تقارير وملفات إضافية

“حلم تاريخي أم كابوس شيطاني”.. كيف تختلف نظرة المصريين والإثيوبيين لسد النهضة؟

 بينما كتب المصريون مئات، إن لم يكن الآلاف من أبيات الشعر عن النيل، فإن الناطقة باسم رئيس الوزراء الإثيوبي نشرت مؤخراً قصيدة من 37 بيتاً، تُدافع فيها عن السد الذي تبنيه بلادها على النيل الأزرق، ليلخّص الشعر الاختلاف بين نظرة المصريين والإثيوبيين لسد النهضة والنيل برمته.

يعود الاختلاف بين نظرة المصريين والإثيوبيين لسد النهضة إلى اختلاف سلوك النيل نفسه في كل بلد منهما.

“مصر هبة النيل” ليست مجرد عبارة بلاغية، بل هي حقيقة جغرافية، فلولا النيل ما كانت مصر إلا صحراء جرداء في معظمها.

يخرج النيل من إثيوبيا مراهقاً ثائراً، طائشاً يصعب السيطرة عليه، ليصل النيل إلى مصر ناضجاً كريماً، ثم أخضعه المصريون لمزيد من الترويض عبر السد العالي.

اليوم بعد أكثر من نصف قرن من ترويض مصر للنيل عبر السد العالي تريد إثيوبيا أن تروّض النهر العظيم بدورها، وسد النهضة وسيلتها لذلك، وسيلتها للحصول على الثروة من النهر الذي يخرج من أراضيها دون أن تستفيد منه سوى بأقل القليل.

كانت السدود هي أحد المشروعات القومية المفضلة لكثير من المستبدين في العالم، من الاتحاد السوفييتي، مروراً بدول العالم الثالث بعد استقلالها وصولاً للصين الحديثة.

ولكن اليوم بات ينظر بتشكك أكبر لجدوى السدود، في ظل آثارها البيئية، وتكاليفها الباهظة مقارنة بالطاقة الهوائية والشمسية.

لكن في إثيوبيا، فإن الحماسة لمشروع سد النهضة غطّت على تلك الشكوك، وزادت من الضغوط على آبي أحمد ليبدأ ملء السد الشهر المقبل، بغضّ النظر عمّا يمكن أن تحمله محادثات مرتقبة مع مصر والسودان.

وعدم الشروع في ذلك يمكن أن يتسبب برد فعل سيكون “كارثياً بالنسبة لرئيس الوزراء الإثيوبي وحكومته”، وفق المعارض البارز جوهر محمد.

وحتى الآن لم يظهر آبي أحمد أي إشارة على التراجع عن الجدول الزمني، رغم القمة الإفريقية المصغرة وجلسة مجلس الأمن.

بدأت إثيوبيا ببناء السد عام 2011، خلال حكم رئيس الوزراء ميليس زيناوي، الذي قدَّم المشروع كمحفز للقضاء على الفقر.

وأسهم الموظفون الرسميون براتب شهر في المشروع ذلك العام، وقد أصدرت الحكومة سندات سد للإثيوبيين في الداخل والخارج.

وبعد نحو عقد، لا يزال السد مصدر أمل لبلدٍ أكثرُ من نصف سكانه -البالغ عددهم 110 ملايين نسمة- محرومون من الكهرباء.

وبعد ثماني سنوات تقريباً على وفاة ميليس، فإن الوجه الأبرز للمشروع هو على الأرجح وزير المياه سيليشي بيكيلي، وهو أكاديمي سابق يُبدي اهتماماً بالغاً بموضوع السد.

ففي مؤتمر صحفي في يناير/كانون الثاني، في أديس أبابا، ردَّ على سؤال لأحد الصحفيين حول ما إذا كانت دول أخرى بخلاف إثيوبيا قد تلعب دوراً في تشغيل السد.

وحدّق سيليشي في عينَيْ الصحفي ليجيب ببساطة “إنه سدّي”.

وفي تلك الثواني الخمس انتشر وسم “إنه سدي”.

وانتشر تسجيل لذلك المقطع على الإنترنت بشكل واسع، وبات البحث عن وسم “إنه سدي” يأتي بتعليقات لا نهاية لها تشيد بالمشروع.

حتى إن مسؤولين قاموا في فعاليات مؤخراً بتوزيع قمصان “تيشيرت”، تحمل هذا الشعار، على صحفيين إثيوبيين يرتدونها بفخر خلال تنقلهم في المدينة.

لعشرات القرون تعامل المصريون مع النيل باعتباره هبة إلهية مسلّم بها، وحتى في ظل أسوأ عصورها كان اقتصاد مصر المنتمية للشرق الأوسط أكثر ازدهاراً من دول منابع النيل، التي تنتمي في أغلبها للقرن الإفريقي وشرق إفريقيا.

في مقابل هذا الاعتماد المصري الكامل على النيل، واعتبار مياهه بديهية جغرافية، أو هبة إلهية فإن الإثيوبيين لديهم نظرة خاطئة، ولكن شائعة بدت واضحة في كلمات المندوب الإثيوبي في مجلس الأمن، وهي أن رخاء مصر وحضارتها التي ارتوت من مياه النيل جاءت على حساب إثيوبيا، وكأنهم يعتبرون ازدهار مصر أدى إلى فقر إثيوبيا.

ومن هنا جاء حديث المندوب الإثيوبي خلال جلسة مجلس الأمن لمناقشة الأزمة -الذي بدا غريباً للمصريين- عن أنّ القاهرة سبق أن استغلت مياه النيل دون موافقة إثيوبيا، وأنّ مصر استخدمت النيل عبر السد العالي، لتوليد الكهرباء لقراها، بينما قرى إثيوبيا محرومة من النور وغارقة في الظلام.

ولم يركز المندوب الإثيوبي على أنّ مصر دولة مصبٍّ، وأنها تستغل من مياه النيل ما يأتيها فهي لا تستطيع سرقة مياه النهر حتى لو أرادت.

فالخلاف المصري الإثيوبي حول سد النهضة ليس خلافاً حول المياه فقط (وهي كثيرة تكفي الجميع)، بل هو التقاء لصدوع سياسية ودينية وتاريخية وجغرافية وإثنية متعددة أصبح سد النهضة يجسدها.

إنه خلاف يجسد اختلاف نظرة الشعبين للنيل، ومن ثم للسد المقام عليه.

بل إنه خلاف يجسد نظرة الشعبين لأنفسهما ولمحيطهما.

من جانب المصريين، كان هناك رفض لأي تراجع، ولو قليلاً، في حصتهم من المياه، وكان هناك رفض لفكرة إقامة أي سد على النيل، ولكن الواقع تجاوز ذلك.

وبينما يبالغ المنظور الشعبي المصري في نظرته المتشائمة للسد، لدرجة الخوف من أنه قد يؤدي إلى تحول مصر إلى صحراء جرداء، فإن صانع القرار المصري يعلم أنه لا مفر من إقامة السد، والآن أصبح هدفه تقليل الخسائر، والتي يفترض أنها ليست كبيرة لأن السد مخصص للكهرباء.

المفارقة هنا أن المخيلة الشعبية المصرية تشيطن سد النهضة بطريقة كوميدية أحياناً.

هذه المخيلة التي تتغذى أحياناً من الإعلام الرسمي، أو التابع للنظام بشكل غير رسمي، تزعم أحياناً أن سد النهضة به عيوب فنية، وقد ينهار وحده، بل وصلت المخيلة التي يصعب فيها تمييز المزاح من الجد إلى درجة القول إن إثيوبيا تريد من مصر قصف السد للتخلص منه بسبب عيوبه.

أما المخيلة المصرية، المعارضة بشكل خاص، فتميل إلى المبالغة في أضرار السد، للتدليل على فشل النظام في حماية قدس أقداس مصر النيل.

في أكثر تصوراتهم عملية وهدوءاً، يعتبر عقلاء المصريين سد النهضة شراً لابد من تقليل آثاره، وشرارة قد تشعل حرباً ضرورية، يدعو لها الشيوخ على مواقع التواصل الاجتماعي قبل الشباب.

ليس سد النهضة هو الخطر الأكبر في حد ذاته بالنسبة للمصريين، ولكن ما بعده.

وليس الخطر فيما تقول إثيوبيا، بل فيما لا تقوله، من خلال تمسكها بحقها المطلق في التصرف دون اتفاق مع دولتَي المصب، ورغبة أن تكون صاحبة القرار في تنفيذ تعهداتها بعدم تضرر دول المصب بضرر جسيم.

 فمصر الرسمية قبِلت أن حصتها ستتراجع خلال فترة ملء السد، ويبدو أن المصريين تقبلوا ذلك، ولكن ما يخشونه هو أن يتحول السد لذريعة إلى أكثر من ذلك، وأن تصبح دول المنبع هي التي تتحكم في كمية المياه.

ولذا يريد الجانب المصري جعل عملية ملء السد باتفاق ووجود آلية لتسوية المنازعات عبر وساطة دولية، وألا تتحمل مصر والسودان عبئاً مضاعفاً في نقص المياه خلال فترة ملء السد في حال حدوث جفاف.

 في المقابل، تبدو الرواية الشعبية والرسمية الإثيوبية عن السد نسخة محدثة عن رواية مصر القديمة عما سيحققه السد العالي، الذي كان يروج أنه سيجلب الرخاء، وينقل مصر إلى مرحلة جديدة (وفر السد العالي لمصر مميزات عديدة، ولكن لم يحولها لدولة متقدمة، ولم يعد يمثل المصدر الأكبر للطاقة).

 ويأمل الإثيوبيون أن يجعل السد بلادَهم مصدراً للطاقة الكهربائية في المنطقة، وليس في هذا منافع اقتصادية فقط، بل جيوسياسية.

يفترض الإثيوبيون أن السد سوف يجعلهم سعودية الكهرباء في شرق إفريقيا، أو في وضع مماثل لروسيا في أوروبا، قوة عظمى إقليمية مسلحة بثاني أكبر عدد سكان في القارة، وجغرافية جبيلة محصنة تتساقط منها موارد كهرومائية يُمنع بيعها للجوار.

السد بالنسبة للنظام في إثيوبيا مشروع كبير يجري المبالغة في مميزاته والتعامل معه كأنه آلة سفر عبر الزمن للمستقبل الواعد. 

في المقابل، فإن المصريين تخلّو عن آلة الزمن الخاصة بهم، التي كانت تسافر بهم لتاريخ ولّى ولن يعود “كانت مصرية النيل بمثابة مسلّمة جغرافية”.

سد النهضة بالنسبة للنظام الإثيوبي فرصة يجب استغلالها بأقصى قدر، حتى لو من الناحية المعنوية.

وبالنسبة للنظام المصري أزمة لا يجب فقط معالجتها، ولكن أيضاً التقليل من خسائرها أمام الرأي العام، حتى لا تنتقص من شرعية النظام الحالي، الذي أجهض الديمقراطية قبل بضع سنوات، بحجة أنه الأجدر على حماية أرض الوطن ومقدساته.

نظام يعيد بناء الفرعونية السياسية في القرن الحادي والعشرين، وهو يعلم أن الفرعونية الأصلية نشأت بفضل هذا النيل، الذي يؤدي المساس به إلى طعنة كبيرة لشرعية أي حاكم لمصر.

حتى الآن، نجح النظام في مصر في خفض توقعات المصريين الذين كانوا يرفضون مجرد إقامة سد على النيل، والآن هم يتقبلون الفكرة مع محاولة تقليل خسائرها.  

قارن المحاضر الجامعي والخبير الإثيوبي في إدارة المياه أبيبي يرغا جهود إنجاز السد، بحرب إثيوبيا ضد المستعمر الإيطالي في أواخر القرن التاسع عشر.

وشرح “في تلك الفترة، تكاتف الإثيوبيون بغض النظر عن دينهم وخلفياتهم لمحاربة القوة المستعمِرة”.

وأضاف: “الآن في القرن الحادي والعشرين يقوم السد بجمع الإثيوبيين المنقسمين سياسياً وإثنياً”.

أما أكثر المسكوت عنه في الرواية الإثيوبية عن السد، فهو أنه وسيلة لتوحيد السكان المختلفين إثنياً ولغوياً ودينياً، في مواجهة عدو يجري استدعاؤه من ذاكرة العداوات الإثيوبية المركبة، والشعور بالتوجس من الآخر الكامن في عقلية سكان الهضبة الإثيوبية.

ويرى بعض المراقبين أن السد يوفر نقطة نادرة للتكاتف في بلد متعدد الإثنيات، يمر بفترة انتقال ديمقراطي مشحونة، وينتظر انتخابات أرجئت بسبب فيروس كورونا المستجد.

السردية التاريخية الإثيوبية تعتبر أن البلاد محاطة بالأعداء، وهي ثاني أقدم بلد مسيحي في إفريقيا، بينما أغلب محيط إثيوبيا مسلم.

مسلمون عرب من الشرق، حيث الجزيرة العربية، ومن الشمال والغرب مسلمون عرب وغيرهم من أقوام السودان، والإريتريون من الشمال الغربي، ومسلمون صوماليون من الجنوب الشرقي.

كانت إثيوبيا في حالة حرب في أوقات كثيرة عبر تاريخها مع هذا المحيط، الذي اقتنصت منه أراضي كثيرة.

نشبت هذه الحروب لأسباب دينية أو إثنية، أو حتميات جغرافية تدفعها النزعات الإمبراطورية الحبشية والجهادية الإسلامية، التي كانت تصل أحياناً لعمليات عسكرية عثمانية ومصرية خديوية، تسير على درب المغامرات الفرعونية ضد بلاد الأحباش.

وكانت الجغرافيا السلاح الأمضى في يد الإثيوبيين.

ولكن إثيوبيا تبنت على يد رئيس وزرائها آبي أحمد سياسة قالت إنها لتصفير المشاكل، منحت الرجل جائزة نوبل.

واللافت في هذا الإطار أنه بينما حرص آبي أحمد على تصفير المشاكل مع محيط إثيوبيا، في مقدمتهم عدوتا بلاده التاريخيتان الصومال وإريتريا، فإنه لم يُبد هذا الحرص مع مصر، وأحياناً السودان، الذي توسّط بين الجيش والمعارضة فيه بعد نجاح ثورته.

يكشف الموقف الإثيوبي المختلف في طريقة تعامله مع مصر عن قرار إثيوبي بتنحية التناقضات التاريخية لبلاد الحبشة مع جوارها، والتركيز على التناقض مع مصر البعيدة نسبياً، ما يجعله صراعاً أقل تكلفة من الصراع مع الجوار المباشر.

المفارقة أن مصر كانت هي التي بدأت بالابتعاد عن المحيط المسلم لإثيوبيا، وتركت الصومال نهباً للتدخلات الإثيوبية، طمعاً في عدم إغضاب أديس أبابا من أجل استمرار تدفق مياه النيل.

واليوم تفعل أديس أبابا العكس، لتمنع القاهرة من استغلال العداوات التاريخية لأديس أبابا لصالحها.

لقد شرعت إثيوبيا في بناء سد النهضة بعد فشل دول المنبع في الاتفاق مع السودان ومصر على النص الكامل لاتفاقية “الإطار التعاوني لدول حوض النيل”.

بالنسبة لإثيوبيا، سد النهضة محاولة لتأكيد حقوقها في النيل، والتي تعتقد أن مصر تُنكرها، وذلك من خلال خلق أمر واقع عبر بناء سد النهضة.

وتأمل إثيوبيا في تشجيع السودان ومصر على إعادة النظر في اتفاقية الإطار التعاوني لدول حوض النيل، كوسيلة لتأمين احتياجاتهما المائية من خلال عملية متعددة الأطراف.

يجسد الخلاف حول سد النهضة كلّ هذه العقد والأحلام التاريخية والجغرافية والمخاوف والأوهام للبلدين.

يختزل النيل وسده المثير للجدل بالنسبة لإثيوبيا كل التاريخ، ويقدم ثورة مزعومة على مظالمه، ووعود حماسية بحل لأزمات البلاد المزمنة.

بينما سد النهضة للمصريين خطر يحمل في حال استكماله أخطاراً أكبر، وقد يفتح الباب لتعرض مصر لمزيد من الانتقاص، لما تعتبره حقوقاً تاريخية للنيل، انتقاصات يمكن أن تنفذها دول أخرى إضافة إلى إثيوبيا، وبالتالي فإن حسم مسألة سد النهضة ليس مهماً في العلاقة مع إثيوبيا فقط، بل إنه مهم لمصر فيما يتعلق بمجمل علاقاتها مع دول حوض النيل وبالتالي لمستقبلها كحضارة نهرية بالأساس.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى