تقارير وملفات إضافية

من القبور المسكونة لإجبار التماثيل على ارتداء العباءات.. هل تكرر العلا السعودية التجربة الصينية التي أحرجت الغرب؟

وصلت حشود مهرجان كوتشيلا للفنون إلى الصحراء العربية، حيث تجاوز عدد القفاطين الأنيقة ذات الألوان الجذابة عدد العبايات السوداء بين الرمال في مهرجان ديزرت إكس العلا الذي نظم في السعودية.

وداخل البوفيه الذي تزيّن بالشمامات المنحوتة على شكل ورود، قدّم الندلاء العصائر الطازجة وأصناف المقبلات الشهية. وبطول وادي الحجر الرملي باللونين الذهبي والخمري، كانت التكوينات الصخرية الناتئة تنطق بالفن المُعاصر: منحوتات قزحية الألوان على شكل سفينة فضاء، ونفقٌ معدنيٌّ لامع، وأجسامٌ كروية متناثرة وزاهية الألوان، حسب الوصف الوارد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.

كانت هذه هي ثمار معرض “ديزرت إكس العلا Desert X AlUla”، وهو عبارةٌ عن شراكةٍ بين معرض ديزرت إكس من كاليفورنيا الذي يُقام كل سنتين ونظّم معرضين سابقين في وادي كوتشيلا، وبين الحكومة السعودية التي أقنعت إدارة المعرض بإقامة عرضٍ في صحرائها الغربية على حساب الدولة.

ومهرجان كوتشيلا فالي للموسيقى والفنون (يشار إليه عادة باسم كوتشيلا أو مهرجان كوتشيلا) هو مهرجان سنوي خاص بالموسيقى والفنون يعقد بصفة دورية كل عام في إنديو (كاليفورنيا).

واحتدم الجدل كما يحدث عادةً حين تُحاول السعودية -التي اخترقت حكومتها هاتف آيفون الخاص بواحدٍ من أثرى أثرياء العالم، وعذّبت المُعارضين، وقطّعت أوصال الصحفي المعارض جمال خاشقجي، وساعدت على إشعال كارثةٍ إنسانيةٍ في اليمن– التعاون مع المؤسسات الغربية.

فقد استقال ثلاثةٌ من أعضاء مجلس إدارة معرض ديزرت إكس احتجاجاً على إقامة المعرض في السعودية، ومنهم الفنان البارز إد روشا. 

وانتقد الناقد الفني بصحيفة The Los Angeles Times الأمريكية كريستوفر نايت التعاون “الفاسد أخلاقياً لأنّه يضع مساحيق التجميل فوق وجه خنزير”، حسب تعبيره.

وبالنسبة للسعوديين، فإنّ المكاسب واضحة. فحتى وقتٍ قريب، تجنّب الكثير من السعوديين القبور المنحوتة في عصر ما قبل الإسلام بمنطقة العلا، بسبب خرافةٍ زعمت أنّها مسكونة>

كما فشل السياح غير المسلمين الذين أرادوا زيارة البلاد في الوصول إلى المكان. ولكن في ظل سعي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لمنح المجتمع السعودي مزيداً من الانفتاح، وتوسيع آفاقه الاقتصادية لتتجاوز النفط؛ ستعود العلا إلى المشهد بوصفها مصدر الجذب الثقافي والتراثي الرئيسي في المملكة.
ويأمل المسؤولون أن تجذب الأميال الممتدة من الصحاري التي تحبس الأنفاس، والمقابر القديمة على طراز البتراء، نحو مليوني زائر بحلول عام 2035.

وسيُشيّد بها منتجعٌ من تصميم جان نوفيل. كما سيحوي المكان محميةً طبيعية، إلى جانب جهود إعادة تسكين بعض أنواع الحيوانات مثل النمر العربي. وسيكون هناك حيٌ دائم للفنون، وأول ضيوفه سيكون معرض ديزرت إكس في السابع من مارس/آذار.

وقال عمرو المدني، الرئيس التنفيذي للهيئة المُشرِفة على تطوير العلا، خلال حفل عشاءٍ قبل افتتاح المعرض: “الثقافة لا علاقة لها بالسياسة”.

وصفّق الحضور بحرارة. لكنّه قلب بذلك الحجة التي يستشهد بها جبابرة الأعمال الغربيون وغيرهم حين يتحدّثون عن السعودية: وهي أنّ المشاركة قد تدفع بالمملكة نحو مجتمعٍ أكثر تحضُّراً وحرية. ويُمكن للحوار الثقافي والاقتصادي أن يُؤدّي دور “فتّاحة العلب”، على حدّ تعبير فنان ديزرت إكس جيكوب فينغر، من فرقة Superflex الفنية الدنماركية.

إذ أضاف: “الثقافة والسياسة هما جزآن من الشيء نفسه. وإذا كُنت تعتقد أنّ الفن يستطيع تغيير الأوضاع، فيجب أن تفعل ذلك. ولن يحدث شيء حتى تتحرّك لتغييره”.

ضمن فعاليات مهرجان شتاء طنطورة ولمدة ٣ أيام
مسرح كركلا يقدم أسطورة جميل وبثينة
#كركلا_في_العلا#شتاء_طنطورة#جميل_وبثينة@winterattantora pic.twitter.com/3c6jbFrjbj

ولا شكّ أنّ حجّةً مماثلة هي ما جذبت الغربيين إلى الصين إبان انفتاحها على التجارة الأجنبية قبل عقود، مع الرهان على أنّ نفوذهم سيُحرِّر البلاد من الخارج بنهاية المطاف.

لكن تساهل الصين مع حرية التعبير وحقوق الإنسان تقلّص مع الوقت، وعلِقَت حكومتها الآن في مواجهةٍ مُتعمِّقة مع قيادات الأعمال والسياسة الأمريكية.

وخلال افتتاح ديزرت إكس، كان الحوار عبارةً عن مزيجٍ مُسكِر من إزالة الحواجز وهدم الجدران وسدّ الفجوات.

وكان العرض عبارةً عن سفينةٍ تتجاوز كل الحدود، وتتجاوز الوقت”، بحسب رنيم فارسي السعودية القائمة على المعرض.

لكن فنانة دبي منال الضويان التي كانت تقف على مقربةٍ من عملها الفني “يا ترى.. هل تراني؟” ترفّعت عن المشاركة في ثرثرة المؤتمر الصحفي السامية.

وقالت: “دعكم من كل ذلك. لقد تحدّثوا عن بناء الجسور. لكنّني لا أعلم شيئاً عن ذلك. نحن هُنا لنُقدّم فناً”.

ورغم أنّ الحدث جديد، لكن يُمكن القول إنّ الفنانين السعوديين الخمسة المشاركين في المعرض قد اجتازوا الحواجز والجسور بالفعل، إذ عاشوا ودرسوا وعرضوا أعمالهم في أوروبا والولايات المتحدة من قبل -على غرار العديد من الفنّانين السعوديين الآخرين. أما بقية الفنانين التسعة في المعرض فهُم من الشرق الأوسط، أو يُقيمون في الولايات المتحدة وأوروبا. ورغم ذلك، تحدّث قادة ديزرت إكس بفخرٍ عن الجهود التي بذلوها لإدماج السكان المحليين في الحدث، مثل إقامة ورش عملٍ فنية للنساء السعوديات، أو جعل دخول المعرض مجانياً.

وبالنسبة للمملكة التي تكفّلت بنفقات سفر الفنانين، فإنّ معرض ديزرت إكس هو مصدر ربحٍ بقدر كونه مُلتقى للعقول. إذ قال المدني إنّ الحكومة تأمل في أن تُمثّل السياحة ثلاثة أرباع اقتصاد منطقة العلا بحلول عام 2030. إذ جذبت المنطقة أكثر من 50 ألف سائح عام 2019، من بينهم زُوّار للمهرجان الموسيقي الذي أحياه المغني الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي وعازف البيانو الصيني لانغ لانغ.

ورغم أنّ المُحلّلين شكّكوا في ما إذ كان السُيّاح الأجانب سيرغبون في زيارة بلدٍ يحظر المشروبات الكحولية، ولديه عاداتٌ تستنكر اختلاط الجنسين، ويشتهر بالقمع الاستبدادي؛ لكن المدني يعتقد أنّ السياح سيأتون بأعدادٍ كبيرة. وقال إنّ الخطر المُحتمل سيكمُن في تزاحم السُيّاح، مما قد يُهدّد الجواهر الأثرية للمنطقة وجمالها الطبيعي.

وها هي الأفواج الأولى من السياح قد وصلت، وهم مُستعدّون لزيارة المواقع غير المزدحمة التي لم يسبق لأقرانهم تصويرها على إنستغرام.

إذ قال السائح الياباني تومويا تسوروتا، من إحدى الآثار القديمة في العلا: “أعتقد أنّني أحظى بنظرةٍ أولية. وأشعر بأنّني محظوظٌ لزيارة المكان قبل الآخرين”. وقد قرر تسوروتا زيارة المملكة بعد أنّ وفّرت تأشيرات إلكترونية لمواطني 49 دولةً العام الماضي.

وتعني التنمية رخاءً غير مُتوقّع بالنسبة لبلدة العلا المُتربة الصغيرة، التي يبلغ عدد سكانها 45 ألف نسمة، إذ كان اقتصادها يعتمد على الوظائف الحكومية ومزارع الفاكهة الصغيرة.

وقدّمت اللجنة الحكومية المُشرفة على تنمية المنطقة منحاً دراسية لـ500 من السكان المحليين من أجل الدراسة في الخارج، وأرسلت العشرات من المرشدين المحليين وأطقم الضيافة للتدرّب في أوروبا والولايات المتحدة من أجل الاستعداد لاستقبال السياح.

وقال المُرشِد الذي عُيِّن لإدارة جولاتٍ في الوادي الذي يحمل منحوتاتٍ صخرية نبطية قديمة، حامد الإمام، إنّ والده وشقيقته وعمه حصلوا جميعاً على وظائف في اللجنة. وتدرّب صديقٌ له في مدرسة طهي بفرنسا على نفقة الحكومة، قبل أن يعود ليعمل طاهياً في أحد المطاعم الجديدة. وبدأ الناس الذين غادروا للحصول على وظائف بالخارج في العودة.

وتابع الإمام: “تحسدنا كل البلدات الأخرى”. لكنّه لا يزال غير واثقٍ في أنّ السياح والوظائف ستأتي بالأعداد الضخمة التي تنبّأت بها الحكومة.

وأردف مازحاً: “بالنسبة لي أنا حامد، لا أعلم. ولكن بصفتي حامد الذي يعمل مع اللجنة الملكية، فأعتقد أنّ الأمر سينجح!”.

وإلى جانب عرض السعودية لاستضافة المعرض ودفع تكاليفه، وندرة الفنون المُعاصرة المعروضة، باتت مكاسب التعاون ضعيفةً بالنسبة لديزرت إكس. إذ وصفت المؤسسة والرئيسة سوزان دافيس المعرض بأنّه يُمثِّل فرصةً للغربيين من أجل معرفة أمورٍ عن المجتمع السعودي تتجاوز عناوين الأخبار والقوالب النمطية، وفرصةً للسعوديين من أجل التعرُّف إلى عالم الفنون الغربية.

وأضافت: “إن مشاركة الناس، والقدرة على بدء الحوار، كانت أمراً تمتّعنا بالشجاعة الكافية لفعله. وأعتقد أنّ الشجاعة هي الكلمة المناسبة لوصف ما فعلناه”.

ورغم أنّ سوزان قالت إنّ الفن والسياسة “مجالان مُختلفان بالكامل”، لكنّها أقرّت بأنّ السياسة كان لها تأثيرٌ على قرار العمل مع السعودية.

وأردفت: “لا أعلم ما إذا كان المُعرض سيترك أثراً، ولكنّنا نتمنى ذلك. لا نُفكّر في تغيير السياسة الآن. ولكن إقامة الحوار هي الخطوة الأولى في وجهة نظري”.

وحين سُئِلَت عن الانتقادات التي واجهتها حول مُساعدتها في تبييض سُمعة السعودية المُلطّخة؛ احتجّت سوزان قائلةً: “نحن منظمةٌ صغيرة، ولسنا متحف المتروبوليتان”. وقالت إنّها مُستعدةٌ لإغلاق معرض ديزرت إكس في حال زاد الجدل المُثار حوله عن الحد.

لكنّها كانت مُقتنعةً فعلياً بأنّ مشروعها في السعودية كُلِّل بالنجاح. وأردفت أنّ أكثر ما أثّر فيها كان تمثالاً لامرأةٍ باللون الأزرق الغامق وهي تجلس فوق صخرةٍ ضخمة، وتتأمّل البرك الزرقاء المتناثرة فوق الرمال: وتحمل اسم “نجمة (وضعت ألف شمسٍ على طبقات الفضاء الشفافة)” للفنانة ليتا ألباكركي.

وبحسب ديزرت إكس، فإنّ هذا هو أول تمثالٍ لامرأةٍ يُعرَض أمام العامة في السعودية، حيث تنهى التقاليد الإسلامية وفقا للآراء السائدة بالمملكة عن التمثيل الرمزي.

وقالت ليتا، الفنانة الأمريكية التي أظهرت شخصية “نجمة” في أعمالها السابقة، إنّها وافقت على ارتداء تمثال المرأة لعباية بعد أن أعرب المسؤولون السعوديون عن تحفُّظاتهم بشأن ملابس المرأة الكاشفة.

وربما يرى البعض في ذلك تدخُّلاً حكومياً، لكنّها قالت إنّها رأت فيه حساسيةً ثقافية -وهو أمرٌ لا يختلف في وجهة نظر سوزان عن رفض طلبات تنصيب الأعمال الفنية في المناطق المُقدّسة للسكان المحليين حول كوتشيلا.

وقالت شيرين جرجس إنّ فرصة العمل مع عاملات النسيج المحليات هي ما أقنعتها بالمشاركة رغم شكوكها. وشيرين هي فنانةٌ مصرية-أمريكية تُقيم في لوس أنجلوس، وتُنظّم ورش تعليم النسيج وتُقدّم محاضرات في الفن المُعاصر لنساء العلا. ويهدف عملها هناك وفي مناطق أخرى إلى استعادة التقدير المُتأخّر للحرف اليدوية التقليدية الخاصة بالنساء العرب، وجادلت بأنّ الذهاب للقاء الفنانات السعوديات الشابات هو نقطة البداية لتفتيح عقلها وعقولهن.

وربما يُؤدي ذلك إلى نتيجةٍ جيدة، وربما لا يُؤدّي إلى شيءٍ في النهاية.

إذ أوضحت: “من وجهة النظر الغربية، يسهل النظر إلى سياسة بلدٍ ما وحكومته، واتّخاذ القرار برفضهم. لكن من يتأثّر هم الناس الذين نزعم أنّنا نُريد مُساعدتهم. هل سيُحدِث العمل الذي قدّمته هناك أصغر قدرٍ مُمكن من التأثير ويُساعد في دفع الأمور إلى الأمام؟ أنا آمل ذلك”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى