منوعات

عصابة Peaky Blinders.. اكتسبت اسمها من أناقتها وليس عنفها وتاريخها مختلف عن المسلسل

«من المؤكد أن جميع المواطنين قد سئموا من الهمجية والاعتداءات على الشرطة في برمنغهام. وأينما سار المرء في المدينة، يمكن رؤية عصابة Peaky Blinders، الذين لا يبالون في كثيرٍ من الأحيان بإهانة الناس بشدة، سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً. ولا أتردد في القول إنهم لم يُحاكموا عن 99% من أفعالهم». نُشرت هذه الرسالة المؤلمة، الموقّعة باسم «عامل» في صحيفة The Birmingham Daily Mail  في يوم 21 يوليو/تموز 1898.

كان من السهل التعرُّف على عصابات Peaky Blinders. وعلى عكس الأسطورة التي انتشرت في العقود اللاحقة، والمسلسل الدرامي الشهير عنها، لم يرتدِ أفراد تلك العصابات القبّعات التي يخبئون في بطانتها شفرات حلاقة، وفقاً لما نشرته مجلة History Extra.

وفي الواقع، كانوا يرتدون قبّعاتٍ سوداء مستديرة صلبة الملمس، بها حوافّ منحنيةٌ أنيقة المظهر، بعرض بوصتين ونصف البوصة. لقد ضبطوا حوافّ قبعاتهم، لتكون مدببة ومائلة على عينٍ واحدة لتغِّطيها، ومن هنا جاء لقبهم، إذ إن Peaky هو نوع من القبعات، بينما تعني Blinders المُغمَّى.

وهم لا ينتمون إلى عصابةٍ واحدة. بل على العكس كلياً: كانت العصابات المتعارضة، التي تشترك جميعها في هذا الأسلوب الغريب، تبحث عن بعضها البعض في شوارع برمنغهام وفي مواجهاتٍ آخر الليل خارج قاعات الموسيقى في المدينة.

كان مصطلح «Peaky Blinder»، الذي جرى تبنّيه في تسعينيات القرن التاسع عشر، مميزاً لبرمنغهام. وفي المدن المجاورة، كان يُعرف أفراد العصابة باسم «المساطيل». وفي لندن، أصبحوا معروفين بلقب «المشاغبين» الأكثر ديمومة.

كان إحباط «العامل» كاتب الرسالة مفهوماً. فقبل ثلاثة أيام من رسالته تلك أصيب الشرطيّ بجروحٍ قاتلة في حادثة شغب هزّت المدينة. كان الشرطي سنايب وزميله في الشرطة «ميد» في دورية في منطقةٍ فقيرة إلى الشمال من وسط المدينة مساءً عندما «فضُّوا» مجموعة من ستّة أو سبعة شباب «أشداء» كانوا قد تجمّعوا خارج إحدى الحانات.

بحسب اعترفات أحد أعضاء المجموعة في وقتٍ لاحق، كان الرجال قد أمضوا ذلك اليوم، وهو يوم أحد، في حالةٍ من المرح الصاخب، يسرفون في الشراب طوال اليوم، ويتقاتلون طوال المساء.

تتبّع رجال الشرطة الشباب ثمّ ألقى أحد الشرطيين القبض على ويليام كولرين (23 عاماً) لتحدُّثه بألفاظٍ دنيئة. وعندما حاول الشرطيان إدخال كولرين سيارة الشرطة، دفعهما بقوّة وحاول أصدقاؤه إنقاذه. تجمَّع حشدٌ من الناس، وفي المشاجرة التي تلت ذلك، ألقى شخصٌ ما طوبة على رأس الشرطي، أطاحت خوذته من شدتها.

نُقل الشرطي المصاب في إحدى سيارات الأجرة إلى المستشفى العام بالمدينة، حيث توفي في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي. وكشف تشريح الجثة عن أنَّ جمجمته كانت مكسورة في مكانين.

أثارت وفاة الشرطيّ موجةً من الغضب، إذ ثارت افتتاحيات صحف برمنغهام ضد الوحشية والعنف والتدهور الذي واجه مأموري المدينة يومياً.

وفقاً لما أوردته الصحيفة حينها فقد كانت نسبة كبيرة من الجيل الناشئ تخرج من مرحلة الصبا إلى مرحلة الرجولة دون الاكتراث بأي سلطة مهما كانت، جنباً إلى جنب مع كل غرائز الوحشية الغاشمة المزروعة فيهم.

على عكس المسلسل بدأ الصعود المفاجئ للاضطرابات التي اجتاحت الشوارع وحرب العصابات في برمنغهام في الفترة بين عامي 1873 و1874، بينما كانت أحداث المسلسل في عشرينات القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى.

عموماً أدّى الركود الذي أعقب الازدهار الذي حدث أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر إلى الزجّ بآلاف الشباب العاطلين والمحرومين من حقوقهم إلى الشوارع. في الوقت نفسه، قوبلت حملة الشرطة ضد السُكر والقمار في الشوارع بالاستياء في مناطق الطبقة العاملة.

برز الشباب بوضوح في الاضطرابات التي تلت ذلك، ووصف أعضاء عصابات الشوارع في برمنغهام أنفسهم بـ «الكادحين».

وواجهت عصابات الشوارع بعضها البعض في قاعات الموسيقى أيضاً. ففي 23 ديسمبر/كانون الأول 1893، طُعِن جون ميتكالف (20 عاماً)، في العُنق أثناء شجارٍ بين عصاباتٍ متنافسة من بارك ستريت وبارفورد ستريت. اشتبكت العصابات خارج قاعات الحفلات الموسيقية، واستخدمت في قتالها إبزيم أحزمة البناطيل المعدني وكذلك السكاكين. كما أُدين توماس تشيري (19 عاماً)، وكان يعمل حداداً بالقتل الخطأ، وحُكم عليه بالسجن لمدة 5 سنوات مع الشغل.

بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، تبنَّى كادحو برمنغهام زيّاً مميزاً: أن تكون حليق الرأس وترتدي سروالاً تتسع أرجله عند نهايتها. لقد كان مظهراً مشتركاً بين نظراء الكادحين في مانشستر ولندن، المخادعين ومثيري الشغب.

لكنّ الملاحظ أن هذه العصابات كانت عصابات بسيطة، انشغلت ببعض عمليات القمار والصراعات المحلية البسيطة ولم تكن بنفس القوة والنفوذ الذي أظهره المسلسل، فقد أظهر المسلسل توماس شيلبي وهو يتلقَّى اتصالاً من ونستون تشرشل الذي أراد التعاون معه في تسيير بعض المعاملات.

بالمجمل كان معظم أفراد Peaky Blinders ينتمون إلى طبقةٍ فقيرة كادحة. فهولاء الشباب هم نتاجٌ للفقر والبؤس، والعشوائيات، فكان من أعضاء العصابة عمّال في سبك النحاس، وعمّال في سبك الحديد، وصانعي حواجر، وعاملين في صك المعادن، ومنظِّمي وثائق، وصانعي أختام، وملمِّعي بنادق، وكذلك صانعي نظارات.

أيضاً لم يكن هناك وجود حقيقي لشخصية تومي شيلبي الأسطورية في المسلسل، بل إنّه لم يكن هناك عائلة كالتي ظهرت في المسلسل، وربما كان له وجود باسمٍ آخر وتفاصيل أخرى في عصابةٍ أخرى من عصابات مدينة برمنغهام مثلاً. إذ إنه يشبه «بيلي كيمبر» رئيس عصابة «أولاد برمنغهام»، وكان كيمبر قد خدم في الحرب العالمية الأولى، وكان ذكياً وذا مهارات قتالية فائقة، لكنّ بالطبع لم يكن كما جسّده المسلسل.

أما بالنسبة لعضو عصابات Peaky Blinders فالصورة الحقيقية مثل المسلسل، فهو شخصٌ شديد الوعي بالأناقة. كان أعضاء العصابة مهتمّين بمظهرهم الشخصيّ جداً إذ يرتدون ملابس ملائمة لشخصياتهم بمهارة: سروالٌ متّسع الأرجل مُحكم بحزام، وحذاءٌ طويل العُنق معزَّز بمسامير في النعل، وسترة من نوعٍ مختلف، ووشاحٍ مزخرف، وقبّعةٍ سوداء مستديرة مع حافة ممدودة طويلة.

أمّا ارتداء القبعة فهي لإخفاء واحدة من عينيه بإتقان، ومن هنا جاءت تسمية «Peaky Blinder». وكان حليقاً مثل السجناء، باستثناء خصلة أمامية طويلة متدلِّية بميلٍ على جبينه.

أرسلت صحيفة The Birmingham Mail مراسلاً إلى أحد أحياء العصابة، في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، ونقل المراسل مقابلة مع صديقة أحد أفراد العصابة. كان يسهل التعرُّف عليها من مظهرها، لأنَّها كانت تُشبه كل شيء في ذلك الفرد نفسه: كان لها المظهر الفخم نفسه متمثلاً في أزرارٍ لؤلؤية اللون، والخصلة المطولة نفسها التي تحجب كامل الجبين وتنحدر إلى عيونها تقريباً، والمنديل الحريريّ المزخرف المميز نفسه الذي يغطِّي رقبتها. كانت رأسها مخفية أسفل قبعة أنيقة ذات أبعاد كبيرة ومزينة بالريش والخشخاش.

ومن المثير للاهتمام أنه بحلول أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، كان زي أفراد عصابة Peaky Blinders يضم أزراراً لؤلؤية اللون المرتبطة عادة ببائع الخضر المتجول في لندن.

في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، تلاشت عصابة Peaky Blinders في برمنغهام عن الأنظار. ينسب غودرسون تراجع بريق عصابات الكادحين وما صاحبه من اختفاء أفراد عصابة Peaky Blinders إلى عددٍ من العوامل، تتراوح من صعود بريق كرة القدم باعتبارها مصدراً بديلاً للإثارة لشباب الطبقة العاملة وصولاً إلى الحملة المتأخرة ضدهم من الشرطة والقضاء.

مثل كل الصيحات الشبابية، كان لموضة عصابة Peaky Blinders مدَّة صلاحية محدودة. في العقود الأولى من القرن العشرين، بدأ الشباب في برمنغهام، كما في أي مكانٍ آخر في جميع أنحاء بريطانيا، التحوُّل إلى هوليوود للبحث عن معنى جديد للسحر والبريق. لو ظهر شاب يرتدي زي Peaky Blinders في برمنغهام في عشرينات القرن العشرين لاستقبله الناس بالدهشة، رغم أن المارة في منتصف العمر ربما يضحكون بينهم وبين أنفسهم عندما يرونه، فقد ذهبت الموضة.

الآن ومع إصدار الموسم الخامس، بعدما أصبح لآل شيلبي إمبراطوريتهم الخاصة التي أنشأها تومي شيلبي، علينا أن نعرف أن هذه العصابة والشخصية الأسطورية ليست حقيقية وإنما تم تطويرها للملائمات الدرامية، لكن الحقيقة التي لن تتغيّر أن عصابة بيكي بلايندرز اندثر إرثها مع الزمن كغيرها من العصابات، لكنّ ذوقهم الخاص بالأزياء وميلهم للعنف قد كفل موقعهم في الذاكرة الجماعية لثاني أكبر مدينة في إنجلترا.

في عام 1936، أي بعد مرور 40 عاماً تقريباً على تلاشيهم، عادت للذاكرة أيام Peaky Blinders عندما نُشرت سلسلة من الرسائل في عمود في صحيفة The Birmingham Weekly Post. رأى أحد القراء أن العديد من رجال الشرطة والمدنيين على حدٍّ سواء قُتلوا على أيديهم. ورداً على ذلك، أصر الأشخاص الذين ولدوا وترعرعوا في برمنغهام أنَّ عضو عصابة بيكي بلايندرز كان مجرد عامل عادي يمكن أن نجده دائماً في العمل أثناء النهار في مسبك للنحاس الأصفر، يؤدي عمله على المخرطة أو ربما يلمع المعادن أو يعمل في متجر سبك المعادن.

كان هناك مراسل آخر، هو إف. أتكينز، يصر على أنَّ كثيراً من القراء لديهم تصور خاطئ عن أفراد عصابة بيكي بلايندرز: حُصِرت أعمالهم في الغالب على العصابات المتنافسة والشرطة. ونادراً ما كان يتدخل العامة معهم ما لم تتدخل الشرطة.

كشف أتكينز أيضاً عن طريقة استحداث القبعة التي منحت العصابة لقبها. فقد كانت قبعة مستديرة ذات حافة مصممة لتناسب الجوانب، وكان الجزء الأمامي من الحافة يشبه إلى حدٍّ ما فتحة الإبريق. كانت القبعة تُمنح ذلك الشكل عن طريق ترطيب الحواف وتسخينها بالنار، ما يجعلها تأخذ الشكل المطلوب. كان يجري ارتداؤها على جانب الرأس لإظهار الشعر الموجود على الجانب الآخر الذي يتدلى على شكل خصلة.

توقفت عصابة بيكي بلايندرز منذ فترة طويلة عن الترصد في شوارع برمنغهام، لكن ذوقهم الخاص بالأزياء وميلهم للعنف قد كفل موقعهم في الذاكرة الجماعية لثاني أكبر مدينة في إنجلترا.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى