تقارير وملفات إضافية

أزمة كارثية الأبعاد.. لماذا سيحتاج الاقتصاد العالمي لسنوات حتى يتعافى من الركود؟

تتزايد المخاوف في الوقت الحالي من أن التراجع الاقتصادي قد يكون أكثر إضراراً واستدامة مما كان يُخشى في بادئ الأمر، إذ من المحتمل استمراره حتى السنة المقبلة، أو بعدها حتى، فيما تكثف الحكومات القيود على الأعمال بهدف عرقلة انتشار الجائحة، بينما أصبحت المخاوف من أن العالم بالتأكيد واقع في شَرَك ركود مدمر سببته جائحة فيروس كورونا.

تقول صحيفة The New York Times الأمريكية: علاوة على كل شيء، فالجائحة هي حالة طارئة في الصحة العامة. لذا فطالما ظل التفاعل بين البشر خطراً سيبقى من الصعب على الأعمال أن تعود إلى طبيعتها نظراً لمسؤوليتها. وما كان طبيعياً من قبل قد لا يكون على الشاكلة نفسها في ما بعد. قد يكون الأشخاص أقل ميلاً إلى التكدس في مطعم مزدحم أو حفلة موسيقية حتى بعد احتواء الفيروس.

يهدد التعليق المفاجئ للنشاط التجاري بخسائر اقتصادية فورية جمة ومستمرة في كل مناطق العالم قد يستغرق التعافي منها سنوات. تهدد خسائر الشركات، وكثير منها غارق في الديون بالفعل، بتحفيز أزمة مالية كارثية الأبعاد.

عكست سوق الأسهم الحذر الاقتصادي؛ إذ هوى مؤشر ستاندرد آند بورز 500 في الولايات المتحدة بنسبة 4% الأربعاء 1 أبريل/نيسان، مع استعداد المستثمرين لأوضاع أسوأ في المستقبل. جاء ذلك بعدما شهد المؤشر أوقات عصيبة في مارس/آذار الماضي إذ انخفض 12.5%، وهو أسوأ شهر له منذ أكتوبر/تشرين الأول 2008.

يقول الاقتصادي كينيث روغوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد والمؤلف المشارك لكتاب “This Time Is Different: Eight Centuries of Financial Folly” الذي يتناول تاريخ الأزمات المالية: “أشعر أن الأزمة المالية في 2008 كانت مجرد بروفة لهذه الأزمة”.

وأضاف: “تتطور هذه (الأزمة) بالفعل بوصفها أدنى تراجع مُسجل للاقتصاد العالمي على مدار 100 عام”، وقال: “يعتمد كل شيء على مدة استمرارها، لكن في حال استمرت لفترة طويلة، ستكون بالتأكيد أسوأ الأزمات المالية كلها”.

يبدو الوضع مخيفاً على نحوٍ استثنائي في البلدان النامية، التي شهدت تسارع الاستثمارات على الخروج منها العام الجاري، ما هوى بعملاتها المحلية، مجبراً مواطنيها على دفع أموال أكثر للأطعمة والوقود المستوردين من الخارج، ومهدداً حكوماتها بالإفلاس، ويحدث كل هذا بينما تهدد جائحة كورونا نفسها بحالة اضطراب في الأنظمة الصحية غير المؤهلة بتلك البلدان.

وبين المستثمرين، هناك سيناريو متفائل ينتظر العملات: سيكون الركود مدمراً لكنه سيستمر لفترة قصيرة، ما سيتيح المجال لتعافٍ قوي العام الجاري. إن المنطق السائد بينهم هو أن الاقتصاد العالمي يشهد حالة من الجمود الشديد المؤقت. وبمجرد احتواء الفيروس، الذي سيسمح بعودة الناس إلى الأشغال والأسواق التجارية، سرعان ما ستعود الحياة إلى طبيعتها هي الأخرى، إذ ستحلق الطائرات محملة بالعائلات القاصدة تمضية إجازاتها المؤجلة، وستستأنف المصانع تلبية الطلبات المكدسة لديها.

لكن حتى بعد احتواء الفيروس، وهو أمر لا يعرف أحد موعداً له، سيكون العالم الذي ستخلفه الجائحة وراءها يختنق من جراء الأزمات، ما سيمثل تحدياً لعملية التعافي. ستُسبب البطالة الجماعية خسائر مجتمعية. وقد يرتك الإفلاس الكامل واسع النطاق للبنوك القطاع المصرفي في وضع ضعيف، ما يستنزف الاستثمار والإبداع.

قد تظل الأسر مرتبكة ومتجنبة للمخاطر، ما سيجعلها عُرضة للسرقة. وربما تظل بعد تدابير التباعد الاجتماعي قائمة لأجل غير مسمى. يمثل إنفاق المستهلكين ما يقارب ثلثي النشاط الاقتصادي في أنحاء العالم. في حال استمر القلق وأعرض الناس عن الإنفاق، سيكون النمو محدوداً، خاصة إذ استمرت الحاجة إلى الحذر من فيروس كورونا.

يقول تشارلز دوماس كبير الاقتصاديين بشركة “TS Lombard”  المتخصصة في أبحاث الاستثمار في لندن: “لن تعود الحالة النفسية إلى سابق عهدها”، مضيفاً: “أصيب الناس بصدمة حقيقية. سيكون التعافي بطيئاً، وستتغير أنماط سلوك بعينها، لفترة طويلة على الأقل إن لم يكن للأبد”.

حفز ارتفاع أسعار الأسهم في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة الإنفاق. والآن يملأ ملايين الأشخاص طلبات للحصول على إعانات البطالة، بينما تستوعب الأسر الأغنى حقيقة استمرار انكماش مدخرات التقاعد. زاد الأمريكيون كثيراً معدلات ادخارهم بوضوح في السنوات التي تلت الكساد العظيم. فقد حد الخوف والائتمان الضعيف الاعتماد على الإقراض. وقد يحدث هذا مرة أخرى.

يقول دوماس: “خسارة الدخل هائلة على صعيد العمالة.. وأيضاً فانخفاض القدرة الشرائية كبير للغاية”.

تُعزز حقيقة أن كل جزء مأهول في العالم في مأزق الشعور بالقلق. ستشهد الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم، ركوداً شبه مؤكد، وبالمثل أوروبا. والأمر مرجح أيضاً لاقتصادات مهمة مثل كندا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، والبرازيل، والأرجنتين والمكسيك. أما الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فمن المتوقع أن تشهد نمواً بنسبة 2% فقط العالم الجاري، وفقاً لشركة “TS Lombard”.

لسنوات، دفع جانب من العقيدة الاقتصادية بفكرة أن العولمة أتت ببوليصة تأمين تلقائية ضد الكارثة الجماعية. لذا، فطالما أن جزءاً من اقتصاد العالم ينمو، يُفترض أن ذلك سيخفف تأثير أن التباطؤ الاقتصادي في أي دولة.

إلا أن الركود العالمي الذي أعقب الأزمة المالية في 2008 فند تلك النظرية. ويمثل التباطؤ الاقتصادي الحالي حدثاً أكثر تطرفاً من تلك الأزمة، إنه حالة طوارئ عالمية لم تترك أي ملاذ آمن.

عندما ظهرت الجائحة، في الصين أولاً، كان يُنظر إليها باعتبارها تهديداً كبيراً لهذا الاقتصاد. وحتى مع انغلاق الصين على نفسها، ظل الاعتقاد التقليدي هو أنه في أسوأ الأحوال ستعاني كبرى الشركات الدولية مثل Apple وGeneral Motors من خسارة مبيعاتها للمستهلكين الصينيين، فيما سيكافح المصنعون في أماكن أخرى لتوفير مدخلات التصنيع التي تنتجها المصانع في الصين. 

لكن بعدها انتشرت الجائحة في إيطاليا وبقية أوروبا في نهاية المطاف، مهددة مصانع القارة. ثم أتت سياسات الحكومات التي تسببت في توقف الحياة العصرية بما في ذلك الأعمال، بينما انتقل الفيروس ليتفشى في الولايات المتحدة.

قال إينيس ماكفي، المدير العام لخدمات الاقتصاد الكلي والاستثمار في شركة “Oxford Economics” في لندن: “الآن، أينما تتفحص الاقتصاد العالمي نجد ضربة (قاسمة) في الطلب المحلي على قمة التأثيرات التي أصابت سلسلة التوريد”، مضيفاً : “الأمر مقلق على نحوٍ لا يصدق”.

تشير تقديرات Oxford Economics إلى أنَّ الاقتصاد العالمي سينكمش إلى حد ما هذا العام، قبل أن يشهد تحسّناً بحلول شهر يونيو/حزيران. لكن بحسب قول إينيس مكفي، يُرجح أن تتغير تلك الرؤية تغيّراً كبيراً.

ربما ساهمت تريليونات الدولارات في شكل أرصدة بطاقات ائتمان وضمانات قروض تخلّت عنها البنوك المركزية والحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا في دعم الاقتصادات الأكثر تطوراً. يقول اقتصاديون إنَّ ذلك قد يحول دون انهيار الكثير من المشاريع التجارية، وفي نفس الوقت يضمن أنَّ العمال الذين يفقدون وظائفهم سيكونون قادرين على توفير احتياجاتهم المعيشية.

قالت ماري أوينز تومسن، كبيرة المحللين الاقتصاديين العالميين في شركة “Indosuez Wealth Management” في جنيف: “أؤيد التصوّر القائل بأنَّ هذه أزمة مؤقتة، كأنك تضغط على زر الإيقاف المؤقت، ثم تضغط على زر البدء، وتبدأ الآلة في العمل مُجدّداً”.

لكن هذا يعتمد على حزم الإنقاذ التي تثبت فعاليتها، لذا لا يوجد شيء مؤكد. في الصدمات الاقتصادية النمطية، تنفق الحكومة الأموال لمحاولة تشجيع الناس على الخروج والإنفاق. لكن في هذه الأزمة، تطالب السلطات الناس بالبقاء في منازلهم للحد من انتشار الفيروس.

تقول ماري: “كلما طال أمد تلك الأزمة، زادت احتمالية حدوث تدمير للقدرات الإنتاجية، ثم تتحول طبيعة الأزمة من مؤقتة إلى وضع أكثر استدامة”.  

ووفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، يتجّه الاستثمار الأجنبي المباشر نحو الانخفاض بنسبة 40% هذا العام في جميع أنحاء العالم. وقال جيمس زان، رئيس قسم الاستثمار والمشاريع بمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، إنَّ هذا يهدد “بإلحاق ضرر دائم لشبكات الإنتاج العالمية وسلاسل التوريد”.

وفي هذا الصد، قالت شركة “IHS Markit” الإنجليزية في مذكرة بحثية حديثة: “من المرجح أن يستغرق الأمر من سنتين إلى ثلاث سنوات حتى تعود معظم الاقتصادات إلى مستويات إنتاجها المعتادة قبل تفشي الوباء”.

تعاني البلدان النامية من عواقب وخيمة بالفعل لا تتمثّل فقط في هروب رأس المال، لكن الانخفاض الكبير في أسعار سلع أساسية –لاسيما النفط- يهدد بإلحاق أضرار جسيمة للعديد من الدول، من بينها المكسيك وتشيلي ونيجيريا. تمتد آثار تباطؤ النمو في الصين إلى عدة دول -من إندونيسيا إلى كوريا الجنوبية- كانت تزوّد المصانع الصينية بمختلف المكونات.

وفقاً لتقرير نشره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية يوم الاثنين 30 مارس/آذار، يتعيَّن على الدول النامية تسديد ديون تقدر بحوالي 2.7 تريليون دولار في الفترة من الآن وحتى نهاية العام المقبل. تستطيع تلك الدول، في الظروف الطبيعية، تحمّل اقتراض ديون جديدة لسداد معظم القروض المستحقة. لكن الهجرة المفاجئة لرأس المال دفعت المستثمرين إلى فرض معدلات فائدة أعلى على القروض الجديدة.

لذا، طالب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية بتوفير حزمة دعم مالية بقيمة 2.5 تريليون دولار للدول النامية -تريليون دولار في شكل قروض من صندوق النقد الدولي، وإعفاء من الديون بقيمة تريليون دولار آخر مُقدّم من مجموعة واسعة من الدائنين و 500 مليار دولار تُخصّص لتعافي النظم الصحية.

يقول ريتشارد كوزول رايت، مدير قسم العولمة واستراتيجيات التنمية في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية: “أكثر ما نخشاه بالنسبة للدول النامية هو أنَّ معظم تلك الدول قد تعرضت بالفعل للصدمات الاقتصادية قبل أن تبدأ في مواجهة الصدمات الصحية”.

تشير وجهة النظر الأكثر تفاؤلاً إلى أنَّ عملية الإصلاح جارية بالفعل. احتوت الصين الفيروس على نحوٍ فعّال وبدأت في العودة إلى العمل، على الرغم من أنَّ ذلك يحدث تدريجياً. إذا عادت المصانع الصينية إلى العمل من جديد، ستمتد الآثار الإيجابية لذلك على مستوى العالم، مما ينعش الطلب على الرقائق الإلكترونية المصنوعة في تايوان والنحاس المستخرج من مناجم زامبيا وفول الصويا المزروع في الأرجنتين.

ومع ذلك، لا تعتبر الصناعة الصينية محصنة ضد الواقع العالمي. على الرغم من أنَّ المستهلكين الصينيين يُمثّلون قوة شرائية كبيرة على نحوٍ متزايد، لا يستطيعون تحفيز الانتعاش الاقتصادي الكامل. فإذا ظل الأمريكيون يكافحون تفشي الوباء، ولم تستطِع جنوب إفريقيا الاقتراض من الأسواق العالمية، وأصبحت أوروبا في حالة ركود، سيؤدي ذلك إلى الحد من شهية الإقبال على المنتجات الصينية.

ويتساءل الخبير الاقتصادي، روغوف: “إذا عادت الصناعة الصينية إلى سابق عهدها، إلى من ستبيع منتجاتها؟. وكيف يمكن حماية النمو العالمي من الضرر طويل الأمد؟”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى