تقارير وملفات إضافية

تجاهَل حفتر مراراً وقف إطلاق النار واليوم يطلبه.. لماذا قد تفشل الدبلوماسية في إرساء الاستقرار بليبيا بهذه المرحلة؟

هزائم ميدانية متتالية تكبّدتها قوات الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر في عدوانها على العاصمة طرابلس، لم تترك لداعميه من حل سوى اللجوء إلى الدبلوماسية. توجُّه تفرضه موازين القوى على الأرض، ويغير مسار الهجوم على طرابلس الذي بدأ في 4 أبريل/نيسان 2019.

ففي مرحلة أولى، تمكّن الجيش الليبي من وقف تمدد ميليشيا حفتر المسنودة بالمرتزقة، ثم أحرزت تقدماً سريعاً على خطوط الجبهات، خصوصاً في أبريل/نيسان الماضي، حيث سيطرت على مدن مثل صبراتة وصرمان والعجيلات وزلطن غرب العاصمة، وطهّرتها، وطوّقت قاعدة “الوطية” الجوية. وإثر اشتباكات عنيفة استمرت في مايو/أيار الماضي، بسط الجيش سيطرته على القاعدة الاستراتيجية غربي طرابلس، في سلسلة انتصارات لم تؤمّن العاصمة فقط، بل أطلقت مرحلة انسحاب ميليشيا حفتر من خطوط القتال جنوبي المدينة.

وبحلول 4 يونيو/حزيران الجاري، تمكن الجيش الليبي من تحرير العاصمة بالكامل، ومن بعدها ترهونة وبني وليد، في انتصارات ساحقة في وقت قياسي لا يتعدى شهرين، ما دفع إلى زيادة الحديث عن عدم إمكانية حل الأزمة الليبية إلا بالدبلوماسية وليس الحرب. وهذا رأي يتماشى مع أطروحة للبروفيسور وليام زارتمان، أستاذ الدراسات الدولية بجونز هوبكينز، يشار إليها في حل الصراعات، تقول إن الأطراف تتقاتل إلى حين إدراكها أنه لا جدوى من القتال، ما يدفعها للتفاهم.

يقول فرقان بولاط، الباحث في الشأن الليبي بمركز أبحاث الشرق الأوسط في جامعة صقارية التركية، من المؤكد أنه لا يمكن لأي صراع أن يستمر إلى ما لا نهاية، لكن المبادرات الدبلوماسية التي تغفل ديناميكيات الصراع تشرع الأبواب أمام نزاعات جديدة، ولا تُحقق سلاماً واستقراراً دائمين.

وفي هذه النقطة تحديداً هناك بعض الأسئلة التي ينبغي الإجابة عنها في إطار الأزمة الليبية وهي: ماذا يعني الحديث عن السلام والاستقرار في دول فاشلة مثل ليبيا؟ وهل الشروط اللازمة لإيجاد حل سلمي متوفرة؟

هناك العديد من الأمور التي يمكن أن تفشل دول ما فيها، مثل الفشل في زيادة مستوى رخاء الشعب، وحماية الحدود من المخاطر الخارجية، وتمثيل كافة المجتمع.

وبحسب بولاط فإن العامل الأهم الذي يجعل دولة ما خارج تصنيف الدول الحديثة، ويُدخلها في عداد الدول الفاشلة، هو فقدانها احتكار استخدام القوة في منطقة تخضع رسمياً لها، إما في سائر تلك المنطقة أو في جزء منها. وضع يجعل أكثر من قوة تعلن سلطتها في مناطق جغرافية محددة، وتؤسس نظم إدارتها ومؤساستها وكوادرها الخاصة بها، ما يعني رسم حدود وهمية بينها وبين الآخرين.

فالحدود الوهمية والمؤسسات الموازية والموارد الاقتصادية المُسيطر عليها، تتسبب في خلق مساحات تنافس بين اللاعبين. وعلى سبيل المثال ظهر برلمانان وحكومتان منفصلتان فعلياً في ليبيا إثر انتخابات يونيو/حزيران 2014، وتأسست حكومة الوفاق الوطني كمركز سياسي ثالث، بموجب الاتفاق السياسي الليبي الموقّع بالصخيرات المغربية، في ديسمبر/كانون الأول 2015، الأمر الذي أدّى إلى حدوث نزاعات طويلة الأمد بين الأطراف المحلية.

واستناداً لما تقدّم، فإن تعدد اللاعبين على الأرض، أي وجود أكثر من مركز قوة واحد يعرقل عمل المؤسسات القائمة، فضلاً عن أنه يقوض أُسس الحلول البديلة المقترحة حيال الأزمات.

ولذلك، فإن تحقيق السلام والاستقرار في ليبيا خاصة، والدول الفاشلة عموماً، يمر عبر قدرتها على ضمان احتكار استخدام القوة ضمن ضوابط معينة، من قبل سلطة عليا داخل حدودها، كما في الدول الحديثة الأخرى، بما يضمن عمل المؤسسات وتوزيع الموارد وأمن المواطنين.

ويتبادر إلى الذهن أن إنشاء سلطة يمكن أن يتحقق من خلال دمج الجماعات المسلحة في الوحدات الأمنية، لكن رغم أن الجماعات المسلحة بعد الثورة قاومت عملية التكامل من خلال عدم التخلي عن هياكلها المستقلة، فإنها تميل إلى بناء القدرات العسكرية والاقتصادية من خلال المؤسسات التي تم إنشاؤها بهذا السياق.

وبالنظر إلى أن التكامل ليس بديلاً جيداً لإنشاء سلطة عليا من شأنها إرساء السلام والاستقرار، لكنها الخيار الوحيد لتحقيق ذلك من خلال تركيز القوة التي يمكن أن تحكم المجموعات الأخرى.

ويمكن تقييم أزمة وجود أو عدم وجود تركيز على سلطة في ليبيا من شأنها إرساء السلام والاستقرار على بعدين منفصلين؛ الأول هو البعد الدولي للأزمة، وذلك عبر اتفاق بين الأطراف الدولية الفاعلية في الحرب، وفي إطار هذه الاتفاقية يمكن لقوة التدخل الدولية التي سيتم إنشاؤها إنهاء المعضلات الأمنية بين الفاعلين المحليين.

وبهذه الطريقة يمكن للقوة الدولية أن تلعب دوراً إشرافياً في نزع السلاح من الجماعات المتحاربة، وبناء مؤسسات الدولة الحديثة في العديد من المجالات من الاقتصاد إلى الأمن، ويمكن أن يتحقق ذلك في حال إخماد صراعات المصالح بين الجهات الدولية الفعالة.

يرى الباحث بولاط أنه بالنظر للوضع الحالي على الساحة الدولية، فإن إقامة مثل هذا التعاون أمر لا يمكنه التحقق. فعلى سبيل المثال، حتى لو أعلنت كل من الإمارات وفرنسا ومصر رغبة في دعم الحل السلمي للأزمة، فإنها منزعجة من وجود اتفاقيات لتركيا مع ليبيا، وتذكر بوضوح أنها ستواصل التصدي للحكومة الليبية التي يصفونها بـ”الراديكالية”.

وبالتوازي مع تلك الخطابات، فإنهم يواصلون دعم القدرة العسكرية لحفتر.

ومن جهة أخرى، يمكن القول إن روسيا أيضاً لديها موقف مماثل، فهي من ناحية تعقد اجتماعات مع ممثلي حكومة الوفاق، وتعلن أنها تؤيد تحقيق وقف إطلاق نار دائم، ومن جهة أخرى تظهر نشرها طائرات حربية في قاعدة الجفرة الجوية، ما يؤكد إيمانها بحل الأزمة عسكرياً.

وبهذا، فإن التغيير الجزئي أو الكلي في النهج الحالي لأحد الفاعلين الدوليين الداعمين لحفتر لن يكون كافياً للتناغم الدولي.

هناك بديل آخر لإحلال السلام والاستقرار في بيئة تتميز بالمنافسة الدولية يمكن تحقيقه عبر تغيير جذري في الأبعاد المحلية للأزمة، وهذا يمكن أن يتحول إلى احتكار استخدام القوة من قِبل إحدى الجماعات المسلحة المحلية من خلال قضائها على الأخرى. وفي هذه الحالة، سيتم بناء هيكل إداري ومؤسسات لتعكس مصالح الطرف الفائز.

وعند النظر إلى مرحلة تشكيل التحالفات القائمة على الميدان ومسار النزاعات، فإن توزيع السلطة الذي يهيمن عليه لاعب محلي واحد على الآخرين غير ممكن حالياً.

ورغم أن التحالف المنضوي ضمن الجيش الليبي تفوق على مدى الأشهر القليلة الماضية، بالجزء الغربي من البلاد، فإنه ينبغي عدم تجاهل أن هذا التحالف يتكون بشكل رئيسي من مجموعات تتنافس مع بعضها البعض، وتتوحد لمواجهة تهديد مشترك.

غير أنه حينما يختفي التهديد المشترك فإن كيفية تصرف المجموعات المتحالفة وما إن كان التعاون الحالي بينها يمكن أن يستمر يكتنفه الغموض. وتُظهر أمثلة المنافسة والتعاون في غرب البلاد بعد الثورة حقيقة أن التحالفات الهشة جزء مهم من الصراع على السلطة في ليبيا.

من ناحية أخرى، من الصعب القول إن التحالف العدواني بقيادة حفتر قد انهار من حيث القدرة العسكرية، ولذلك يمكن القول إن الحرب الأهلية تحتفظ بهيكلها متعدد اللاعبين، ولا يمكن ذكر وجود قوة فاعلة من شأنها إحلال الاستقرار بهذا الوضع.

من الممكن تحقيق السلام الدائم والاستقرار في جغرافيا مثل ليبيا، من خلال وجود سلطة يمكنها ضمان أمن حدودها ومؤسساتها ومواطنيها، لكن من الصعب القول إن هناك ظروفاً دولية ومحلية تتيح إنشاء مثل هذه السلطة حالياً.

وفي ظل هذه الظروف، فإن الجلوس إلى طاولة عبر تفعيل القنوات الدبلوماسية لا ينتج عنه سوى الاستقرار لفترة قصيرة مثل وقف إطلاق النار. ولكن لا يوجد حل بخصوص حماية اللاعبين المحليين الذين يرون المنافسة لعبة محصلتها صفر، من الضغوط الهيكلية التي تسببها الفوضى بالبلاد.

كما أن عمليات وقف إطلاق النار قصيرة المدى تتيح الفرصة للطرف الخاسر لجمع القوة وإعادة المهاجمة، بدل تمهيد الأرضية للاستقرار الدائم. وحقيقة أن تجاهل حفتر دعوات وقف إطلاق النار في السابق، وتطرقه إليه في الأشهر الأخيرة، يجب أن تُقرأ في هذا السياق.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى