تقارير وملفات إضافية

تركيا متمسكة بإدلب حتى النهاية.. فهل تضحي موسكو بعلاقاتها الاستراتيجية مع أنقرة؟ 3 سيناريوهات للمرحلة المقبلة

حشدت روسيا جميع أنواع الميليشيات الموجودة في سوريا، في معركة كسر عظم تشهدها إدلب وريف حلب الغربي، بإشراف غرفة عمليات يقودها ضباط روس، مع غطاء جوي كامل من سلاح الجو الروسي وقاعدة حميميم، حيث تمَّ اختبار أنواع جديدة من السلاح الروسي خلال العمليات الحربية، واستهدافُ القوات التركية بشكل مباشر ومتعمد من قِبل الطيران الروسي.

كل هذه رسائلُ قوية ومؤشرات واضحة، تريد موسكو من خلالها أن تقول لأنقرة بأنها لن تتراجع خطوة للوراء، ولن تسمح لنظام الأسد أن يتراجع إلى حدود سوتشي كما تطالب أنقرة، وأنها مستعدة لجميع الخيارات بما فيها التدابير العسكرية.

روسيا دفعت إيران أيضاً للزج بقوات الحرس الثوري، وحزب االله اللبناني، والميليشيا العراقية، وعصائب أهل الحق وحركة النجباء ولواء أبوالفضل العباس، ومرتزقة لواء زينبيون الباكستاني، ولواء فاطميون الأفغاني، إضافة لميليشيات أخرى تعمل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني.

جميعُ هذه الميليشيات، التي اشتهرت بشراستها وجرائمها، شاركت بقوة في معارك ريف حلب، كما شارك في الهجوم القوات والميليشيات المحسوبة على الروس (الفيلق الخامس، الفرقة ٢٥/ مهام خاصة التابعة لسهيل النمر)، والقوات المدعومة إيرانياً (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري)، إلى جانب ميليشيا الدفاع الوطني وميليشيات أخرى تعمل ضد تركيا، مثل ميليشيات “علي كيالي” الملقب “بمعراج أورال”.

من الواضح أن الروس من خلال هذه الحشود قد استنفروا جميع القوى البشرية، والإمكانات الحربية، من أجل الحسم العسكري في إدلب. لكن في الجهة المقابلة، هناك عاملان أساسيان يجعلان تركيا تتمسك بإدلب حتى النهاية.

العامل الأول: هو الجانب الأمني الذي يمس أمن المناطق الحدودية المتاخمة لإدلب، التي كانت تتعرض باستمرار لهجمات إرهابية، تسببت في مقتل مواطنين أتراك، ونشرت حالة من الرعب والقلق وعدم الاستقرار في حياة سكان تلك المناطق، حيث كانت القنابل وقذائف الهاون تستهدف المدارس والأسواق والشوارع والأماكن العامة.

العامل الثاني: اللاجئون السوريون، حيث تكتظ إدلب بأربعة ملايين إنسان يبحثون عن مكان آمن يلجأون إليه. وفي حال أحكمت قوات الروس والنظام سيطرتها على إدلب، فإن هؤلاء سيتجهون نحو تركيا لا محالة، مما يشكل حالة إنسانية تفوق قدرة تركيا الاستيعابية بأضعاف.

تقع إدلب في شمال غربي سوريا مقابل ولاية هطاي جنوبي تركيا، ويحدها من الشمال الغربي ولاية هطاي، ومن الشرق محافظة حلب السورية، ومن الشمال الشرقي مدينة عفرين، ومن الجنوب محافظة حماة، ومن الجنوب الغربي محافظة اللاذقية.

تشترك إدلب مع تركيا بـ 130 كم من الحدود البرية، وتسود حالة من القلق، خشية أن تسفر حملات النظام المستمرة على إدلب عن موجة نزوح مئات الآلاف من المدنيين، تجاه تركيا وأوروبا.

تتمتع إدلب بموقع استراتيجي مهم بالنسبة إلى تركيا، فهي تتشارك سلسلة جبال الأمانوس الممتدة داخل تركيا، وهي الجبال التي كانت عناصر PKK المصنفة إرهابية في تركيا تتسلل من إدلب إليها في الماضي وتنفذ عمليات إرهابية في منطقة هاتاي.

يشكل الموقع الجغرافي الاستراتيجي والتركيبة السكانية لإدلب عوامل تجعلها خاصرة رخوة لأمن تركيا القومي، ومِن ثَم فهي معنية بإدلب بشكل كبير للحفاظ على أمنها الاستراتيجي. بمعنى أوضح، إدلب مسألة أمن قومي بالنسبة لتركيا، وليست على الاطلاق مطامع توسعية، كما هو الأمر بالنسبة لروسيا وغيرها.

من لدن تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، وضعت موسكو نصب عينيها هدف الاستحواذ الكامل على سوريا، دون شراكة مع أحد. لكن حاجتها للعامل البشري، للقتال على الأرض، دفعها للشراكة مع إيران شراكة مرحلية.

أما شراكة روسيا مع تركيا، فقد كانت بهدف سحب البساط من تحت عملية جنيف، التي تديرها الأمم المتحدة بإشراف أمريكا، أي إلغاء العملية السياسية، وإبطال الحل السياسي للمسألة السورية.

لكن يبدو أنه تم سد قنوات العملية السياسية عن سابق عمد، وأعطي الروس المهلة تلو الأخرى للقيام بالحسم العسكري. أسست روسيا عملية أستانا بحجة وقف الأعمال القتالية بين الأطراف المتحاربة، ومراقبة مناطق خفض التصعيد، التي تم تحديدها والاتفاق عليها بين الدول الضامنة لعملية أستانا، روسيا وتركيا ثم التحقت بهما إيران.

لم يكن بإمكان الروس الذهاب بعيداً في مفاوضات أستانا، لولا انسحاب الأمريكيين، وتخليهم عن عملية جنيف، وتركهم الميدان خالياً للروس بشكل تام، مما قد يدل على “صفقة ما” جرت بين الروس والأمريكيين، تقضي بأن تكون سوريا بكاملها منطقة نفوذ روسية.

من الملاحظ بجلاء أن رد الفعل الإقليمي والدولي على الهجوم الروسي الإيراني، في مرحلته الأولى التي شملت السيطرة على الطرق الدولية السورية M4 وM5، جاء خافتاً وخجولاً ولا يتناسب مع حجم المعاناة الانسانية لأربعة ملايين لاجئ، حيث لم تبدأ ردود الفعل بالظهور إلا بعد تفاقم وتعاظم المأساة الإنسانية، والتحرك التركي من خلال الدفع بحشود عسكرية متتالية نحو إدلب.

ظهرت مطالبة لتركيا بتطبيق اتفاق سوتشي 2018، مقابل المطالبة بانسحاب قوات النظام والميليشيا الحليفة إلى ما بعد النقاط التركية التي تمت محاصرتها (11 نقطة مراقبة)، في مقابل سعي روسي لطرح اتفاق جديد يثبت الوضع الراهن ويضع قيوداً على ما تبقى من مناطق محررة.

لكن كان هناك تنسيق تركي أمريكي تمثل بزيارة المبعوث الأمريكي جيمس جفري وسلسلة من الاتصالات الثنائية بين الطرفين، تبعها تنسيق تركي مع الناتو، تجلى في زيارة مسؤولي الحلف لأنقرة، وسعي القيادة التركية لضمان موقف مساند لها في حال قيام عملية عسكرية محدودة أو واسعة، أو تطور الصراع إلى مواجهة تركية- روسية.

لم يظهر موقف عربي واضح حتى الآن، عدا مواقف إعلامية معادية للتدخل التركي، دون أن تصل إلى حد الاصطفاف المباشر مع النظام. كما أن البطء في استجابة المجتمع الدولي للكارثة الإنسانية في إدلب مرده إخفاق مجلس الأمن في تثبيت وقف لإطلاق النار بسبب الفيتو الروسي، وعدم قدرة الأمم المتحدة على تفعيل الآلية الإنسانية.

1- سيناريو العملية العسكرية الواسعة

يتمثل هذا الخيار بانتهاء المهلة دون اتفاق، في هذه الحالة تشنُّ القوات التركية والجيش الوطني السوري هجوماً واسعاً على عدة جبهات قد يؤدي إلى نشوب احتكاك مع الجانب الروسي الذي يوفر تغطية جوية ومدفعية للقوات التابعة له (الفرقة ٢٥ والفيلق الخامس)، بما يعني انطلاق العملية العسكرية التركية التي توعدت بها أنقرة، مع إمكانية الصدام مع روسيا إذا قررت المشاركة في حماية قوات الأسد التي تمركزت مؤخَّراً داخل منطقة خفض التصعيد.

هذا السيناريو كان مستبعَداً لاعتبارات عديدة، فمصالحُ البلدين متعددة الاتجاهات، وهي قائمة في مجالات متنوعة ومختلفة، ومن الصعب إن لم يكُن من المستحيل أن يتخلى الطرفان عن هذه المصالح من أجل إدلب.

لكن في ظل إصرار أنقرة على تحمل تكلفة خيار إجبار النظام على التراجع، وتعنت روسيا التي لم تقدّم أي تنازل على طاولة المفاوضات حتى الآن، لن تدع تركيا تحشرها أمام خيارين، إما تركيا وإما النظام، بل ستذهب لجهة التصعيد حتى نهاية المطاف، آخذة بعين الاعتبار خيار الصدام مع تركيا.

2- سيناريو العملية المحدودة

تقوم خلاله القوات التركية مع فصائل المعارضة السورية بعملية محدودة من عدة محاور تُرغم قوات العدو على التراجع، مع فتح نافذة للتفاوض مع الروس، من أجل الوصول إلى شروط أفضل، وفي حال إخفاق الحلِّ التفاوضي يتم استئناف العملية العسكرية.

صحيح أن روسيا ملتزمة مع النظام السوري منذ اليوم الأول للثورة السورية ولم تتخلّ عنه، فإنها من جهة أخرى ترتبط مع تركيا بعلاقات اقتصادية وتعاون عسكري، وعلاقات استراتيجية في مجال الطاقة والغاز والسياحة، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا إلى أكثر من 35 مليار دولار، وبالتالي لن يذهب المسؤولون الروس والأتراك إلى حد التضحية بهذه العلاقات، ولن يسمحوا للملف السوري بأن يكون سبباً لتدهور العلاقات بين البلدين.

3- سيناريو العودة للتفاوض

يتم خلاله استئناف المفاوضات بين تركيا وروسيا مع تأجيل العملية العسكرية، وهو غير مرجح في الظرف الراهن، ما لم يطرأ تعديل في الموقف الروسي، وإبدائه الاستعداد لتقديم تنازلات جوهرية في مقابل التصعيد التركي.

من المؤكد أن تركيا لن تتراجع عن تنفيذ تهديدها بإبعاد قوات النظام إلى حدود اتفاق سوتشي. ومن الواضح أن ذلك سوف يكون من خلال عملية عسكرية، بسبب تعنت الروس.

تدرك تركيا أن المشاركة في رسم خارطة النفوذ مرتبط بشكل مباشر بحجم قوة الدول، وبما أن تركيا لا تريد أن تكون دولة متفرجة في المسألة السورية، وهذا ما يؤكده الرئيس أردوغان والمسؤولون الأتراك في كل مناسبة، لذلك لا يمكن أن نتوقع تراجعاً تركياً إلى الوراء في موضوع إدلب.

من الملاحظ أن القوى الموجودة على الساحة السورية ترجح سياسة حافة الهاوية. وهي استراتيجية يتبعها الروس باستمرار، فهم يضغطون على تركيا بشتى الوسائل من أجل دفعها للتراجع، لكي يفرضوا سياسة الأمر الواقع.

مقابل ذلك تتحلى تركيا بسياسة النفس الطويل، كما رأيناها في العمليات السابقة، في درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، حيث كانت تعطي الدبلوماسية الوقت الأكبر، لتأخذ مداها، فما يتحقق بالدبلوماسية لا داعي لتحقيقه بالعنف. لكن عندما تصل إلى نهاية الطريق السلمي، تذهب لجهة تنفيذ تهديداتها، بعد أن يظنّ الجميع أنها لن تفعل شيئاً.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى