تقارير وملفات إضافية

هل يحق لمصر التدخل عسكرياً في ليبيا؟ قصة الشرعية بين برلمان طبرق وحكومة الوفاق

صارت ليبيا سوقاً رائجاً للمبادرات والتدخلات الخارجية، فقد خطب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي 20 يونيو/حزيران 2020 في مجموعة من الزعامات القبلية، وذكر أن أي تدخل مباشر في الأزمة الليبية باتت له الشرعية الدولية المناسبة للتدخل، وطرح مبادرته حول تسليم أسلحة حكومة الوفاق للجيش الليبي، ويقصد به قوات حفتر، وتحدث عن إمكانية تسليح القبائل الليبية للتدخل العسكري في ليبيا، وفي نفس السياق تحدث عن السلام والحل السياسي والوفاق وأنه لا يطمع بثروات ليبيا.

بعد أيام من خطاب السيسي خرج الرئيس التونسي قيس سعيد للحديث عن مبادرة أخرى، وهي أن يجمع من كل قبيلة مشايخها ليكتبوا دستوراً لليبيا، وأن ذلك في ظنّه هو الحل الذي سينهي القتال ويعيد الاستقرار إلى ليبيا. حاولت مصر أن تسوق مبادرتها في الجامعة العربية لكن قراراً لم يصدر بشأن تبنِّي المبادرة لرفض دول عربية هذه المبادرة. مبادرتا السيسي وسعيد أثارتا أسئلة عميقة في الشارع الليبي ومن المسؤولين الليبيين الذين استهجنوا عدم إدراك المسؤولين العرب للأزمة الليبية ومحاولتهم التدخل في شؤون ليبيا عسكرياً وسياسياً. كما أن هذه المبادرات أثارت أسئلة حول الشرعية والسيادة الليبية ومدى قدرة الليبيين على امتلاك أزمتهم؟

هذا السياق طرح سؤال الشرعية ومدى إدراك العرب للأزمة الليبية، وما هي المؤسسات الشرعية في البلاد؟

أولى القضايا التي عادة ما تُطرح عند الحديث عن الشرعية هو مجلس النواب الليبي وكونه برلماناً منتخباً من الشعب؛ ومن هذه الزاوية تنطلق مصر في التعامل مع عقيلة صالح رئيس مجلس النواب بطبرق كأساس للشرعية، في نفس الوقت إهمال حكومة الوفاق المعترف بها دولياً كما فعل الرئيس المصري عندما تحدث عن شرعية مجلس النواب كونها هي الشرعية التي سيستند عليها إذا قرر التدخل عسكرياً في ليبيا، أما الرئيس التونسي فهو تحدث عن شرعية مؤقتة للمجلس الرئاسي ومن ثم مرحلة انتقالية جديدة في ليبيا تسعى لشرعية دائمة. لكن كل ذلك غير دقيق ويفتقد لفهم ما جرى في اتفاق الصخيرات ولم يذكر الاتفاق سلطة مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في ليبيا. يمكن تلخيص تلك الأحداث المهمة في سياق الشرعية في ما يلي:

في نهاية مارس/آذار عام 2014 وبعد خروج مظاهرات في ساحة الشهداء في طرابلس قرر المؤتمر الوطني الاستجابة لهذه المظاهرات المطالبة بإنهاء عمل المؤتمر الوطني العام الذي انتخب في 7 يونيو/حزيران 2012 وانتهى عمله في 17 فبراير/شباط 2014  رغم أن الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الانتقالي بعد الثورة لم يحدد مدة زمنية محددة للمؤتمر الوطني العام، لكن تحت ضغط من بعض الأحزاب ومؤسسات من المجتمع المدني قرر المؤتمر الوطني تأسيس لجنة سميت بلجنة فبراير لتعديل الإعلان الدستوري كان أحد هذه التعديلات الإعلان عن انتخابات برلمانية جاء على إثرها مجلس النواب الحالي.

حددت لجنة فبراير التي أقرها المؤتمر الوطني العام السلطة المنتخبة في البلاد، وقد حددت تلك اللجنة مدة عمل البرلمان في المادة (5) من قراراتها بقولها: (تبدأ ولاية مجلس النواب من تاريخ أول اجتماع له وتنتهي بنفاد الدستور. وفي جميع الأحوال لا تتجاوز ولايته مدة ثمانية عشر شهراً من تاريخ أول جلسة للهيئة التأسيسية لوضع الدستور، ما لم تمدد ولايته باستفتاء).

وقد كان من المفترض أن ينتهي عمل مجلس النواب في أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 لكن ذلك لم يحدث ولم يجر أي استفتاء حول هذا المجلس. لكن كيف اكتسب المجلس السلطة التشريعية بعد ذلك؟

أعاد اتفاق الصخيرات الذي وقّع في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر/كانون الأول عام 2015 بإشراف المبعوث الأممي للأمم المتحدة وبحضور سفراء الدول العربية ومن بينها مصر وتونس، الاتفاق الذي أقر في مجلس الأمن بالقرار 2259 بإجماع الأعضاء.

هذا الاتفاق أعطى الشرعية لمجلس النواب وللمؤتمر الوطني العام باعتبارهما السلطتين الشرعيتين اللتين جاءتا إلى السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة. لذا فإن مجلس النواب لم يكسب الشرعية إلا من خلال اتفاق جرى بين الأطراف المتنازعة في ليبيا قسمت فيه السلطة بين جسمين أقرب في مهامهما إلى سلطة تشريعية بغرفتين، وهذا ظاهر في كثير من المهام والقرارات التي تطلبت اتفاق المجلسين.

  إذا علمنا هذه الخلفية فإن القول بأن مجلس النواب هو السلطة التشريعية دون الالتفات لاتفاق الصخيرات هو تجنّ على الحقيقة فلا شرعية لمجلس النواب إلا في إطار اتفاق سياسي أعطيت له الشرعية مقابل شروط كثيرة ليس من بينها العدوان على طرابلس أو إقفال الموانئ النفطية. 

والغريب أن هذا المجلس انتقل منه 70 عضواً إلى طرابلس وبدأوا في عقد جلساتهم، ومع ذلك يصر الرئيس السيسي على أنه يمكن التعامل مع رئيس سابق -لأن المجلس في طرابلس انتخب رئيساً جديداً له في طرابلس وهو الأستاذ حمودة سياله- على أنه مجلس النواب ويمثله وهذا منافٍ للقانون واللائحة الداخلية لمجلس النواب فليس مع عقيلة صالح سوى 35 عضواً من أعضاء مجلس النواب.

أيضاً يستند السيسي في مبادرته إلى مخرجات مؤتمر برلين في مطلع عام 2020 على اتفاق الصخيرات، فكيف يرفض الرئيس السيسي اتفاق الصخيرات ويستند إلى مخرجات برلين التي أخذت من الصخيرات والأجسام المنبثقة عنه مرجعية لها؟ كيف ومخرجات برلين كما بيّن رئيس المجلس الأعلى للدولة “خالد المشري” تنص في المادة 47 منها على محاسبة منتهكي القرارات الدولية وحقوق الإنسان في ليبيا؟! وبهذا المنطق يعتبر خليفة حفتر أول هؤلاء المنتهكين وفقاً لمحكمة الجنايات الدولية وتحقيقاتها. 

كانت ليبيا من أوائل الدول العربية التي كتبت دستورها وهي الأولى التي كُتب لها دستور أقر في الأمم المتحدة، هذا الدستور شهد تعديلات عدة تتعلق بإدارة الدولة وشكلها وألغي العمل به مع انقلاب عام 1969 الذي قام به القذافي. عقب ثورة 2011 عرض المجلس الوطني الانتقالي خارطة طريق تضمنت انتخاب لجنة لصياغة دستور جديد للدولة الليبية وبالفعل انتخبت هذه اللجنة وأتمت كتابة الدستور وقدمته لمجلس النواب برئاسة عقيلة صالح إبان انعقاد جلسات المجلس في طبرق. لكن هناك مجموعة من الأعضاء التابعين لخليفة حفتر عطلوا الدستور باعتبار أن هذا الدستور يمنع العسكريين من الترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لذا عطل “عقيلة صالح” الاستفتاء الشعبي على الدستور وماطل في إقرار قانون للاستفتاء على الدستور.

الدستور هنا سيمثل انتهاء المرحلة الانتقالية، لكن فيما يبدو أن مصر وتونس تريدان استمرار هذه المراحل الانتقالية التي كانت هي عقدة المنشار منذ المرحلة الانتقالية الأولى في انتخابات المؤتمر الوطني العام. ومن ثم فإن هذا الدستور هو الطريق الصحيح للحل لاستقرار البلاد، لكن فكرة الرئيس المصري القائمة على تسليح القبائل الليبية كبداية للحل لن تسهم إلا في المزيد من التوتر.

فالقبيلة بليبيا ليست تسلسلاً عشائرياً إنما أخذت صيغة إدارية وزعاماتية لشخصيات بعينها استخدمت القبيلة للوصول للسلطة عبر مؤسسات الدولة، لذا فليس لهذه القبائل لا القدرات المالية ولا العسكرية وليس لها قانون واضح ينظم تلك البيوت والعشائر، ومن ثم فإن إحلال القبيلة محل الجيش كما ترى المبادرتان المصرية والتونسية قد يكون أحد أسباب دخول البلاد إلى مزيد من حالات الفوضى.

إذا كان السياق التاريخي والسياسي لا يؤيد الآراء التي طرحها الرئيس المصري.. فيبقى السؤال ما الذي يريده السيسي من ليبيا؟

يبدو أن الهدف الحقيقي وراء تصريحات السيسي هو التقدم الذي أحرزته قوات الوفاق في المنطقة الغربية ووقوفها على حدود سرت، وأن ذلك قد أثار حفيظة دولة الإمارات ومن ورائها مصر في أن تجاوز سرت يعني السيطرة على الموانئ النفطية وإنهاء مشروع خليفة حفتر. لذا فإن مبادرة السيسي تتحدث عن أن تجاوز سرت والجفرة خط أحمر بالنسبة للقاهرة وليست ليبيا.

لا يمكن إهمال هذا السياق لفهم خطاب السيسي الأخير، لذا فإن الصراع الحقيقي الآن حول شمال إفريقيا في مسألتين اثنتين: الأولى تتعلق بليبيا وقدرة تركيا على دعم حكومة الوفاق في السيطرة على كامل التراب الليبي وطرد المرتزقة الروسي وإقصاء مصر والإمارات استراتيجياً من ليبيا. الثانية تتعلق بمسألة شرق المتوسط وهي المسألة الأخطر التي أعطت لشرق ليبيا أهميته، حيث إن الحدود التي رسمت بين ليبيا وتركيا هي حدود بين تركيا (مناطق كأنطاليا ومنطقة فتحية وغيرها) وشرق ليبيا (مدينة درنة وشرقها)، لذا فإن للشرق الآن أهمية جديدة هي التي ستجعل النزاع إما أن يزداد وتُدخل البلدين في صراع، وهذا احتمال ممكن وليس محتملاً (أي أنه مرجح)، أو أن تصل تركيا للاتفاق برعاية الولايات المتحدة الأمريكية لنقل الغاز الإسرائيلي عبر تركيا، وهذا سيجعل مصر وتركيا في مركب واحد يحقق مصالح البلدين، وربما يمكن خلالها أن يصلا للاتفاق أو أن يعدل السيسي عن منطق العنف في التعامل مع الأزمة الليبية.

هذا قد يثير تساؤلات حول إمكانية تجاوز مصر السيسي للإمارات في مصالحها الخارجية، البعض ينكر إمكانية ذلك في ليبيا، والبعض يستدل بما حدث في اليمن، لكن الخلاف الحقيقي هنا يبدو في طبيعة النظام السياسي المصري وليس من مصالح القاهرة الاستراتيجية.

السيناريو المحتمل (الراجح) هنا أن تصريحات السيسي لن تكون واقعاً، لكنها ستوضع في الحسبان عند الجدل حول التقدم فيما بعد سرت، وهذا ما حدث حين تحدثت قوات الأفريكوم والخارجية الإيطالية عن خطورة تجاوز سرت خاصة بتواجد قوات فاغنر واحتمال أن يتدخل الرئيس المصري في الشرق الليبي، هذا بالطبع سيشكل عامل ضغط في حال أرادت حكومة الوفاق اتخاذ قرارها بالتوجه نحو الشرق الليبي وبسط سيطرتها عليه كما هو واضح من تصريحات رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج.

في المقابل، هناك سيناريو آخر ممكن يتحقق وهو أن يبدأ السيسي في ضمان نفوذه في الشرق من خلال مزيد من الدعم المسلح وإدخال بعض الجنود على الأرض وتركيب بعض الدفاعات الجوية حتى يمنع تقدم حكومة الوفاق المدعمة من  تركيا، كما تقدم القاهرة على عقد صفقات مع روسيا لضمان استمرار الوضع في الشرق على ما هو عليه حتى تضمن مصالحها في ليبيا بدعم خليفة حفتر وعقيلة صالح.

سيناريو آخر هو أن تتمكن حكومة الوفاق بدعم تركي من السيطرة على الشرق الليبي بشكل سريع يمنع السيسي من تنفيذ تهديداته، وهذا سيظهر من الموقف الروسي، فإذا تراجع الروس بناء على اتفاق مع الأتراك فإن إمكانية هذا السيناريو تظل واردة. 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى