَّ عُمان مقبلة على مرحلة شد حزام قوية.

وقد بدأ شد الحزام بالفعل؛ إذ وجَّهت وزارة المالية العُمانية مؤخراً الوزارات والهيئات الحكومية بتطبيق تخفيض إجمالي يبلغ 10% في النفقات، مع الحرص على عدم التسريح المؤقت للموظفين الحكوميين العُمانيين أو تخفيض رواتبهم. وكان السلطان الراحل قابوس قد اعتمد على الأموال العامة والإعانة من دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، للمساعدة على وقف حركة احتجاجات خطيرة. لكنَّ الحكومة العُمانية اليوم قد لا تملك نفس القدرة لمعالجة الانعكاسات السلبية لأي اضطرابات عامة محتملة. إذ وصل الدين العام إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019 بعدما كان 15% عام 2015، ومن المتوقع أن يصل عجز الموازنة في 2020 إلى 8.7%، هذا قبل قياس تأثير جائحة كوفيد 19 وتراجع أسعار النفط.

هذه النظرة الخاطفة على مشكلات عُمان المالية تفرض سلسلة من الأسئلة المهمة، مثل: هل يمكن أن يجبر العجز في الأداء الاقتصادي وتداعياته المحتملة السلطان هيثم على المخاطرة باستقلالية عُمان، وطلب المساعدة من دول مجلس التعاون المجاورة؟ وهل هو قوي بما يكفي لإجراء المقايضات المطلوبة لإدارة تكلفة ترشيد الأوضاع المالية للسلطنة؟ أم هل سيختار تفادي إعادة الهيكلة المؤلمة من خلال السعي للانحياز إلى طرف في مجلس التعاون على حساب الآخر؟

كان قابوس مضطراً للمناورة ببلاده وسط ظروف من عدم اليقين على الرغم من أنَّه كان يتمتع بالعلاقات اللازمة للحفاظ على علاقاتٍ تُبقي على مسافة مع كل الفاعلين الإقليميين والدوليين. وكانت القضايا التي تثير قلقه تدور حول جوهر موازنة علاقاته الإقليمية مع أعضاء مجلس التعاون الخليجي الآخرين. ومثال ذلك قراره المتوقع والذكي بإقامة علاقة متوازنة مع طرفي الأزمة الخليجية بين قطر من ناحية والسعودية والإمارات والبحرين من ناحية أخرى. وسيكون حدوث تغيُّر كامل ومفاجئ في هذه القضية من جانب السلطان هيثم أمراً غير معهود.

لكن الأمر الذي قد يضطر لمجابهته هو تجدد الحملة المناهضة لقطر من جانب الدول الخليجية الثلاث التي لا تزال ترفض إنهاء المقاطعة والحصار على قطر. وهنا، يمكن لعُمان أن تساعد الكويت في إحياء المحاولات لاستئناف المباحثات الخليجية الداخلية لحل الأزمة الآن، بعدما بات محتملاً أنَّ السعودية والإمارات أدركتا التكاليف الحقيقية والأثر السلبي على فاعلية مجلس التعاون.

بالإضافة إلى ذلك، يوجد وضع ملتبس في اليمن المجاور، الذي لطالما مثَّلت الحرب الأهلية فيه مبعث قلق لعُمان. وقد حافظ السلطان قابوس على الروابط القَبَلية والاجتماعية القديمة مع سكان محافظة المهرة اليمنية على الحدود. كما استغل مركز عُمان لعقد سلسلة من المباحثات المتعلقة بالتطورات اليمنية.

وبالنسبة لعُمان، فإنَّ أفضل مسار عمل هو زيادة الانخراط كطرف مُسهِّل وربما توسع جهودها لتصبح وسيطاً كاملاً بين الأطراف. والمساعدة على إنهاء الحرب في الجوار لن تخدم فقط الهدف النهائي المتمثل في تجنيب الشعب اليمني تكرار الويلات في عصر كورونا، لكنَّه كذلك يحمي استقرار عُمان ومصالح الأمن القومي بشكل عام.

وبالنسبة لإيران، يمكن أن تواصل عُمان الاعتماد على وجود علاقة جيدة أسّسها وعزّزها السلطان قابوس. بل وتضفي ثلاثة أحداث أخيرة مزيداً من الأهمية والفائدة على تلك العلاقة:

1- وجود ما يبدو أنَّه إدراك من السعودية والإمارات بعدم جدوى الحرب في اليمن، وبالتالي الاستمرار في الإلقاء باللوم على الجمهورية الإسلامية بسبب تصرفات الحوثيين. ومن ثَمَّ قد لا تُتَّهم مسقط بعدم اللياقة بسبب علاقتها الودية مع طهران.

2- وجود ذوبان واضح في جليد العلاقات الإماراتية الإيرانية.

3- انزعاج السعودية للغاية بشأن التحركات لمعاقبتها في الكونغرس الأمريكي لقاء ما يصفه بعض المشرعين الأمريكيين بانتهاكاتها للعلاقات الثنائية طويلة الأمد بين البلدين. وكإجراءٍ احترازي، قد تسعى الرياض للتهدئة مع طهران، الأمر الذي يسمح لمسقط بمجال أكبر للمناورة في علاقاتها عبر ضفتي الخليج.

وينبغي أن يكون سلوك إيران في الخليج مبعث قلق للسلطان العُماني الجديد، وهو الوضع الذي يجب أن يزيد حاجة مسقط للاضطلاع بدور وساطة أكبر.

فيما توافد قادة العالم أو ممثلوهم إلى مسقط لتقديم تعازيهم خلال أيام الحداد الوطني العُماني الثلاثة بعد وفاة السلطان قابوس، لم يظهر المسؤولون الأمريكيون. وفي يوم 15 يناير/كانون الثاني، وصل أخيراً وفد أمريكي بقيادة وزير الطاقة دان برويليت لتقديم التحيات. وفي يوم 12 يناير/كانون الثاني، أعرب الرئيس دونالد ترامب عن تعازيه، مُشيداً بـ”جهود قابوس غير المسبوقة للانخراط في الحوار وتحقيق السلام في المنطقة”. وفي حين لم تتمتع الإدارة بكفاءة كبيرة ولم تُعِر اهتماماً يُذكَر لقواعد السلوك الدولية، كان هذا القليل لا يُغتَفَر بالنظر إلى العلاقة الاستراتيجية طويلة الأمد بين البلدين.

ومهما كانت أسباب هذا التقصير، ينبغي ألا يضيع سلطان عُمان الكثير من الوقت في الشك بأهمية بلاده في السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط. بل سيكون من الأفضل أن تواصل عُمان مسارها الحالي من تحسين العلاقات مع إيران؛ لأنَّ هذا سيساعد دور الوساطة الذي تقوم به في المستقبل. ومهما كان مستوى اهتمام البيت الأبيض بوجود علاقات جيدة مع عُمان، ستستمر البلاد في تمثيل قاعدة أمامية للعمليات العسكرية للولايات المتحدة، وقناة محتملة لعلاقات مأمولة لإنهاء الحرب في اليمن.

تُعَد عُمان نموذجاً لدولة لن يؤدي رحيل قائدها على الأرجح إلى تغييرات جذرية على صعيد السياسة الداخلية أو الإقليمية أو الدولية. وقد ساعد أسلوب الحكم المطلق للسلطان الراحل قابوس إياه على الحفاظ على السيطرة وتدبُّر الظروف الخارجية الخطيرة. لكن ربما تغيَّرت الظروف، وقد تتطلَّب مزيداً من الحذر والاتجاهات السياسية الحصيفة من جانب خلفه. وفي الوقت الراهن، قد يكون أفضل ما يمكن للسلطان هيثم عمله هو محاولة توطيد حكمه داخلياً والإبقاء على تلك السياسات التي ساعدت السلطنة على النجاة في محيطها الخطير: العلاقات المتوازنة مع دول مجلس التعاون الخليجي، والعمل الدؤوب لمساعدة اليمن على التوصل إلى سلامٍ مدني، وعلاقاتٍ منفتحة لكن ليست بلا شروط مع جمهورية إيران الإسلامية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى