عندما يتهم الإنسان نفسه بالجنون …!

*
وقد جاء فى تفسير هذه الآية الكريمة مايلى ” وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير ” قال ابن عباس : لو كنا نسمع الهدى أو نعقله ، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكر ، أو نعقل عقل من يميز وينظر . ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا . ما كنا في أصحاب السعير يعني ما كنا من أهل النار . وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لقد ندم الفاجر يوم القيامة . قالوا : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فقالوا : أي لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق ، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به ، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى إتباعهم . وهذا يدل على خطورة العقل فى حياة الإنسان ولولاه لما وجد فرق بينه وبين الحيوان إلا فى اعتدال القامة ونطق اللسان كما يقوا ابن القيم الجوزية رحمه الله .وقيل : لا شرف إلا شرف العقل ولاغني إلا غنى النفس. وقيل : يعيش العاقل بعقله حيث كان كما يعيش الأسد بقوته حيث كان والعاقل كالجبل لايتزحزح وإن اشتدت عليه الريح والجاهل الأحمق تبطره أدنى منزلة كالحشيش يحركه أدنى ريح . العقل هو رمانة الميزان ولو لاه لاختلت النفس وضاع الإنسان وصار أقل مرتبة من الحيوان .* وإن تعجب فعجب قول القرآن أن هناك فصيلا بشريا خلقه الله يسمع بلسانه ويفكر بلسانه بدلا من عقله . يقول عز وجل في سورة النور في معرض الحديث عن حادث الإفك الذي نال فيه المنافقون والطبالون والآكلون على كل الموائد والطابور الخامس من عرض السيدة عائشة أم المؤمنين , حيث يقول عز وجل ” إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم” . وكأن القول يتلقفه لسان عن لسان دون أن يمر بالأذان أو تفكر فيه العقول والأفهام .. أين المدارك ؟ أين العقول ؟ أين البصائر؟ أين البصيرة ؟ أين الأفهام؟ الكل تلاشى واختفى واندثر . إنها الحماقة , إنها الرعونة . إنها السخافة , إنه قمة التخلف أن يسمع الإنسان بلسانه ويفهم بلسانه ويعقل بلسانه . أما العقل ففي أجازة اعتيادية ولا وجود له على الإطلاق . هؤلاء هم أعداء العقول في كل مكان وزمان . ما أسوا الإنسان , أى إنسان , إذا تقدم لسانه وتأخر عقله . ما أحقر الإنسان حين يعطل ملكة التفكير والتأمل ويسلم عقله لمن يتلاعب به ويملأه بكناسة الفكر الإنساني وقمامة الإنتاج البشرى فى شتى المجالات الفكرية . ما أقبح الإنسان حين يصاب بالشلل الفكري والكساح العقلي والنفاق والإنسياق وراء كل ناعق .
* إن مثل هؤلاء الذى يسرقون عقول البشر ويسلبونها منهم بوسائل التخدير والتنويم المغناطيسي الحديثة أخطر على مجتمعنا من ناهبى الأموال وسارقى ثروات الشعب . إن الأموال إذا سرقت ونهبت بمكن لصاحبها أن يعوضها ويأتى بمثلها أو أكثر , لكن العقول إذا سرقت فإنها لاترد ولا تعود لأن العقول مثل الزجاج كسرها لا يجبر . قال بعض الحكماء : احذروا أعداء العقول ولصوص المودات , إذا سرق اللصوص المتاع سرقوا هم المودات . إنهم مروجو الكذب والفتن والشائعات الذين لاعقل لهم ولا دين ولا ضمير. إن الشجرة قد تقطع فتنبت من جديد ويقطع السيف اللحم فيندمل أما لسان هؤلاء فلا يندمل جرحه لأنه عميق في أعماق النفس البشرية لاينفع معه دواء الطبيب ولإبكاء الحبيب . إن السموم التي تنساب من أفواه هؤلاء لا تقرب مودة إلا أفسدتها ولا عداوة إلا جددتها ولا جماعة إلا بددتها , في وجوههم ألف عين وفى أفواههم ألف لسان وفى رؤوسهم ألف أذن . إذا فقد المرء عقله , فقد كل شئ بل إن شئت فقل تجرد من بشريته وإنسانيته التي ميزه الله عز وجل بها عن الحيوان الذي لايعى ولا يعقل ولاينطق .