تقارير وملفات إضافية

فرنسا بين نار الأمريكيين والروس في لبنان.. تحاول إقناع واشنطن بمنع انهياره، وتخشى مما يخطه بوتين للمسيحيين

خياران تفكر بهما الإدارة الأمريكية للبنان، أحدهما أن تتركه ينهار مالياً، ليكون ذلك ضربة قاسية للنفوذ الإيراني بالمنطقة، ولكن فرنسا تحاول إنقاذ لبنان من الإفلاس وحماية بيروت من هذا الخيار.

على العكس تسعى باريس لإقناع واشنطن بعدم ترك لبنان ينهار، كما أن فرنسا تكاد تكون الدولة الغربية الوحيدة التي تتواصل بشكل مكثف مع الحكومة اللبنانية التي يقودها فعلياً حزب الله.

لا تخشى فرنسا فقط من احتمالات انهيار لبنان مالياً، بل تخشى أيضاً من ضياع نفوذها التاريخي القديم في هذا البلد في مواجهة صعود النفوذ الروسي.

ولكن محاولة الدعم الفرنسي للبنان تأتي مصحوبة بشروط عدة يعتبرها زعماء الطوائف اللبنانية قاسية.

 باريس تعتبر لبنان إحدى محطات نفوذها التاريخية، خاصة لكونه آخر قلاع المسيحية في الشرق، حسب نظرتها.

وكانت فرنسا دوماً بمثابة وصية على هذا البلد العربي منذ مرحلة ما قبل انهيار الحكم العثماني وبداية مرحلة سايكس-بيكو.

وما يواجهه الدور الفرنسي اليوم هو تخلّ دولي وعربي عن لبنان وانحصاره في قبضة إيران، وتشكيل حكومة الحصة الأكبر فيها لحزب الله، وحليفه التيار الوطني الحر.

تحتفظ فرنسا بخيوط التواصل مع حزب الله، وتؤكد حرصها الدائم على عهد حليف الحزب الرئيس اللبناني ميشيل عون.

وتسعى باريس لأن تكون على علاقة جيدة مع الأطراف اللبنانية، ما يهم فرنسا في الوقت الحالي الحفاظ على الدور المسيحي والحضور القوي للأحزاب المسيحية على مختلف توجهاتها السياسية المعقدة والمتصارعة.

كما تسعى باريس، في ظل حكم ماكرون لقصر الإليزيه، لقطع الطرق لأي محاولة روسية للتمدد في الداخل اللبناني، في ظل الحديث على بداية التنقيب عن النفط والغاز في البلوكات المرتبطة بحق لبنان بالتنقيب عن الثروة النفطية.

عبَّر وزير المالية الفرنسي برونو لومي، منذ يومين في حديث صحفي، خلال وجوده في العاصمة الإماراتية أبوظبي، عن أن بلاده تدرس خيارات مختلفة لمساعدة لبنان للتعافي من أزمته المالية، شريطة تنفيذ الحكومة الجديدة لبرنامج الإصلاح المتفق عليه ضمن مخرجات مؤتمر سيدر الذي عقدته آخر نسخة في باريس 2018.

ومن ضمن الخيارات برنامج مشترك مع صندوق النقد الدولي الذي زار لبنان وخرج بنظرة سلبية عن الوضع الراهن، وكيفية تعاطي السلطة مع الأزمة الراهنة.

 تدرك الإدارة الفرنسية العقلية الزبائنية التي يتعاطى بها المسؤولون اللبنانيون مع أموال الداعمين.

 فرنسا استضافت قبل مؤتمر سيدر 3 مؤتمرات، باريس 1 و2 و3، وكانت وعود الحكومات اللبنانية حينها بإقرار إصلاحات في ملفات الكهرباء والاتصالات والنفايات والمواصلات، لكن دون جدوى.

كانت الأموال تتبخر، بحسب مصادر مطلعة، في تقاسم حصص طائفية لمشاريع وهمية لم تنفَّذ لا بل ازداد الوضع سوءاً في القطاعات المتفق على إصلاحها، ما يجدد فكرة مشروطية الدعم مقابل تنفيذ الإصلاحات.

تقول مصادر مقربة من رئيس الحكومة اللبنانية لـ “عربي بوست” إن الإدارة الفرنسية تعمل منذ مدّة، بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية، على محاصرة الأزمة الاقتصادية – المالية، سواء من خلال المتابعة الدقيقة لمجريات العمل الإجرائي، أو من خلال الاتصالات مع الدول الفاعلة، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج. 

فرنسا هي من أكثر الدول الغربية حماسة لوقف التدهور الدراماتيكي في لبنان لاعتبارات عدة تتصل بمصالحها أولاً، وبنظرتها ثانياً لطبيعة لبنان ونموذجه في المنطقة. 

ولذا لا تزال تحرص على تجميد سلّة القروض التي تمّ الاتفاق عليها ضمن مؤتمر سيدر، بانتظار الإجراءات الإصلاحية التي يفترض بالحكومة وضعها موضع التنفيذ، لكن ما هو جديد أن المتابعة الفرنسية لعمل الحكومة في الشق الاقتصادي يسجل كأول محاولة لفك الحصار عن حكومة اللون الواحد التي لم تتلقَّ حتى الآن أي إشارات إيجابية من دول فاعلة في المنطقة.

 ولكن، إلى جانب مبادرة الحكومة اللبنانية لتنفيذ البرنامج الإصلاحي كما وعدت بذلك باريس، ثمة تحدٍّ أساسي لا بدّ من مواجهته قبل وضع الإجراءات الإنقاذية الفرنسية الموعودة، وتكمن في الضغط الأمريكي على لبنان.

إذ بات معلوماً أنّ هناك وجهتَي نظر تتحكمان بنظرة الإدارة الأمريكية للملف اللبناني، واحدة لا تمانع في وقوع البلاد في محظور الانفجار المالي والاجتماعي كعامل تفجير في وجه إيران وحزب الله، وأخرى تفضل اللعب على حافة الهاوية لتحقيق أفضل المكاسب قبل تسوية تفاهم مع طهران تعيد الاستقرار المالي إلى لبنان. 

وفي هذا السياق، يؤكد المصدر موقف رئيس الحكومة بأنّ الإدارة الفرنسية تحقق تقدماً في اتصالاتها مع الإدارة الأمريكية بشكل قد يساهم في التخفيف من الضغط على لبنان، ولهذا يصرّ وزير المال الفرنسي على إظهار إيجابية إدارته إزاء الملف اللبناني على نحو يمهّد الطريق أمام معالجات ممكنة، قد تساعد في تهدئة البركان الاجتماعي الذي يقرب من لحظة انفجاره.

تخشى باريس دائماً من محاولات لسحب ملف مسيحيي لبنان من يديها كونها الوصي التاريخي عليهم، ويتعاظم هذا الخوف منذ التدخل الروسي المباشر في سوريا وزحف القوى السياسية اللبنانية للحج في موسكو، لكونها أبرز الدول الفاعلة في ملفات رئيسية في المنطقة.

 وهذا ما بدا في زيارة رئيس الجمهورية ميشيل عون وصهره جبران باسيل معه ومحاولات إقناع بوتين حينها بالقبول بباسيل رجل المرحلة المقبلة خلفاً لعون.

وهذا ما تسرب حينها عن زيارة الكرملين، ما سبب حينها غضباً فرنسياً من باسيل، لأنه توجَّه لبوابة موسكو لتسويق نفسه بدلاً من باريس القادرة ربما على إقناع الإدارة الأمريكية به.

لكن الصراع الروسي – الفرنسي يكمن في أن موسكو تلعب على حبال دعم الروم الأرثوذكس الشاعرين بتهميش لهم على حساب الموارنة من قِبل فرنسا والولايات المتحدة، وهذا ما يجعل منهم الورقة الأكثر قوة في يد موسكو، كون الطائفة الأورثوذكسية أكبر الطوائف المسيحية في الشرق، وحضورهم الكبير يحظى بدعم روسي منذ سنوات، وباتت موسكو وجهتهم السياسية بعد أن تم تحجيمهم لسنوات في المنطقة.

ويعد الروم الأرثوذكس ثاني أكبر طائفة مسيحية في لبنان بعد الموارنة، ويعتقد أنهم رابع أكبر طوائف البلاد عامة، إذ يشكلون حوالي 9% من الشعب اللبناني المقيم، ويحظون بنفوذ مالي معتبر.

ولكنهم سياسياً يلعبون دوراً أقل، خاصة أنهم طائفة ذات طابع حضري مدني، وليسوا طائفة جبلية ذات طبيعة عسكرية، وبالتالي لم يكن لهم تاريخ ميليشياتي كبير على غرار الموارنة والدروز والشيعة، باستثناء دور بعض الروم الأرثوذكس في الحزب القومي السوري، الذي يعتبر حزباً علمانياً، ولكن بوجود أرثوذكسي قوي داخله.

واللافت أن القوى السياسية المسيحية اللبنانية بدأت ومنذ فترة استقطاب الروم وإعطاءهم دوراً أساسياً في المناصب الحزبية والرسمية، ما يعزز خوفاً جديداً لحلفاء باريس من محاولات سحب البساط من تحت أقدامهم، في ظل لعبة خلط الأوراق التي تشهدها المنطقة. 

وتزيد المخاوف الفرنسية أن الدعاوى التي تطالب بتكاتف مسيحيي الشام يقودها عون وتياره المتحالف مع الأسد وإيران وحزب الله، مما قد يؤدي لتقوية النفوذ الروسي-الإيراني على أساس وحدة الأقليات المسيحية والشيعية في الشام ضد الأغلبية السنية فيما يعرف بحلف الأقليات، علماً أن فرنسا لديها علاقة وثيقة مع السُّنَّة في لبنان عبر تيار المستقبل.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى