لايف ستايل

ننعزل ونُعَالج أم نصلي؟ التقرّب إلى الله في ظل وباء كورونا

ثمة علاقتان رئيسيتان في العديد من التعاليم الدينية، يمكن من خلالهما فهم طريقة حياتنا. الأولى هي علاقة رأسية بين المخلوق والخالق؛ والثانية علاقة أفقية بين المخلوق وبقية الخلق. يحتوي الإسلام على هذين الجانبين أيضاً، حيث يُنظر إلى العلاقة الأخيرة دائماً من خلال عدسة الأولى. أثّرت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بصورة ملحوظة في العلاقة الثانية، إذ غيّرت طبيعة ممارسة الطقوس الدينية من عدة نواح. في الوقت نفسه، استمر الحكماء والعلماء المسلمون في تذكير أتباعهم بأنَّ العلاقة الأولى بين الخالق والمخلوق، تظل راسخة وملائمة، حتى لو اتّخذت أشكالاً مختلفة في هذا الوقت العصيب.

ناشد المسلمون في جميع أنحاء العالم خلال الأسبوع الماضي العلماء المسلمين ليدلوا بدلوهم بشأن هذا الوباء العالمي. يؤثر فيروس كورونا مباشرةً على العبادات الجماعية من عدة نواحٍ مهمة بسبب تلك النصيحة التي أوصى بها المختصون ومنظمة الصحة العالمية وهي “التباعد الاجتماعي” أو المتعرف عليه بالـ “العزل الصحي” أو “العزل المنزلي”. أثرت هذه الممارسة على الجميع؛ ليس فقط تقييد القدرة على حضور الدروس الدينية، حيث إنَّ الإسلام في الأساس هو دين تعلَم، ولكن أيضاً أحالت دون إقامة مراسم العزاء لمن يتوفون بسبب كورونا لأن تلك المراسم ربما تكون هي الأخرى بؤر تزيد من احتمالية تضاعف عدد المصابين بالفيروس.  

قد تبدو ضرورة إلغاء العبادات الجماعية
في حالات الطوارئ أمراً بسيطاً بالنسبة للبعض، لكن الأمر ليس بهذه السهولة. هناك
صلوات يُلزِم كثيرون في المجتمع أنفسَهم بضرورة تأديتها في المساجد. وهناك صلوات
أخرى يُوصى بشدة بأدائها في جماعة، ومن ثمَّ سيبذل الكثير من المتدينين جهوداً كبيرة
لضمان وفائهم بتلك الالتزامات والتوصيات.

بصفتي أكاديمياً وباحثاً في الدراسات الإسلامية، شاركت في العديد من المناقشات المتعلقة بالالتزامات الدينية الخاصة بالمسلمين في أوقات الأزمات، داخل بلدي الأم بريطانيا، وفي أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وجنوب إفريقيا، وجنوب شرق آسيا. لم تكن المناقشات التي شاركت فيها، ولا يمكن ببساطة أن تكون، متعلقة بمجرد تنفيذ الأحكام الشرعية في الإسلام.

بدلاً من ذلك، تؤيد بشدة الغالبية العظمى
من العلماء، الذين تناقشت معهم أو تابعتهم -من المجلس الأعلى لعلماء الأزهر الشريف
في مصر، إلى المجلس البريطاني للعلماء والأئمة في المملكة المتحدة ومعهد “Azzawia Trust” الديني في جنوب إفريقيا– ضرورة تعليق توصيات صلوات الجماعة،
من ضمنها صلاة الجمعة، في مواجهة المخاوف المتعلّقة بالصحة العامة.

ومع ذلك، هناك ارتباط عاطفي روحي بين الناس وبين الصلوات يجعل كثير من الأشخاص حول العالم ملتزمين بصلوات الجماعة. غالباً ما يتفوّق الولاء والورع الديني على كل شيء آخر، وهو أمر يدعو للوقوف والتساؤل، إذ أن تعاليم الدين الإسلامي نفسها تعطي الأولوية للالتزام بالقانون على مجاراة العاطفة الدينية. على سبيل المثال، إذا كان المسلم يعاني بشدة من مرض السكرى يجوز له عدم الصوم. ولن يكون من الورع أن يرفض المسلم الامتثال لذلك، بل ويمكن اعتبار الإصرار على الصيام في هذه الحالة “إثماً” بسبب احتمال وقوع ضرر.

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا
النوع من التعلّق العاطفي الذي يمكن الشعور به حقاً على الرغم من الاعتبارات
الطبية وضد نصيحة السلطات الدينية، ليس غريباً على المجتمع المسلم. يشعر المسيحيون
بذلك أيضاً. على سبيل المثال، أعرب صحفيون وسياسيون مسيحيون في المملكة المتحدة عن
سعادتهم ببقاء الكنائس مفتوحة.

لكن في التعاليم الإسلامية، بدت الأمور واضحة إلى حدٍّ كبير عندما تعلق الأمر بفيروس كورونا المستجد. ساعد هذا الوضوح السلطات الحكومية المختلفة في إعلان مثل هذه الإجراءات الصارمة، لأنَّ ذلك يعني أنَّ أولئك الدعاة وعلماء الدين، الذين أرادوا الدعوة إلى تعليق صلوات الجماعة، يمكن أن يشيروا إلى إعلانات الحكومة باعتبارها دليلاً على أنَّه ليس لدى الدولة خيار آخر. وبالطبع، كان هناك علماء وأئمة آخرون لم يكونوا في حاجة إلى انتظار الحكومات لكي يتخذوا قراراتهم، حيث كانت شهادة الخبراء الطبيين، إلى جانب النهج الاحترازي الموصى به في الدين الإسلامي والذي يعمله جيداً هؤلاء العلماء، كافياً بالنسبة لهم.

يشعر كثير من المسلمين بالحزن والافتقاد
بسبب تعليق صلوات الجماعة، لكن بعض الحكماء والعلماء من بينهم ذكّروهم بمبدأ أساسي
في الإسلام، وهو “إنّما الأعمال بالنيات”، أي أنَّه إذا كان المرء ينوي
أداء صلاة الجماعة الموصى بها في المسجد، لكن حالت ظروف قهرية بينه وبين أدائها في
وقتٍ ما، فسيكون له نفس الأجر استناداً إلى نيته. تعتبر النية جزءاً مهماً في
العبادات الإسلامية. يشعر المسلمون بالامتنان حقاً في مثل هذه الأوقات العصيبة
بأنَّ ما يهم هو إيمانهم الداخلي الصادق، وليس مظاهر التدين الشكلي.

أما بالنسبة لتدريس مواد العلوم الشرعية
وممارسة الطقوس الدينية والحالة الروحانية في الحلقات الدراسية في المساجد
والمؤسسات المختلفة حول العالم، فسنشهد قرارات تعليق كثير من تلك الأنشطة، لكن لا
داعي للقلق في عصر انتشار تطبيقات مثل “Zoom”
و”Skype” والعديد من الأشكال الأخرى لتقنيات التواصل الاجتماعي. سيجد
المعلمون والطلاب طرقاً للتواصل مع بعضهم البعض، مثلما يتعيّن على العديد من
مؤسسات التعليم العالي أن تفعل الأمر نفسه. أليس الأمر سيان؟ عادةً
“لا”. تدعم التعاليم الإسلامية نموذج المعلم والطالب اللّذين ينخرطان في
علاقة تعليمية مباشرة وجهاً لوجه، وهناك عشرات من الأطروحات تتحدث عن مدى
الاستفادة الهائلة، التي يجنيها الطلاب من الوجود برفقة بقية زملائهم المتعلمين
الآخرين. ومع ذلك، مرة أخرى، في الوقت الذي يدعو فيه التشريع المقدس المرء إلى
اتخاذ الاحتياطات اللازمة لكي ينأى بنفسه عن الاختلاط بالآخرين، سيواصل الحكماء
والعلماء المسلمون تذكير الناس بأنَّ ما يهم هو الإيمان الداخلي الصادق، وسيجزيهم
الله على نواياهم. 

أعتقد أنَّ العديد من العلماء والدعاة
المسلمين سيتعرضون في الأسابيع والأشهر المقبلة لاختبارٍ قاسٍ من أتباعهم ومن تلك الظروف
العصيبة الحالية. سَتُختبر مصداقيتهم بطرق لم يتخيَّلوها من قبل، ولا يمكن أن
يتوقعوها. لن ينتهي هذا الوباء العالمي في غضون أيام، ولا حتى أسابيع. يرجُح أن
تمر شهور قبل أن تتمكن دول مختلفة من توفير البنية التحتية الصحية الملائمة
لمواجهة فيروس كورونا. في هذه الأثناء، سيجري تقييم مصداقية العديد من علماء الدين
المسلمين بمدى قدرتهم على التكيّف مع الوضع، أولئك الذين يرفضون أو لا يستطيعون،
لن تكون لهم نفس المكانة المجتمعية التي كانوا يتمتعون بها قبل تفشي الوباء.

لا يمتلك علماء الدين الإسلامي السلطة
الدينية كنوع من “التفويض الإلهي”. لا يعترف الإسلام بالسلطة التراتبية
الكنسية. بدلاً من ذلك، يكتسب هؤلاء العلماء سلطتهم الدينية على أتباعهم من خلال
علمهم الديني، الذي يأخذونه عبر أسانيد متصلة تعود إلى مجتمع عهد النبوة، ومن خلال
المجتمع الذي يوقّر هذا العلم. إذا كان هذا الأخير غير موجود فلن يستطع العلماء
أداء وظيفتهم المتمثلة في الأساس في نصح وتوجيه الناس للتقرّب أكثر إلى الله.

وعلى الرغم من كل هذا التركيز على
التأثير المحتمل لجائحة فيروس كورونا على الجانب الجماعي للعبادة الإسلامية في هذا
الوقت، يُرجح أنَ يواصل هؤلاء العلماء والحكماء تذكير أتباعهم بنفس الكلمات
الحكيمة القديمة التي روّجت لها التعاليم الإسلامية منذ الأزل. تشير آية قرآنية
إلى أنَّ الله تعالى جمع ذرية آدم في أول الخلق قبل عالم الوجود هذا، وأشهدهم على
أنفسهم، إذ سألهم: “أَلَسْتُ بَرَبِّكُم”؟، فاجابوا: “بَلَى
شَهِدنَا”. 

يتمحور الدين الإسلامي حول إعادة توجيه
الإنسان إلى هذا الاجتماع الأولي، وتذكير البشر بكيفية زيادة وعيهم وإدراكهم
بالخالق سبحانه وتعالى، في تعاملهم مع بعضهم البعض. يتمثَّل الشيء الأساسي في
كيفية اتصالهم بربهم، وتذكّره دائماً من خلال الأدعية والابتهالات والتدبر في
الكون والمخلوقات.

سيواصل الدعاة وعلماء الدين المسلمون، سواء في ظل تفشي وباء عالمي أو لا، تذكير أتباعهم بأنَّ أهمية التقرّب إلى الله تظل المهمة الأسمى غير القابلة للعرقلة. في الحقيقة أنه في الوقت الذي يُطلب منّا جميعاً أن نكون أكثر وعياً بمسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض، فإنَّ فعل ذلك بطرق تستحضر السمو والرحمة الإلهية قد يجعل هذا الوباء يبرز جوانب روحانية داخلنا ربما لم ندركها من قبل.

هذا الموضوع مترجم عن
موقع هيئة الإذاعة الأسترالية
ABC.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى