تقارير وملفات إضافية

الهدية الكبرى التي قدمها ترامب للنظام الإيراني عبر اغتياله لسليماني

يُمثِّل اغتيال الولايات المتحدة للجنرال الإيراني قاسم سليماني بداية فصلٍ جديد أشد خطورة في حروب الظل المستمرة بين ما يعرف بمحور المقاومة وحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إذ تتوعَّد الولايات المتحدة الآن بأنَّها ستتولى دوراً أكثر مباشرةً في التصدِّي للقوات المتحالفة مع إيران في المنطقة. 

وكما صرَّح وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر قبل يوم واحد من الاغتيال، «لقد تغيَّرت اللعبة»، مما يشير إلى تحوُّل الأحداث في الشرق الأوسط تحوُّلاً أشد تصادميةً ولا يمكن التنبؤ به.

ويتمثل هدف السياسة الخارجية الأمريكية الآن في القضاء على مكاسب إيران الإقليمية وترسيخ سياسة «عدم التسامح مطلقاً» مع الممارسات الرمادية منخفضة الحدة، مثل الهجمات الصاروخية المتقطعة، التي يفعلها حلفاء إيران. غير أنَّ هذه سياسة متشددة وغير واقعية لأنَّ الولايات المتحدة تُصعِّد نزاعها العسكري ضد إيران بينما تطلب منها في الوقت نفسه عدم التصعيد عسكرياً، وكل هذا في الوقت الذي تُغلق فيه جميع السبل أمام أي حوار سياسي جاد يُمكن أن يحل القضايا العالقة بينهما. 

فكل ما يفعله التصعيد العسكري مع اتخاذ موقفٍ سياسي متشدد هو أنَّه يزيد تصوُّرات السياسة الأمريكية الرامية إلى تغيير النظام في إيران دون قلقٍ من العواقب العنيفة الناجمة عن مثل هذه الحملة. وهذا سيجعل إيران تُضاعف سياساتها الحالية بدلاً من أن تغيِّر نهجها، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية. 

ويعكس هذا النهج الجديد التخلِّي المتزايد عن استراتيجية «القيادة من الخلف» التي اتبعتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وساعدت من خلالها دول المنطقة لتأمين مصالحها الخاصة -كما يتضح في حرب المملكة العربية السعودية في اليمن (وإن لم تنجح)- بدلاً من السماح لنفسها بالانجرار مباشرةً إلى صراعٍ عسكري في المنطقة.

وكذلك تعكس الحملة الجديدة، التي أطلقها اغتيال سليماني، فشل سياسة «الضغط الأقصى» الأمريكية في دفع إيران إلى طاولة التفاوض حول البرنامج النووي بفرض عقوباتٍ أحادية الجانب عليها. فبالرغم من إعادة فرض عقوباتٍ صارمة على إيران، لم تُظهر إيران حتى الآن أي استعداد للتفاوض على اتفاقٍ جديد مع الولايات المتحدة ولم تُبدِ أي رغبة في الموافقة على ما وصفه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مؤخراً بـ «اتفاق ترامب». بل على العكس تماماً، قدَّمت هذه الممارسات حافزاً لإيران للتخلي بصورةٍ متزايدة عن القيود المتعددة المفروضة على برنامجها النووي في الاتفاق السابق.

وبالتبعية، قرَّرت الولايات المتحدة اتباع نهج حركي أقوى من أجل إجبار إيران على التنازل عن مساعيها النووية. فحين سُئِل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عمَّا إذا كانت الولايات المتحدة ستواصل تنفيذ اغتيالاتٍ مشابهة لعملية اغتيال سليماني، ردَّ بالإيجاب، وقال إنَّ «الرئيس سيرد بالطريقة التي ردَّ بها في الأسبوع الماضي، والتي كانت حاسمة وجادة وبعثت برسالةٍ إلى إيران حول القيود التي سنفرضها على هذا النظام».

ومع ذلك، فشل اغتيال سليماني في إحراز تقدُّم بشأن أيٍّ من هذه الأهداف، بما في ذلك إحداث تغيير في سلوك إيران الإقليمي أو التوصُّل إلى اتفاق نووي جديد، وعزَّز تمكين إيران وحلفائها وشرعيتهم، وقوَّض موثوقية الولايات المتحدة وقدرتها في الشرق الأوسط.

فأولاً، أسفر الاغتيال عن توحيد الإيرانيين خلف الجمهورية الإسلامية بصورةٍ هائلة، وهو ما أظهره الملايين الذين شيِّعوا جنازة سليماني في جميع أنحاء إيران معتبرين إيَّاه بطلاً قومياً في حشودٍ هائلة أعادت إلى الأذهان الثورة الإسلامية في عام 1979، وجنازة آية الله الخميني في عام 1989. 

وقد أدَّى هذا الحزن على سليماني والإخلاص الفيَّاض له إلى تعزيز الوعي القومي ودعم السياسات الإقليمية الإيرانية، ووطَّد الإرادة السياسية لدى البلاد لمقاومة الضغط الأمريكي.

 وثانياً، قوَّض الاغتيال قوة الحركة الإصلاحية في إيران، ومن المرجح أن يُسفر عن قمع النشاط المحلي الديمقراطي كما اتضح في الاحتجاجات الصغيرة التي أعقبت إسقاط الطائرة الأوكرانية. ومهما بلغ حجم الانتقادات والمعارضة البارزة لسلوك الدولة الإيرانية على الصعيد المحلي، فسيحل دائماً في المرتبة الثانية خلف التهديدات الخارجية، ويُرسي أسساً لاتخاذ ممارساتٍ أمنية مشددة في الداخل. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المعتدلين الإيرانيين المؤيدين للغرب أصبحوا في موقفٍ صعب بالفعل بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وزيادة التحرُّر الشعبي من وهم وعود حملة الرئيس حسن روحاني بحل مشكلات إيران الاقتصادية من خلال التفاوض مع الغرب. 

وهذا يُنذِر بضعف موقفهم في الانتخابات البرلمانية القادمة في إيران. وكذلك أجَّج الاغتيال مشاعر معاداة الولايات المتحدة بين جيل الشباب الإيراني الذي لم يعايش الثورة الإسلامية أو الحرب الإيرانية العراقية.

وثالثاً، أدى اغتيال سليماني إلى توحيد العالم الشيعي عبر الحدود القومية خلف راية «المقاومة»، وأجَّج معاداة أمريكا بين المجتمعات الشيعية في المنطقة، التي تُمثِّل حوالي 40% من سكان الشرق الأوسط. 

فبعض القادة الدينيين الشيعة البارزين، بمن فيهم آية الله علي السيستاني في العراق الذي لديه عشرات الملايين من الأتباع والأنصار في جميع أنحاء العالم، مدحوا سليماني ووصفوه بأنَّه شهيد في إدانتهم لاغتياله. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ وصول سليماني إلى مكانة شهيدٍ مقدَّس تحظى بتأييدٍ جارف داخل المجتمعات الشيعية يُمثِّل ضعف الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى كسب القلوب والعقول. فالشهداء في المذهب الشيعي الحديث لهم دورٌ اجتماعي سياسي فريد بصفتهم أشخاصاً يشبهون قديسين أحياء، وهم أشد رسوخاً بكثير على الصعيدين الإيديولوجي والمؤسسي بين المجتمعات الشيعية مقارنةً بمعاملة الشهداء في الشرق الأوسط السني الحديث، ولا سيما في الطوائف الوهابية، التي تمتلك الولايات المتحدة خبرةً أكبر في  قتالها في الحرب ضد الإرهاب.

وفي العراق تجاهلت الولايات المتحدة مدى تغلغل الحشد الشعبي

وأخيراً، فالاغتيال الذي استهدف عضواً في الحكومة العراقية -وهو أبو مهدي المهندس- بالإضافة إلى سليماني يؤجِّج نفور العراقيين من تحالف بلادهم مع الولايات المتحدة. ولا بد أنَّ أي حملة تهدف إلى إعادة النفوذ الإيراني إلى سبق عهده أو تنفيذ اغتيالات ستفشل لسببٍ بسيط يتمثَّل في أنَّ «الميليشيات الشيعية» في العراق تُعد في الحقيقة جناحاً مسلحاً -تُمثله قوات الحشد الشعبي- لحركةٍ شعبية متدرجة من القاعدة إلى القمة تحظى بدعم ملايين من العراقيين داخل البلاد، ولديها أكبر عددٍ من المقاعد في البرلمان. وذلك بالإضافة إلى أنَّها تُشكِّل جزءاً رسمياً من القوات المسلحة العراقية. والأهم من ذلك أنَّ وصف قوات الحشد الشعبي العراقية، التي شُكِّلَت في أعقاب فتوى آية الله علي السيستاني في عام 2014، بأنها «ميليشيات إيرانية»، على حد تعبير وزير الخارجية الأمريكي السابق، يُسيء فهم الطبيعة الأصلية لهذه القوات. وهذا يعيد إنتاج السرديات الطائفية الضارة التي تخلط بين الشيعة العرب والهوية الفارسية، ويخلق كذلك وضعاً لا يمكن الدفاع فيه عن الولايات المتحدة التي تصف ملايين العراقيين بأنَّهم عملاء إيرانيون يجب مواجهتهم في أرضهم.

وبالنظر إلى نقاط ضعف الأنظمة العربية الموالية لأمريكا في الشرق الأوسط والقوات الأمريكية في المنطقة وقابلية تعرُّضها للخطر، فإنَّ ما تمتلكه إيران وعناصر محورها من دعمٍ شعبيٍ عابر للحدود القومية، وإرادة سياسية، واستراتيجية عسكرية فعَّالة، وإن كانت غير متكافئة مع القدرات الأمريكية، يُسيِّر الأمور في مصلحتها. 

وهذا أصبح الآن ملحوظاً بدرجةٍ أكبر بينما تُظهر إيران وحلفاؤها قدراتها التكنولوجية المتطورة من خلال غاراتها الصاروخية المدروسة بدقة على قاعدةٍ عسكرية أمريكية في العراق وقصف بعض منشآت شركة أرامكو السعودية. وداخل إيران، تُظهر الضربات الصاروخية على قاعدة عين الأسد الأمريكية أنَّ استراتيجية الردع ضد الولايات المتحدة تُجدي نفعاً لأنَّها أوقفت استمرار التصعيد العسكري الأمريكي المحتمل.

هذه العوامل مجتمعةً ستؤدي إلى تعزيز مواقف إيران ومحورها بقوةٍ أكبر. وباختصار، سيكون العراق هو الحلبة الأولى التي ترى فيها الولايات المتحدة نفوذها ودورها يتعرضان لتقويضٍ مباشر.

ويظهر ذلك واضحاً في التحول في موقف الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بعد اغتيال سليماني من معارضة إيران وتأييد الحراك إلى التخلي عنه والانضمام لجهود تشكيل حكومة عراقية جديدة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى