لايف ستايل

«يا ماما تعالي شطفيني»!

«ماما هاتيلي أشرب».. فتأتي المسكينة بكوب المياه ولو كانت بين النوم واليقظة على سريرها بالغرفة البعيدة، وكنت أنا بالصالة جوار المطبخ ويفصلني عن الماء قفزة وخطوة و«شوية» دم، ولو كانت هي في مشرق الأرض وكنت أنا -والماء- في مغربها، ستأتي من الشرق إلى الغرب، لأنها تعلم أنها إن تركت «سيد قشطة» الذي تملكه عطشاناً، فلن يقوم، ليروي نفسه، إلى الأبد.

تقف
السيدة الكريمة في المطبخ بين ثلاثة أوانٍ وأربعة أوعية وموقد وعيون مشتعلة ومبشرة
بصل وحساء يهدر ودجاج يسلق وقيامة تقوم وتقعد، ويجلس السيد، سي السيد، على الأريكة
متابعاً التلفاز أو متصفحاً الهاتف، ويناديها بصوته الخشن كأي نداء بين سيد وجارية
في قريش القديمة أو قريش الجديدة، طالباً منها شيئاً تافهاً جداً –ليس أتفه منه هو
نفسه على أي حال- يأمرها بفرمان جمهوري، أن تقشر له برتقالة ليأكلها إلى أن تنتهي
من إعداد العشاء، والمطلوب سيدي ليس إطلاقاً أن يساعدها، فهذا أمر يعود إلى ما
تعوده من المساعدة والمسؤولية، لكن المسألة مسألة تتعلق بمقدار المروءة المتبقية
لديه من آخر برتقالة قشرتها له وهي واقفة في المطبخ بين بخار الأواعي
كالفارس بين غبار المعركة.

وها هو
يجلس صاحبنا الآخر ساعةً، ينتظر الخادمة -الأم- لتعود من الخارج بعد تسوُّق مجهد،
لا لتعد له الطعام، وإنما لتسخنه له، فقط ستشعل النار تحته، أو ستضعه في الفرن مع
حركة بسيطة لتشغيله، وهو عاجز كل العجز عن أن يترك مهماته الوزارية دقيقةً ليضع
الطعام على النار، ثم بعد قليل دقيقة أخرى ليضع الطعام عن النار، هذا هو كل ما في
الحكاية، لكن الحكاية صعبة على حضرة المحترم، «ننوس عين ماما»، وكانت سترتاح جداً
لو أشعلت النار تحته هو بدلاً من الطعام، فقام.

والأمهات
والأخوات والزوجات مسكينات حين لا يرفضن طلباً ولا يعارضن أمراً، لأن طريقة الحب
لديهم مختلفة، فاللقمة الحلوة تملأ فم الرجل بالكلام الحلو، فيُطعم أذنها كلما
أطعمت معدته، فيشبعان، ولكل طريقته في الشبع، وهذا جانب من جوانب كثيرة بين
الزوجين أو الرجل والمرأة أياً كانت العلاقة التي تربطهما، أمومة، أو أخوة، أو
غيرهما، لكن الفكرة في هذا الذكر الذي يخلع عنه ثوب الرجولة، فيتخيل الأنثى «سوبر
وومان» تستطيع أن تفعل له كل شيء في كل وقت، وهو جالس مكانه كأبي الهول، بينما تبني
هي الأهرامات.

وأنا
هنا لا أدافع عن المرأة، وإنما أهاجم الرجل وأنا واقف في صف الرجال، أقول له لو لم
يخلق الله إناثاً في هذا الكوكب حتى، فإنه حريٌّ بك من البداية أن تتعلم كيف تغسل
الأواني، وكيف تعد الطعام، وكيف «تفصص» السمك، وكيف تصنع الشاي، وكيف تملأ كوب
المياه من مبرد المياه، وهنا تحضرني جملة شهيرة جرت على لسان كل منا في فترة مخجلة
وجرئية في الوقت ذاته، من حياتنا، كان يقول فيها بكل ارتياح: «ماما تعالي شطفيني»،
وأظنها مرحلة انتهت، وبلغنا الفطام منذ زمن طويل، وخطت شوارب الذكورة على وجوهنا،
وفعلت الهرمونات بأصواتنا فعلتها، لكننا ظنّنا أن الصوت خُلق ليأمر ويشخط، ونسينا
أنه مجرد اختلاف بين كائن رقيق صوتاً وصمتاً، وكائن قد يملك الرقة في قلبه لكنها
لا تنعكس على صوته بأي حال.

وأنا
بعيد كل البعد عن ذِكر مناقب النبي صلى الله عليه وسلم، أو قص سير الصحابة، أو ضرب
الأمثلة بالتابعين، وإنما أريد أن أعود إلى شيء له علاقة بالفطرة، لمحمد الإنسان
قبل محمد النبي، وللرجل فلان قبل أن يكون الذكر فلان، وللطبيعة التي تحتم على كل
صاحب بيتٍ أن يكرمه، وكل صاحبِ رعيةٍ أن يقبل يدها بعد كل جميل تصنعه، وأن يحمل عن
يدها كل ثقيلٍ ترفعه، وأن يجعل من نفسه رجلاً كامل الرجولة، مهتماً بالقوارير التي
بلا روح، ومكرماً للقوارير صاحبة الأرواح.

وأقبِّل
يد الظروف التي أعلمتني كيف كنت ماسخاً في فترةٍ طويلةٍ من عمري، لم أعانِ فيها من
حملٍ ولا ولادةٍ حتى يعَد لي الطعام وتُغسل من بعدي أوانيه وأنا نائم على ظهري آخذ
ساعة نقاهة، وأظن نفسي داوودَ البيت، وأظن أهل البيت جناً يعملون بين يديّ ما أشاء
من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.

وندائي
لأبناء ذكورتنا العزيزة، باسمِ الفطرة والغريزة، أن نجرب، فلعلنا نجد أنفسنا في
المطبخ كذلك، ولعلنا نجد حصتنا من النكد اليومي تنقلب سروراً، حين نهتم بآل
بيوتنا، ولعلنا إن كنا حتى في بيوتٍ نعيش بها وحدنا، عسانا أن نجد البيت لا يشبه
«الزريبة»، لأننا إنسٌ لا حيوان، ولأن الإهمال على قدرِ ظرافته في التندر به، فلا
يدل في الحقيقة إلا على أنَّ شيئاً لم يتغير، منذ كنتَ تنادي «يا ماما تعالي
شطفيني».

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى