الأرشيفكتاب وادباء

المنطقة العربية والنوم فى بيت العنكبوت

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
* يقول الله عز وجل فى محكم التنزيل ” مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ .” مع أن أمتنا العربية والإسلامية تملك مقومات القوة والعزة والهيمنة على سائر الأمم , إلا أنها اليوم تقف على مفترق الطرق عاجزة كسيحة عمياء تتسول على رصيف الحضارة  , واقفة على أبواب أراذل الأمم تسألهم الصدقات والزكوات كالفقراء والمساكين وابن السبيل . مع أنها تتميز بموقعها الجغرافي الفريد وتتمتع بثروات بشرية شبابية وثروات مادية وبترولية ومعدنية منقطعة النظير . إلا إن الثغرات الشاسعة فى بيتها والفجوات الواسعة فى بنيانها , والشهوات الطافحة فى رجالها , جعل العدو يتسلل إليها جهارا نهارا ليطعنها فى مقتل وفى سويداء قلبها . فأصبحت أمة ضعيفة ومستضعفة لايعمل لها حساب ولا يقيم أحد لها وزنا فى العالمين .مثلها فى ذلك كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت . ومع أن خيوط العنكبوت أقوى من مثيله من الصلب ثلاث مرات وأقوى من خيط الحرير وأكثر منه مرونة , فيكون نسيج العنكبوت بالنسبة لاحتياجات العنكبوت وافية بالغرض وزيادة ويكون بالنسبة له قلعة حصينة وملاذا آمنا وسكنا محصنا . إلا أن تفتت ووهن العلاقات الداخلية بين أفراد العنكبوت جعل بيتها أوهن البيوت .
* يظن البعض أن وهن العنكبوت يكمن فى وهن خيوطه ولكن الوهن الحقيقى يكمن فى ضعف العلاقات الاجتماعية والحيوية داخل البيت العنكبوتى , علاوة  على عدم الحماية من العوامل البيئية الخارجية مثل المطر والحر والبرد والشمس والأتربة . والواقع أن هناك سرا بيولوجيا كشف عنه العلم مؤخرا وهو أن بيت العنكبوت أبعد البيوت عن صفة البيت بما يلزم البيت من أمان وسكينة وطمأنية . فالعنكبوت الأنثى تقتل ذكرها بعد أن يلقحها ثم تأكله  . والأبناء يأكلون بعضهم بعضا بعد الخروج من البيض ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده بعد أن يلقح أنثاه ويهرب من البيت . وعندما تفقس الأنثى البيض , تخرج العناكب الصغيرة فتجد نفسها فى مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض فيبدأ الأخوة الأشقاء فى الاقتتال من أجل الطعام ومن أجل المكان فيقتل الأخ أخاه وأخته , وتقتل الأخت أختها وأخاها حتى تنتهى المعركة. إن وصف بيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت فيه دلالة واضحة على إعجاز القرآن وأنه من عند الله، حيث لم يقل القرآن خيط العنكبوت أو نسيج العنكبوت، لأن الخيط بذاته له صفات خاصة تجعله من الخيوط القوية . وإنما قال بيت العنكبوت  . وهكذا حال أمتنا العربية والإسلامية يقتل بعضها بعضا , ويتربض بعضها ببعض , ويتهم بعضها بعضا , وذلكم من علامات الوهن والضعف والانحلال داخل البيت العربي والاسلامى رغم أواصر الدين واللغة والوحدة والمصير المشترك .

*  إن  بيت أمتنا اليوم تماما يشبه بيت العنكبوت فى الضعف والوهن , أو إن شئت فقل كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ , والماء فوق ظهرها محمول . لقد فقدت أمتنا بوصلتها فلم تعد تدرى على أى طريق تضع قدميها لأنها فقدت الوعى الحقيقى  بمصادر قوتها وعزتها . إن كنز الوعى أكثر قيمة من الذهب والفضة . وسلاح الوعي أقوى تأثيرا من كل الأسلحة الحديثة . أمة تمتلك سلاح الوعي , أمة لا تهزم ولا تقهر ولا تحتل ولا تتأخر ولا تتسول رغيف خبزها من أحط الأمم وأضعفها . أمة واعية مدركة للأخطار التي تحيط بها , هى أمة صلبة متماسكة ليس فى بنيانها ثقوب , ولا فى حياتها كروب , ولا فى شمسها غروب , الوعي فى حياة الأمم والشعوب كشجرة الزيتون لاينمو سريعا , ولكنه يعيش طويلا .  يقول الله عزوجل :” لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ” يقول قتادة : أذن سمعت وعقلت ماسمعت . فلا يمكن للإنسان أن يعقل ويفهم دون أن يسمع بوعي كامل وإدراك شامل . نحن فى حاجة ملحة إلى الوعي الحقيقي وليس المزيف ,الوعي الذي يحمل المرء على العمل والتفاؤل وعمارة الوجود انطلاقا من قول الحق عز وجل “ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم ألينا لا ترجعون ” فالله لم يخلقنا عبثا دون هدف معلوم . إن الوعي يجعل المرء يدرك أن الله خلقه للبناء والإصلاح وليس للفساد والإفساد والطغيان فى الأرض . الوعي يجعل المرء يفهم حقيقة رسالته فى الحياة وكيف يحققها بتقديم الأهم على المهم , والممكن على المستحيل , والسهل على الصعب . الوعي ليس شعارات ترفع , أو يافطات تعلق , أو منشورات توزع , أو خطبا تلقى , إنما هو منهج حياة وخطة عمل ودراسة عميقة  لكل قضايا امتنا المتنوعة  .

* إن أول خطر يهدد أمن وسلامة واستقرار وتقدم ورقى أى مجتمع هو الوعي الزائف . أصبح هذا الوعى الزائف له مجتمعه وأهله وخبراؤه وعلماؤه ووسائل إعلامه ومؤسساته  .  قد يتم صناعة هذا الوعي الزائف وتضليل العقول والإفهام  باسم الدين والدين منه براء , فضلا عن المناهج الدراسية والتربوية التى تدرس فى المدارس والمعاهد والجامعات لتضليل الأجيال, جيلا تلو الآخر لتخريج جيلا لاعلم له ولا ثقافة ولادارية حتى يسهل التحكم فيه . يكون الوعي وعيا زائفا، وذلك عندما تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع من حوله، فهو فى جانب والمجتمع فى جانب آخر , هو فى حال والمجتمع فى حال آخر . إن الأدوات والوسائل القمعية تلجأ فى الغالب إلى خلق حالة من الخوف والرعب داخل أى مجتمع لتفكيكه دينيا وسياسيا وذلك لتسهيل مهمتها فى إحكام قبضتها على رقبة المجتمع حتى لايتنفس هواء نقيا . ففى النظم المستبدة على مدار التاريخ يكون الشعب هو الضحية وهو المجنى عليه . إن نشر الوعي الزائف يفكك المجتمع إلى طبقات متناحرة، متشككة، متحاربة على المصلحة الخاصة، وتفسد لديها روح الأمل والعمل . والوطن فى النهاية هو الذى يدفع الثمن باهظا من تاريخه ودمه وثرواته . فيصبح حال بيتنا كحال بيت العنكبوت يقتل بعضه بعضا .
* إن من علامات الوهن فى أمتنا هو غياب الوعي الدينى والسياسي جملة وتفصيلا . إن أهمية الوعى الدينى تنبع من إدراك الفرد لأهمية عقيدته الغراء فى فهم وتحليل ما يحدث على الساحة من تقلبات . يستطيع بهذا الوعى التفريق بين الغث والثمين وبين كل غال ورخيص . أما  أهمية الوعي السياسي فتنبع من أهمية وخطورة ” السياسة ” في حياة البشر . إن ثقافة أي مثقف لا تكتمل إلاَّ باكتمال وعيه السياسي.  وان الثقافة الدينية والسياسية  لهما خطورتهما فى تشكيل وعى المجتمع . فكلما كان الوعي السياسي العام في المجتمع قويا، كلما كان الفساد ضعيفا أو منعدما . فالفساد السياسي كالحوت الذى يبلع ثروات البلاد وخيراتها , لذلك فى الدول المتقدمة تجد أدوات الرقابة والمحاسبة قوية , ولا أحد فوق القانون والنا س سواسية كأسنان المشط . أما فى عالمنا الثالث المتخلف فتجد المجتمع غارقا حتى أذنيه فى مستنقع الفساد والمحسوبية والمجاملة ونهب الأموال وسرقتها , فضلا عن الغش والتزوير والكذب والنفاق والشقاق وانتهاك حقوق الإنسان . وهكذا تعيش أمتنا الحالة العنكبوتية بكل تفاصيلها المؤسفة .

* لقد عبر التاريخ الإسلامي عن وعي رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله . وقال علماء السيرة أن ذلك الوعى  يتمثل فى وضوح الهدف في كل خطوة من خطواته , فصاحب الرسالة , يحمل أمانة , ولم يكن ليفرط في ذلك في لحظة من اللحظات . فلم يكن يوما مغامرا طائشا يندم على سلوك تعجل فيه , ولم يكن يوما مستكينا مترددا حائرا يطمع أعداؤه في إفنائه والقضاء عليه , بل كان محركا للأحداث أجمعها , مستفيدا من أخطاء أعدائه , صاحب تصورات جديدة في الإدارة والتنظيم والتخطيط .   كذلك الوعي فيما يخص المعرفة الدقيقة والشاملة بقوة فريقه الذاتية , من حيث العدد والعدة , والإمكانات والظروف , ومدى طاقتهم وقدراتهم , حتى لا يبنى خطته في لحظة من اللحظات على معطيات خاطئة أو ناقصة فيتعرض للفشل . كما وعى الأخطار التي ينتظر أن تواجهه , والعقبات التي ربما تعترض سبيله ومن ثم أعد لها ما يناسبها من خطط. لقد كان حليما حكيما , يكثر الاستماع والتفهم والإدراك , ذكيا عبقريا , يحسن التفسير والاستيعاب , فكان يضع المعلومات كلها بجانب بعضها البعض , الصغير منها والكبير حتى تتضح له معالم الخريطة كاملة فيقرر مايريد وفق معلومات دقيقة وصحيحة . وليس وفق عاطفة هوجاء عاصفة تقود إلى اتخاذ مواقف  متسرعة ضررها أكثر من نفعها .

* لقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته من الحالة العنكبوتية من أول يوم ذهب فيه للمدينه المنورة , فكان وعى البناء . بناء المجتمع الجديد على أسس متينة وقوية . كانت المدينة عند الهجرة قليلة الموارد , وبعد الهجرة وفد عليها أضعاف عدد سكانها ليقيموا مع أهلها بصورة دائمة   , فكان لابد من بناء اجتماعي محكم لكى يتجنب ويتحاشى كل ما يتوقع من مشكلات , فحقق نظام ” المؤاخاة ” بين المهاجرين والأنصار الذي أذاب الفوارق بين الفريقين وجعلهم لحمة واحدة , بل وأمة واحدة يتقاسمون فيما بينهم  ما يملكونه من مال وعقارات وزوجات دون شح متبع أو هوى مطاع . أى وعى اجتماعي أعظم من هذا ؟ . ولم يكتف بهذا بل حقق قيمة العدل والتى لا يمكن التنازل عنها في بنائه للدولة , وخاصة أن الدولة منقسمة أصلا إلى فئتين أصحاب الأرض , والوافدين ,  و أية محاباة لطرف على طرف ستؤدي حتما إلى انهيار الدولة , والى تفجر صراع داخلي فيها وقد تصل إلى حرب طائفي لا تبقى ولا تذر . والذي يعصم من ذلك كله هو إقامة العدل بين أبنائها , فالعدل أساس الملك كما يقولون . إنه الوعي الذي يتمثل فى تأسيس صرح العدالة عاليا خفاقا . وقبل ذلك بنى المسجد ليكون البوتقة الإيمانية التى تنصهر فيها كل الفوارق الفردية ليكونوا صفا واحدا .

* إن أمة تعانى من نقص الوعي أفرادا وقادة , أمة متناحرة متأخرة عن ركب الحضارة والتقدم . وإن أمة واعية بأفرادها وقادتها هي أمة لا تغلب ولا تهزم ولا تقهر ولايقدر عدوها على إذلالها فضلا عن احتلالها واستحلال عرضها . إن الوعي هو الكنز الاستراتيجي الذي لا يفنى بأى حال من الأحوال مهما طال الزمان . نتفق جميعا على أن أمتنا تعيش أشد أوقاتها ضعفا وأشدها ظلاما وجهلا وتخلفا . لا مخرج لنا للهروب من الحالة العنكبوتية إلا بدراسة أسباب الجهل والتخلف وحالة اللاوعى التى أصابت عقل الأمة فهوت فى مستنقع الذلة والمهانة والهزيمة  . هذه حالة استثنائية فى تاريخ الأمة ولا يمكن أن تستمر كثيرا وطويلا حتى نستحق قول الحق ” كنتم خير أمة أخرجت للناس ” وإلا فالبديل قولا واحدا هو أن نعلن للعالم حالة الإفلاس ونرضى بالنوم فى كهف العنكبوت المظلم الضعيف . فهل هذا  يرضى الله  ويرضيكم ؟

اللهم بلغت .. اللهم فاشهد . والله من وراء القصد والنية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى