تقارير وملفات إضافية

عروس الثورة اللبنانية التي ذبحها الأسد.. طرابلس بين تشويه حزب الله وخطط الهيمنة الإماراتية

كل من يعرف الجغرافية اللبنانية يدرك الأثقال التاريخية التي وضعتها هذه الجغرافية على مدينة طرابلس ولكن هذه المدينة المظلومة تحاول بجرأة الآن أن تنفض غبار العقود الأخيرة من هذا التاريخ لتستحق لقب عروس الثورة اللبنانية.

فالساحل اللبناني المتمايل مع أمواج الصراعات المذهبية والإثنية والطائفية أفرز مدناً قدرها أن تحمل حملاً ثقيلاً تحمله بدلاً من المساحة اللبنانية برمتها وربما الإقليم برمته.

فطرابلس التي توصف بالعاصمة الثانية للبنان وضعتها الجغرافيا واجهة الشام وجبهة أولى لأي دولة تسعى لوضع يدها على الشرق من الرومان وحتى العثمانيين.

وتعتبر طرابلس المدينة السنية الأولى وخزان الزعامة لأي طامح للرئاسة الثالثة (رئاسة الحكومة التي تعد من نصيب الطائفة السنية) وعنواناً واضحاً لأي بريد إقليمي منذ الاستقلال مروراً بأحداث ثورة شمعون عام 1958، وليس انتهاء بحرب العام 1985 (حرب شهدتها المدينة بين حركات سنية والمقاتلين العلويين ثم الجيش السوري).

فالمدينة التي اعتبرت مطلع الثلاثينيات أقوى المدن العربية من حيث الاقتصاد تعيش انتكاسة اجتماعية ومعيشية جعل منها وبحسب الدراسات الأخيرة المدينة الأفقر على حوض البحر الأبيض المتوسط متخطية مدناً تشهد حروباً ونزاعات.

منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، كان لزاماً على طرابلس أن تكون في مقدمة المدن التي يراد جرها لحرب لا تسعى لها.

وعلى الرغم من حالة التعايش الطائفي والتفاهم بين مسلميها ومسيحييها إلا أن أصابع إقليمية بقيت تراقب الصمت الذي لف المدينة الرافضة لإشعال فتيل جديد للحرب.

وعلى الرغم من المجازر التي شهدتها القرى المجاورة لطرابلس وعملية التهجير الممنهجة إلا أن المدينة بقيت صامدة في وجه طوفان الدماء والقتل على الهوية، ومحاولات التقدم المستمر لاحتلال المدينة تارة من الأحزاب اليمينية وتارة من اليسارية ما حملها فوق طاقتها حيث تشكلت على إثرها تيارات جهادية سنية كحركة التوحيد وجند الله واللذين كانا على تنسيق مباشر مع المقاومة الفلسطينية، ما استفز نظام الأسد والذي خاض حروباً بالوكالة مع منظمة التحرير بزعامة ياسر عرفات والذي دفع بقوات حركة فتح للتمركز في طرابلس بعد تراجع المقاومة الفلسطينية من بيروت باتجاه طرابلس لتشهد المدينة قصفاً مركزاً من الفصائل الفلسطينية الموالية لسوريا ومنطقة جبل محسن (ذات الأغلبية العلوية الموالية للأسد) حتى منتصف العام 1983 لتنتهي بانسحاب عرفات وقواته باتجاه تونس .

كانت طرابلس وبحسب ما يطلق عليها منذ الستينيات تعيش صعوداً كبيراً لتيارات الإسلام السياسي المتأثرة بفكر جماعة الإخوان المسلمين، فقيادات الإخوان المصرية والسورية (حسن الهضيبي ومصطفى السباعي) كانت تتقاطر على طرابلس لتلقي مجموعة من الشبان المتأثرين بفكر حسن البنا وسيد قطب والذين أسسوا فيما بعد تياراً إسلامياً أطلقوا عليه اسم «الجماعة الإسلامية» ليكون الوليد الشرعي لفرع الإخوان المسلمين في لبنان.

حمل هؤلاء الشبان مشروعاً سياسياً يهدف للمشاركة في الحياة العامة السياسية والاجتماعية، لكن تبدل المشهد واندفاع اللبنانيين لحرب طائفية وغزو إسرائيل المتكرر للجنوب اللبناني، اضطر هؤلاء للذهاب نحو الخيار العسكري وأعلنوا تأسيس مجموعات قتالية أطلقت على نفسها اسم «قوات الفجر» وبات هذا الاسم راسخاً في أذهان اللبنانيين كأول تنظيم جهادي لبناني يعلن عن إسرائيل وحلفائها العدو الأول لسنة لبنان.

لكن هذا الخيار دعا مجموعات أخرى للتشكل فكان تشكيل ما يسمى بحركة التوحيد وجند الله واللذين قفزا مباشرة لواجهة المشهد بعد إعلانهما طرابلس إمارة إسلامية ما استفز حينها كل الأطراف اللبنانية والعربية وأخذ بطرابلس نحو الصراع المباشر مع محيطها لتشهد المدينة وقتها أقسى أنواع الحصار السياسي والاقتصادي على الرغم من أن رئيس الحكومة رشيد كرامي كان يقطن في طرابلس لكن هذا لم يشفع لها.

أفرزت التقسيمات الطائفية في لبنان في أذهان اللبنانيين قبيل اندلاع الحرب ما يسمى عقدة الأقليات وتغول الأكثريات.

فأنشأت كنتونات طائفية ومذهبية في مواجهة بعضها البعض وتمت تغذيتها بالسلاح والأفكار الإلغائية وهذا ما بدا جلياً منذ تأسيس علي عيد للحزب العربي الديمقراطي الذي يضم علويي شمال لبنان ليضعهم دون أسباب في مواجهة جيرانهم السنة في طرابلس.

وبدأ الحزب نشاطه بقصف المدينة عشية إعلانه عن صواريخ أمدته بها القيادة السورية في دمشق لتنشب بعدها معارك لا تنتهي.

في حين وجد أهالي المدينة وأحزابها أنفسهم أمام خيار الدفاع عن وجودهم في ظل حصار قوات الردع السورية من الخارج وقصف وقنص من جبل محسن من الداخل.

وعلى الرغم من كل الاتصالات واللقاءات التي جمعت الوجوه الرئيسية للمدينة مع نظام حافظ الأسد إلا أن النظام ظل متمسكاً بموقفه الداعي لتسليم الأحزاب الطرابلسية لسلاحها والسماح للقوات السورية في التمركز في شوارعها وأزقتها لضبط الأمن.

وبعد جولات من القتال تارة والحوار تارة أخرى توصل الطرفان لحل يقضي بدخول المخابرات السورية إلى المدينة دون قتال وأن تتعهد سوريا بعدم التعرض لأي مواطن.

لكن الواقع كان مغايراً عند تنفيذ الاتفاق حيث قام مسلحو جبل محسن برعاية الجيش السوري حينها بالقيام بمجزرة مروعة  راح ضحيتها مئات الشبان والنساء والأطفال فيما يعرف بمجزرة التبانة.

وحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية فقد وقعت مجزرة منطقة «التبّانة في طرابلس في ٢١ و٢٢ ديسمبر/كانون الأول ١٩٨٧، ثم وقعت مجازر في منطقة الضنية وعكار ذات الغالبية السنية في شمال لبنان في الأيام التالية، وقد سقط فيها ما لا يقلّ عن ٧٠٠ قتيل معظمهم من الأبرياء.

ويشير التقرير إلى أن تلك المجزرة التي كانت بمثابة «تكرار» لمجزرة حماه التي ارتكبها حافظ الأسد في شباط/فبراير ١٩٨٢.

تمتلك طرابلس مرافق إقتصادية تخولها لأن تكون العاصمة الأولى للبنان اقتصادياً، فهي المدينة الوحيدة التي يوجد على أطرافها مطار مقفل، ومصفاة نفطية معطلة، ومرفأ مهمش، ومعرض تجاري يأكله الغبار، ومنطقة اقتصادية تعيش تسويف قرارات حكومية، ومعالم أثرية تصنف أنها الأهم على المتوسط.

لكن المدينة تشهد إهمالاً مبرمجاً منذ انتهاء الحرب الأهلية فبحسب الدراسات الأخيرة فإن طرابلس تعتبر الأفقر من حيث الدخل الفردي وتعاني من ركود اقتصادي.

إذ يعيش أبناء المدينة المنكوبة أسوأ مرحلة تمر عليهم، وترافق هذا الواقع المأزوم مع حملة تشويه إعلامي شنتها وسائل إعلام التيار الوطني الحر وحزب الله في محاولة مستمرة لشيطنة المدينة التي اختارت حينها الاصطفاف مع الفريق السياسي المناوئ للحلف السوري – الإيراني.

وبدأ شعار المرحلة لقوى السلطة حينها «طرابلس عاصمة للتطرف وحاضنة للإرهاب» وتصاعد هذا الخطاب أضعافاً منذ اندلاع الثورة في سوريا حيث كانت طرابلس الداعم الأبرز للثورة السورية والحاضنة الأولى للاجئين الهاربين من بطش النظام لينضم إعلام النظام للحملة المستمرة والتي لم تنته.

بدأ النفوذ السعودي على لبنان يتراجع منذ قرر الحريري عقد تسوية الرئاسة مع ميشال عون وحزب الله.

فالسعودية المأزومة في اليمن والعراق وليبيا والتي تشهد تحولاً سريعاً منذ صعود نجم الأمير محمد بن سلمان في الحكم، لم يعد لبنان موطئ القدم الأساس لها في المنطقة ما أفسح المجال للعب دور إماراتي في محاولة لملء مقعد السعودية في اللعبة السياسية.

فالسفير الإماراتي ومعه فريق من الإعلاميين والناشطين باتوا لا يفارقون مناطق نفوذ السعودية وبات التطبيل الإعلامي يشمل أبوظبي وحاكمها بعد أن كانت السعودية الأم الحنون والصدر الدافئ لفريق سياسي لبناني.

وبحسب متابعين فإن الإمارات لعبت دوراً مباشراً في انتخابات البرلمان الأخيرة. حيث فرضت مرشحين على لوائح ووضعت «فيتو» على مرشحين وأحزاب ترى الإمارات أنهم يشكلون خطراً على نفوذها المتمادي في ساحة لبنان.

لكن على طرف آخر ينمو وبشكل متسارع حضور شعبي لتركيا اللاعب الجديد في منطقة ملتهبة.

فالدور التركي والذي لم يتعد خدمات تنموية وترميم آثار وافتتاح مشافي واهتمام باللبنانيين ذوي الجذور التركية يثير غضب وقلق أبوظبي والتي فتح إعلاميوها الجدد النار على تركيا وباتت المواضيع والمقالات المهاجمة لتركيا وتاريخها العثماني حديث الصحف والصالونات السياسية.

فتركيا الجديدة باتت وجهة اللبنانيين السياحية حيث تستقبل سنوياً أكثر من مليون سائح لبناني بحسب بيان صادر عن سفارة أنقرة في بيروت بعد أن كانت دبي الوجهة المفضلة للسياحة اللبنانية.

وتؤكد مصادر متابعة لحدة تصاعد الصراع التركي-الإماراتي في لبنان أن أبوظبي تخشى من تمدد هذا الدور ليصبح دوراً سياسياً ويصبح لتركيا حلفاء يشاركون في اللعبة السياسية.

فطرابلس والتي تشهد بشكل مباشر هذا الصراع باتت الملعب الأول.

فهي المتضامنة الدائمة مع تركيا منذ أسطول الحرية وحتى تصريحات المسؤولين اللبنانيين عن المجازر بحق الأرمن أو ما أسماه الرئيس اللبناني ميشال عون باحتلال عثماني كاد أن يفجر أزمة بين أنقرة وبيروت جاء الرد الفعل السني المؤيد لتركيا من طرابلس.

وعشية كل أزمة يصبح العلم التركي وصور أردوغان في كل شوارع المدينة المترقبة لاحتضان تركي لها في ظل فشل السعودية في تحسين واقعها.

وترى مصادر لبنانية مطلعة أن الإمارات وضمن سياساتها في السيطرة على موانئ المنطقة تضع مرفأ طرابلس نصب عينيها في مواجهة الرحلات التجارية والسياحية التي يشهدها المرفأ بين طرابلس ومدن الساحل التركية ما يشكل تهديداً مباشراً لنفوذ إماراتي زاحف.

منذ أن انطلقت الثورة اللبنانية منتصف الشهر الفائت تشهد طرابلس تفاعلاً كبيراً معها في ساحاتها والتي لم تمتلئ منذ عقود لأي حدث أو مناسبة وطنية.

فساحة النور وسط طرابلس تشهد إلى هذا اليوم أضخم التظاهرات والتجمعات الشعبية والتي باتت قبلة اللبنانيين، وأصبحت حديث الإعلام المحلي والعالمي. فالمدينة الخارجة من تحت ركام الشيطنة والتهميش والإقصاء باتت اليوم نجمة ساحات لبنان ويتقاطر عليها تباعاً كل وسائل الإعلام لنقل هذه الصورة الجديدة التي كادت أن تمحى من الأذهان.

فالمدينة والتي لقبت مرة قندهار ومرة أخرى إدلب في إشارة لشيطنتها عبر وصمها وتشبيهها بمدن شهدت صراعات قتالية، أصبحت اليوم عروس الثورة وصورتها الراقية والمتحضرة.

وباتت جلسات الحوار والمناقشات على أطراف ساحتها المنتفضة حديث الصحف والنخب عن رقيها المشهود له حيث تدور أحاديث الاقتصاد والسياسة والحكومة المنتظرة والانتخابات المبكرة والمسارات الدستورية التي هي الشغل الشاغل لكل الناشطين.

في حين بقيت الصورة الذهنية القاتمة من قبيل التاريخ والماضي وأصبح الحديث اليوم عن الحضارة والشعب الطرابلسي الطيب والكريم في طبعه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى