تقارير وملفات إضافية

شمال بنفوذ صيني وجنوب بنفوذ أمريكي.. هل يمكن أن يتحول الخليج إلى جبهة منافسة جديدة بين واشنطن وبكين؟

في الوقت الذي تشهد فيه الساحة العالمية تنافساً بين الولايات المتحدة والصين في حرب باردة جديدة، فإن ذلك التنافس ينطوي على إمكانية تعميق العديد من خطوط الصدع الجيوسياسي وتوسيع نطاقها في السياسة العالمية. وأحد خطوط الصدع هذه متجذرٌ بدرجة خطيرة في منطقة الخليج الاستراتيجية الحيوية الغنية بالنفط، غير أنها تفتقر إلى الاستقرار في الوقت ذاته. كما أنه يقسّم الخليج إلى مناطق شمالية وجنوبية، ينحاز كل منها إلى طرف من أطراف التنافس، كما يقول أمين سايكل، الأستاذ بمركز الدراسات العربية والإسلامية التابع للجامعة الوطنية الأسترالية، في مقالة له بمجلة The Maritime Executive الأمريكية.

سعت الصين حتى الآن للعمل متجاوزةً هذا التقسيم، في تعاملات تشمل جانبي الانقسام. ومع ذلك، فهي تشترك في مصالح قوية معادية للولايات المتحدة مع الدول والجهات الفاعلة من غير الدول التي تشكل المنطقة الشمالية، حيث يمكنها تعزيز المنافسة مع الولايات المتحدة على حساب مزيد من التقلبات الإقليمية.

وينبغي أن نتذكر هنا أن خطوط العداء مرسومة بطريقة واضحة في الخليج العربي أكثر من أي جزء آخر في الشرق الأوسط. إذ تتصدر الخصومات العرقية والطائفية والثقافية والتاريخية التقليدية بين العرب والإيرانيين الآن خطَّ الصدع الجديد الذي غذّت تعميقه الولايات المتحدة وروسيا بدرجة أساسية خلال السنوات الأخيرة.

وسيطر تحالف عربي مدعوم من الولايات المتحدة بقيادة السعودية، وبدعم بارز من إسرائيل، على المنطقة الجنوبية مناوئاً لإيران، باعتبارها الفاعل “المزعزع للاستقرار” في المنطقة. على الجانب الآخر، أسسَّ محور روسي إيراني لهيمنةٍ مضادة في المنطقة الشمالية، حيث عملت موسكو وطهران، بدعم من قوة حزب الله اللبناني المتحالف مع إيران، على إنقاذ نظام بشار الأسد في سوريا. وبذلك، بات نفوذ طهران المباشر يمتد في هذه المنطقة، من بغداد إلى بيروت.

ولم تبق الصين بمعزل عن هذه التطورات الإقليمية. فبعد أن أقامت علاقات صداقة شاملة مع روسيا، عملت في كلتا المنطقتين في الخليج على تحقيق هدفين رئيسيين. الأول، هو تلبية احتياجاتها الاقتصادية من خلال تأمين حصصها من النفط وتوسيع نطاق العلاقات التجارية مع جميع الدول المكونة للمنطقة. والآخر، هو إقامة علاقات استراتيجية أعمق مع فواعل المنطقة الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح الولايات المتحدة.

ومن ثم أصبحت الصين شريكاً اقتصادياً واستراتيجياً لا غنى عنه لإيران. لنشهد، خلال العقد الماضي، استثمارَ الشركات الصينية أكثر من 5 مليارات دولار أمريكي في تحسين منشآت تكرير الغاز والبنية التحتية النفطية في إيران، وتوسيع طرقها السريعة، وتحديث منظومة مترو طهران (الذي بُني في الأصل بمساعدة صينية)، وتطوير “مجمع مهران للبتروكيماويات” في غرب إيران.

كما قدمت الصين التمويلَ والمساعدة التقنية لمشروعات تشمل تطوير السكك الحديدية والمستشفيات. وفي عام 2018، أنشأت شركة استثمار صينية مملوكة للدولة، “مجموعة سيتيك” CITIC Group، خطَّ ائتمان استثماري لإيران بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي، مع وعد من “بنك التنمية الصيني” بتقديم 15 مليار دولار أمريكي إضافية.

وخلال زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لإيران في يناير/كانون الثاني 2016، أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني أن “الصين وإيران تخططان لبناء علاقات اقتصادية تصل قيمة استثماراتها إلى 600 مليار دولار”. كما نما حجم التجارة بين الجانبين من 1.6 مليار دولار أمريكي سنوياً في الثمانينيات إلى 15 مليار دولار أمريكي في عام 2007، ونحو 45 مليار دولار أمريكي في 2014-2015 (انخفض في عام 2018 إلى 33 مليار دولار أمريكي).

اليوم، الصين هي ثاني أكبر شريك تجاري لإيران بعد الإمارات، وعلى الرغم من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، لا تزال الصين تستورد نحو 9% من احتياجاتها النفطية من إيران. كما وجدت بكين أن من مصلحتها ضمّ إيران إلى خطتها المتعلقة بمبادرة “الحزام والطريق” بوصفها حلقة وصلٍ مهمة في المبادرة التي تهدف بها إلى توسيع نطاق نفوذها العالمي.

بعد روسيا، أصبحت الصين مورداً رئيسياً لبيع الأسلحة إلى إيران، خاصة منذ عام 1986. وقد تضمنت إمدادات الصين من الأسلحة صواريخ “سيلك وورم” HY-2 Silkworm المضادة للسفن، كما كان للصين دور مهم في تطوير برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، خاصة فيما يتعلق بتقديم المساعدة التكنولوجية والتصميم. ووقع البلدان اتفاقية دفاع مشترك في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وتعهدا بتوثيق التعاون العسكري وجهود مكافحة الإرهاب.

على الرغم من إحجام بكين عن تقديم دعم عسكري مباشر لروسيا وإيران في سوريا، فقد دعمت بقوة ذلك التدخل العسكري وانضمت إلى روسيا في نقض أي قرارات مقترحة لمجلس الأمن الدولي ضد مغامرتها في سوريا، أو ضد إيران.

ومع استمرار الحرب البادرة بين الولايات المتحدة والصين والعداء بين الولايات المتحدة والصين، ولا سيما في حالة إعادة انتخاب ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني، فمن المتوقع أن تعظّم بكين شراكتها الاستراتيجية مع المنطقة الشمالية للخليج. غير أن هذا لا يعني أنها ستجازف بتعريض علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج العربية للخطر، أو مع إسرائيل، التي تحافظ معها على مستوى بارز من التعاون في قطاعات الذكاء الصناعي والتقنية. ومن ثم، إذا ضغط ترامب بشدة على شي، فإن الأخير سيكون لديه مساحة كبيرة للتعويل عليها مع القوى التي تشاركه تفكيره في الخليج.

وفي الختام، لا شك في أن تصعيد التنافس بين الولايات المتحدة والصين في الخليج لا يمكن إلا أن يعزز خط الصدع الجيوسياسي الخطير في منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية، غير أنها تفتقر بشدة إلى الاستقرار والأمان المستدام. وفي عهد ترامب، لا تزال الولايات المتحدة وإيران في مسار تصادم ولا ينقص الخليج أي حافز إضافي لينفجر عند أول شرارة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى