تقارير وملفات إضافية

الطائرات المسيّرة سلاح حفتر «المدمر» يقتل المدنيين.. لكنه يؤجج الحرب ولا ينهيها

مع إحباطات جنرال الحرب خليفة حفتر بسبب فشله في اقتحام طرابلس، مقر حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً، لمدة 8 أشهر، ازداد مؤخراً اعتماده على الطائرات بدون طيار، مسبباً وقوع أعداد كبيرة من المدنيين، فهل ذلك السلاح المدمر قادر على حسم الحرب؟

صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «في ليبيا: طائرات بدون طيار قوية ورخيصة الثمن تقتل المدنيين وتؤجج الحرب»، سلطت فيه الضوء على المآسي التي يخلفها ذلك السلاح.

في ظلام الساعات الأخيرة من الليل، ارتطم صاروخ بحائط أسمنتي؛ فمزق ساق الأم، وحرق قدم ابنتها ذات الـ12 عاماً، وأجبر العائلة على ترك منزلها.    

لم يكن مصدر الصاروخ الذي دمر حياة هذه العائلة طائرة مقاتلة، ولا دبابة، ولا مدفعية هاون -التي كانت لفترة طويلة المذنب الأساسي في تاريخ ليبيا الطويل من الصراعات- بل طائرة بدون طيار صينية الصنع.         

ومع مرور 8 أشهر على أسوأ موجة عنف شهدتها ليبيا خلال السنوات الثمانية الأخيرة، بدأ يزداد استخدام الطائرات بدون طيار المُدجَّجة بالأسلحة في القتال، مصحوباً بارتفاع معدلات الخسائر البشرية.  

وتشير الأمم المتحدة إلى أنَّ الغارات الجوية تسببت في مقتل نحو 60% من 284 مدنياً قضوا منذ بدأ أمير الحرب خليفة حفتر، قائد قوات شرق ليبيا، هجومه للإطاحة بحكومة طرابلس المدعومة من الهيئة الدولية في أبريل/نيسان. ووفقاً لمسؤولي الأمم المتحدة ومسؤولين ليبيين، أسفرت هجمات الطائرات بدون طيار الأخيرة عن مقتل 12 فرداً من عائلة واحدة، من بينهم 10 أطفال، في جنوب ليبيا، وكذلك ما لا يقل عن 10 أشخاص، معظمهم من المهاجرين الأفارقة، في مصنع للبسكويت في طرابلس. ويقول مسؤولون في الأمم المتحدة ونشطاء حقوقيون إنَّ هذه الهجمات قد ترقى لجرائم حرب.

من جانبه، قال اللواء محمد الحداد، القائد الأعلى الموالي للحكومة في مصراتة: «الصواريخ التي  تطلقها الطائرات بدون طيار تزداد قوة. ففي ما مضى، لم تكن لديها القدرة على اختراق المباني الخرسانية».

ونُشِرَت الطائرات بدون طيار في نزاعات الشرق الأوسط بدايةً من اليمن مروراً بسوريا وحتى الأراضي الفلسطينية، لكن لم تشهد أي حرب في المنطقة انتشاراً سريعاً ومكثفاً للقوى الجوية ذات التحكم عن بعد مثلما يتضح الآن في ليبيا. إذ سجلت الأمم المتحدة وقوع أكثر من 1000 غارة جوية منذ أبريل/نيسان. ويقول المحللون إنَّ هذه المعدات الفتاكة تطيل أمد الصراع وتقدم أدلة يومية على أنها أصبحت حرباً بالوكالة تخوضها دول متعددة منتهكة حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة.

وفي هذا السياق، قال ماثيو هربرت، كبير مستشاري الأبحاث في معهد الدراسات الأمنية بجنوب إفريقيا: «القوى الخارجية هي المُحركة للصراع؛ فهي التي تقدم الطائرات بدون طيار والذخيرة والقادة لتسييرها».

وأضاف هربرت: «بدون تدخل أجنبي، قد تظل هناك طائرات بدون طيار في النزاع الليبي، لكنها لن تصل لحد حرب الطائرات بدون طيار المحتدمة التي نشهدها الآن».

من جانبه، قال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، غسان سلامة، لمجلس الأمن الدولي في الشهر الماضي، إنَّ «استخدام القوة الجوية والتكنولوجيا الدقيقة أصبح سمة سائدة في نزاع كان ليصبح لولاها أخف حدة».

تضطلع الطائرات بدون طيار، من طراز Wing Loong الصينية الصنع التي تنشرها الإمارات في ليبيا، بدور محوري في حملة خليفة حفتر، الذي تحاصر قواته طرابلس. ووفقاً لقادة ليبيين ومحللين ومسؤولين غربيين، شكَّلت الحرب الجوية المتزايدة وتدفق المرتزقة الروس في الأسابيع الأخيرة قوة محفزة لطموحات حفتر للسيطرة على ليبيا.

ومن جانبها، تزود تركيا حكومة الوفاق الوطني التي شكَّلتها الأمم المتحدة بطائرات بدون طيار من طراز «Bayraktar TB2″، لكن مداها أقصر وقوتها أقل من طائرات حفتر. ويسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الاضطلاع بدور أكبر في ليبيا؛ إذ أبرم مؤخراً اتفاقات اقتصادية وأمنية وعسكرية مع حكومة الوفاق الوطني وعرض إرسال قوات إلى هناك، ولم يستجب مسؤولون أتراك ولا إماراتيون على طلب للتعليق. 

وأفاد محققون من الأمم المتحدة هذا الشهر بأنَّ دقة الضربات تشير إلى أنَّ تشغيل الطائرات بدون طيار وصيانتها لا يُسنَد لليبيين الذين يفتقرون إلى الخبرة الفنية. وأشاروا إلى أنَّ استخدامها أدى إلى أضرار جانبية أقل مما يمكن أن ينشأ عن صراع يحركه قتال الشوارع.

ومع ذلك، تلحق الطائرات بدون طيار أضراراً بالغة بالمدنيين؛ إذ أسفرت غارة على مستشفى ميداني في يوليو/تموز الماضي عن مقتل خمسة أفراد من الطاقم الطبي. وأودى هجوم شنته قوات حفتر على تجمع محلي في أغسطس/آب بحياة 45 شخصاً. إلى جانب ذلك، أدى هجوم في إحدى ضواحي طرابلس هذا الشهر إلى مقتل خمسة أشخاص. واستُهدِفَت كذلك سيارات إسعاف ومستشفيات ميدانية في الأسابيع الأخيرة.

وفي هذا الصدد، علَّق رضا شعوته، مدير إدارة الخدمات الصحية في طرابلس، قائلاً: «غالبية هؤلاء الضحايا سقطوا في قصف بطائرات بدون طيار».

وتقل تكلفة الطائرات بدون طيار، سواء الصينية أو التركية، كثيراً عن الطائرات الحربية وطائرات MQ-9 Reaper بدون طيار الأمريكية، التي تبلغ قيمتها 15 مليون دولار والتي يستخدمها الجيش الأمريكي لاستهداف المتشددين في ليبيا. وقد سمح ذلك لحفتر وحكومة طرابلس ببناء ترسانات محمولة جواً تقل تكلفة صيانتها واستبدالها عن الطائرات المقاتلة.

وقال كريس كول، مدير منظمة Drone Wars UK -وهي منظمة مقرها أكسفورد تراقب نشاط الطائرات بدون طيار: «في ليبيا، منحت الطائرات بدون طيار جانبي الصراع قدرة جوية كبيرة بتكلفة قليلة نسبياً. إذ مكّن استخدام هذه الأنظمة المسلحة عن بُعد -الكبيرة والصغيرة- الجهات الفاعلة من غير الدول والجهات الحكومية من الانخراط في حرب مع إفلات فعلي من العقاب».

إذ قال عمر أمير إنَّ عائلته الكبيرة كانت تقضي إحدى الليالي، في وقت ليس ببعيد، داخل منزلها الفخم ذي حمام السباحة الكبير وأشجار النخيل، حيث كانوا يخططون لحفل زفافه، وكان ثوب العروس في الطابق العلوي.

لم يستطع أحد النوم؛ إذ أمكنهم سماع أزيز الطائرات بدون طيار في الخارج، وكل بضع دقائق صوت ضربة، لكنهم شعروا بأنهم محميون. 

وبينما يقف وسط الركام والدخان داخل غرفة معيشة منزله، بعد 3 أيام من الهجوم، أضاف عمر، البالغ من العمر 21 عاماً: «لم نتوقع أبداً أن يخترق الصاروخ منزلنا».  

حين شن حفتر حملته على طرابلس، لم يتوقع سوى القليل من الليبيين أن يتزامن ذلك مع اندلاع حرب جوية، كما لم يتوقعوا قط أن يكون السلاح المستخدم فيها الطائرات بدون طيار.  

منذ ثورات الربيع العربي عام 2011، وهجمات حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي أطاحت بالديكتاتور الليبي معمر القذافي وأغرقت الدولة منتجة النفط في حالة من الفوضى وانعدام القانون، تقع اشتباكات عديدة بين الميليشيات التي تسعى كل منها للظفر بالنفوذ والثروة والسيطرة على الأرض. وكانت هذه المعارك في غالبيتها برية، استُخدِمَت فيها مدافع ثقيلة ومدافع هاون ودبابات ومقاتلين غير مدربين يحملون بنادق كلاشنيكوف «AK-47».

لكن هذه المرة، تهيمن على المعارك الاستراتيجيات العسكرية والأسلحة المتطورة؛ في ضوء حصول كل جانب على دعم من حكومات إقليمية وغربية. فمن ناحية، يحظى حفتر بدعم الإمارات العربية المتحدة ومصر والسعودية والأردن وفرنسا وروسيا، وكذلك مقاولون عسكريون روس من مجموعة فاغنر المرتبطة بالكرملين (الرئاسة الروسية) ومرتزقة أفارقة من السودان وتشاد.

ومن ناحية أخرى، تدعم تركيا وقطر وإيطاليا ودول أوروبية أخرى حكومة الوفاق الوطني. وظاهرياً، تدعم الولايات المتحدة حكومة طرابلس، لكن استمرار تواصل إدارة ترامب مع حفتر بعث بإشارات محيرة. يُذكر أنَّ حفتر يحمل الجنسيتين الليبية والأمريكية، وكان يمثل سابقاً نقطة قوة لوكالة الاستخبارات المركزية، وعاش لسنوات في شمالي ولاية فرجينيا الأمريكية.

وعندما توقفت حملة حفتر البرية في أبريل/نيسان، تحول جيشه، الذي يسمي نفسه «الجيش الوطني الليبي»، إلى استخدام الطائرات بدون طيار والطائرات الحربية، بما في ذلك طائرات ميراج ورافال الفرنسية وطائرات سوخوي والمروحيات القتالية من طراز MI-35 الروسية. وفي المقابل، بدأت حكومة الوفاق الوطني بحلول الصيف الماضي تنشر طائراتها بدون طيار.

ووفقاً لأحدث بيانات كشفت عنها الأمم المتحدة، شن حفتر أكثر من 800 غارة جوية باستخدام هذه الطائرات، في حين شنت حكومة الوفاق الوطني ما يزيد على 240 غارة.

وعلى سبيل المقارنة، أطلق الجيش البريطاني 974 رأساً حربياً باستخدام طائرات بدون طيار في العراق وسوريا منذ أغسطس/آب 2014، بحسب بيانات Drone Wars UK. 

وفي ليبيا، تعد الرؤوس الحربية للطائرات بدون طيار الصينية التي تستخدمها قوات حفتر أثقل وأشد تدميراً من الأسلحة التركية التي تستخدمها حكومة الوفاق الوطني.

عماد الدين بادي، محلل ليبي في فريق Middle East Institute البحثي، قال: «هذا يعني أنَّ حفتر نجح فعلياً في الظفر بسيطرة أكبر على سماء ليبيا».  

ويعمد مقاتلو الميليشيات إلى قيادة سيارات مدنية أو إقامة نقاط تفتيش تحت الجسور لتجنب التعرض للاستهداف. وعند رصد طائرة بدون طيار، يترك السائقون المدنيون سياراتهم ويهرعون للاختباء. ووجدت هذه المعدات طريقها للأحاديث اليومية: فأصبح الليبيون يطلقون على الطائرة بدون طيار المسلحة «مُسيّرة»، وطائرة الاستطلاع بدون طيار الأصغر اسم «ياسمينة».

وفي نهار يوم ليس ببعيد، عَكَف أطباء ومسعفون على تشييد عيادة في محطة بنزين مهجورة في طرابلس لاستقبال المقاتلين الذين يحاربون على بعد أقل من ميل واحد. وبينما هم كذلك، وصلت إلى أسماعهم كل بضع دقائق، صوت تحطم قذيفة في مكان قريب، وفي تمام الثالثة و16 دقيقة عصراً، أشار حمزة علي إلى السماء، وصاح: «ياسمينة!». 

واحتمى أفراد الفريق، وبعدها بدقائق، دخل إلى المحطة مسلحون في شاحنة نقل صغيرة مُثبّت عليها مدفع رشاش ثقيل. وحثهم علي والمسعفون الآخرون على المغادرة، خوفاً من أن يجعل وجودهم العيادة هدفاً أكبر. لكن المقاتلين رفضوا، لذا، صاح علي: «دعونا نذهب»، وضب الفريق أغراضه سريعاً وغادروا المحطة.

خلَّفت الطائرات بدون طيار ندوباً عديدة في أنحاء مصراتة، التي تقع على الساحل الليبي على بعد 186.6 كيلومتر من طرابلس. فالكثير منها أصابت مصانع ومطاراً مدنياً مما عطّل الرحلات الجوية. وفي أحد الحقول، يرقد حطام طائرة بدون طيار صينية أُسقِطَت.  

ويقول يوسف جمال، أحد كبار الزعماء القبليين في مصراتة: «الناس مذعورون. ولا يعرفون ما الذي قد يحدث ليلاً».

وأوضح أنَّ بعض المناطق السكنية التي تعرضت للقصف تقع بالقرب من القواعد العسكرية، لكن تلك الهجمات لم تكن لتحدث لو التزمت الأطراف بحظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة، وقال جمال: «لدينا الآن معدات عسكرية وآلات وأسلحة متطورة جديدة تستهدفنا. لو أنهم طبقوا الحظر، لما وصلنا لهذه النقطة».

وداخل قصر عائلة عمر أمير، شرع عمال في إصلاح الأضرار، وأُودِعَت والدته وشقيقته في أحد مستشفيات دولة تونس المجاورة، وألغي زفافه. لكن مع ذلك، ملأه شعور بالعرفان.

فقال: «نحمد الله أنه لم يقع المزيد من الإصابات»، بينما وقف أحد العمال يكشط السخام وينفض الغبار عن مرآة معلقة على الحائط»، وأضاف أمير: «رأينا الموت يمر عبر منزلنا. يمكنك إعادة بناء منزل، لكن لا يمكنك إعادة بناء عائلتك».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى