ثقافة وادب

عندما قاد أتاتورك العثمانيين والمقاومة الليبية ضد إيطاليا.. القصة القديمة لمقاومة أوروبا

قبل أكثر من مئة عام، وقبل سقوط الدولة العثمانية بعقدٍ من الزمن، خاضت الدولة العثمانية واحدةً من أكثر الحروب أهميّةً خلال القرن المنصرم، ضدّ إيطاليا، التي سعت جاهدةً لاحتلال ليبيا ووضع موطئ قدمٍ ونفوذٍ لها على الضفة الجنوبية من ساحل البحر المتوسط.

وتكمن أهمية تلك الحرب التي بدأت عام 1911 واستمرت إلى عام 1912، في أنها شهدت أولى خطوات التقدم العسكري باستخدام الطائرات الحربية التي قَصَفَت بعض المواقع العثمانية في ليبيا، التجربة التي استفادت منها الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى عام 1914، كما أنها كشفت حالة الدولة العثمانية الضعيفة من الداخل أمام القوى الاستعمارية الغربية، التي كانت تتطلع للقضاء عليها.

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر صعوداً هائلاً للدول الاستعمارية الغربية، وأبرزها فرنسا وبريطانيا، التي غزت بلاد المشرق العربي وإفريقيا والهند، وبدأت تُقسم البلدان فيما بينها، وهنا أرادت إيطاليا أن يكون لها نصيبها في هذه التقسيمة، خصوصاً في شمال إفريقيا، حيث السواحل المقابلة لها على البحر المتوسط، فوجَّهت أنظارها نحو ليبيا.

كان لاختيار ليبيا أسباب عديدة؛ أولها أن باقي بلاد شمال إفريقيا كانت محتلّة بالفعل، وثانيها أن الدولة العثمانية كانت منشغلةً عن  تلك المنطقة في تلك الفترة، لكثرة المشاكل التي تواجهها في بعض الجبهات المهمة الأخرى، أما السبب الثالث فهو وفرة المواد الخام في الأراضي الليبية، التي تحتاجها إيطاليا لمواكبة الثورة الصناعية، ورابعاً قرب ليبيا جغرافياً من إيطاليا.

في بداية القرن العشرين، بدأت إيطاليا بأخذ موافقة الدول الاستعمارية الكبرى من أجل احتلال ليبيا، وقد عقدت مع فرنسا اتفاقاً عام 1902، ينص على أن تحتل فرنسا مراكش، مقابل أن تحتل إيطاليا ليبيا، كما أخذت موافقة إسبانيا وبريطانيا، وكذلك موافقة روسيا، بشرط عدم معارضتها في التحكّم بالمضائق العثمانية.

ومنذ ذلك التاريخ، قامت إيطاليا بافتتاح فرعٍ لبنك روما في ليبيا، وأرسلت بعثاتها التبشيرية، وفتحت مدارس حديثة، وزادت من نشاط قنصليتها السياسي والدعائي، وافتتحت عدداً من المشروعات الاقتصادية هناك. وفق كتاب “‫مئة عام على الحرب العالمية الأولى مقاربات عربية”، الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث بتأليف عدّة مؤلفين.

انتظرت إيطاليا توفُّر العوامل المناسبة، قبل أن تُعلن الحرب ضد الدولة العثمانية لتحتلَّ الأراضي الليبية، وبالفعل حدثت عدة عوامل هيّأت الوضع أمام إيطاليا، أولها حالة الارتباك داخل الدولة العثمانية، بسبب عزل السلطان عبدالحميد -الذي كان يُشكل عائقاً أمام المطامع الإيطالية- عن الحكم عام 1909، بواسطة جميعة الاتحاد والترقي التي تولّت إدارة السلطنة في تلك الفترة، وتولى السلطان محمد رشاد السلطنة بشكل صوري، كما أعلنت دول البلقان الحرب على الدولة العثمانية عام 1911، إضافةً لحدوث تمرد على السلطنة في اليمن في ذلك العام.

استغلت إيطاليا جميع هذه العوامل التي تهيأت لصالحها، ورأت أن الوقت المناسب قد حان لاحتلال ليبيا عسكرياً، ففي 28 سبتمبر/أيلول 1911، وجّهت روما مذكرة إنذار للدولة العثمانية تُخبرها فيها بأن الدولة العثمانية أهملت ليبيا، فترتب عليه فقدان الأمن هناك، وتهديد الرعايا الإيطاليين ومصالحهم الاقتصادية، وأمهلت إسطنبول 24 ساعة للرد.

وفي 29 سبتمبر/أيلول 1911، انتهت المهلة المحددة، وأعلنت إيطاليا الحرب رسمياً على الدولة العثمانية، وبدعمٍ من الحكومتين البريطانية والفرنسية بدأت إيطاليا الهجوم بإغراق بعض السفن العثمانية في البحر الأدرياتيكي، وبعدها بيوم توجّهت السفن الحربية الإيطالية التي تحمل حوالي 40 ألف جندي ونحو 50 مدفعاً إلى ميناء طرابلس، وبدأت في قصف المدينة وإنزال جنودها.

وسط مقاومة الجيش العثماني بقيادة مصطفى كمال باشا الذي لُقِّب لاحقاً بـ”أتاتورك“، والمتطوعين المحليين، الذين كان عددهم قليلاً أمام الإيطاليين ويحملون أسلحة قديمة، تمكنت القوات الإيطالية من احتلال طرابلس في 5 أكتوبر/تشرين الأوّل من ذلك العام، وقاموا باستدعاء المدد العسكري ليصل عددهم الإجمالي إلى 100 ألف جندي ليتوجهوا إلى مدينتي درنة وبنغازي.

كانت الإمبراطورية العثمانية تقاتل مع جيشها المكوّن من 15 ألف جندي ومتطوِّع في بنغازي، و10 آلاف جندي في طرابلس، مقابل 100 ألف جندي إيطالي، وحاول الجنود العثمانيون تنظيم هجمات استطاعوا من خلالها إلحاق خسائر بين جنود الجيش الإيطالي المتفوق في العدد والإمكانات.

وقد دارت العديد من المعارك المهمة بين الطليان من جهة والجنود العثمانيين والمقاومين الليبيين من جهة أخرى، أولها معركة الهاني في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1911، بقيادة المقاومين محمد فائق بو شويرب وسليمان الباروني، في مواجهة الجنرال الإيطالي كانيفا، وترتب عليها انحسار الغزو وانسحاب الطليان من بعض المناطق في طرابلس.

ووسط هذه المقاومة العنيفة، انقسمت القوات العثمانية في طرابلس إلى ثلاث كتائب؛ كتيبة في طرابلس تحت قيادة العقيد نيشت، وكتيبة في بنغازي تحت قيادة قائد الأركان أنور باشا، وكتيبة في درنة تحت قيادة مصطفى كمال.

وفي هذه الحرب بزغ نجم الشاب مصطفى كمال قائد كتيبة درنة، الذي خاض معركة طبرق في 22 ديسمبر/كانون الأول 1911، حيث قاد كتيبته التي تحتوي على 200 جندي ومتطوع فقط، إلى الانتصار على 2000 جندي إيطالي تحت قيادة قائد العمليات الجنرال كارلو كانيفا، وبعدها أُصيب وعاد ليتلقى العلاج في درنة.

ومن الجدير ذكره أن في هذه المعركة استخدم الجيش الإيطالي القاذفة لأول مرة في تاريخ الحروب، وهي طائرة عسكرية مصممة لإسقاط القنابل على أهداف سطحية، حيث وصل طيار إيطالي في مهمة مراقبة وقام بإسقاط أربع قنابل يدوية على هدفين عثمانيين.

وعلى الرغم من قوة الطليان واحتلالهم لمناطق في ليبيا في بداية الحرب، إلا أنَّ الجيش العثماني والمقاومين الليبين اتخذوا سياسة الكرّ والفرّ في معاركهم التي كانت تحدّ من حركة الجيش الإيطالي، فحققوا نصراً في معركة درنة، التي وقعت في 3 مارس/آذار 1912، بقيادة أنور باشا وأحمد الشريف السنوسي ضد قوات مملكة إيطاليا بقيادة لويجي كابيلو.

كما حدثت معركة سيدي عبدالجليل أو معركة جنزور القريبة من طرابلس، في 6 يونيو/حزيران 1912، وتعتبر هذه المعركة من المعارك الكبرى في المراحل الأولى من الاستعمار الإيطالي، وشارك في المعركة حوالي 14 ألف مقاتل عثماني وليبي، و14 ألف جندي إيطالي، وانتهت بنصر الإيطاليين.

وتلتها معركة سيدي بلال، أو معركة جنزور الثانية، التي حدثت غرب جنزور، في 20 سبتمبر/أيلول 1912، واستغرقت هذه المعركة ما يزيد على عشر ساعات، ويعتبرها الإيطاليون من المعارك الكبرى في تاريخ حملتهم العسكرية في ليبيا، وانتهت بسيطرة الإيطاليين على مرتفعات سيدي بلال غرب جنزور.

واجه الجيش الإيطالي مقاومة عنيفة من القوات العثمانية والليبية، أدت إلى صعوبة سيطرته على الميدان في ليبيا، فتوجّه لتحويل ميدان الحرب إلى خارج ليبيا، وتوجيه ضرباتٍ موجعة إلى القوات العثمانية في مناطق مختلفة من نفوذها، بالتزامن مع المعارك في ليبيا، ليجعلها تخضع وتقبل بالانسحاب.

استغل الإيطاليون تصاعد وتيرة أحداث التمرد على السلطنة العثمانية في اليمن، حيث اضطرت بعض القوات العثمانية لترك الحرب في ليبيا والتوجه إلى اليمن لقمع التمرد، ولكن الأسطول البحري الإيطالي سبقهم إلى هناك وقام بمهاجمة ميناء الحديدة وإغراق بعض السفن العثمانية، كما أعاق حركة السفن العثمانية القادمة من طرابلس.

وفي 24 فبراير/شباط 1912، هاجم الأسطول البحري الإيطالي مدينة بيروت، وأغرقوا سفينتين عثمانيتين، ثم قصفوا المدينة التي كان بها الكثير من السكان الفرنسيين، وذلك من أجل أن تضغط فرنسا على الدولة العثمانية للإنسحاب من ليبيا، ثم توجه الأسطول الإيطالي إلى مضيق الدردنيل، في 18 أبريل/نيسان 1912، وقاموا بقصفه، من أجل ضرب الاقتصاد والتجارة الدولية والعثمانية.

وفي 4 مايو/أيار 1912، توجهت القوات الإيطالية إلى جزيرة رودس اليونانية، التي كانت تحت الحكم العثماني آنذاك، ودارت هناك معركة شرسة استمرت أسبوعين، وانتهت بانتصار الإيطاليين، وإنهاء الحكم العثماني على جزيرة رودس، الذي دام نحو 4  قرون من الزمن.

كما قامت القوات الإيطالية بشنّ هجمات على بحر إيجة، وقصف العاصمة إسطنبول، بأمر من الكابتن فاشيللو اينريكو ميللو، ما بين ليلة 18 و19 يوليو/تموز 1912، دون حدوث أي خسائر، للضغط على الحكومة العثمانية من خلال تهديد أمنها الداخلي بشكلٍ مباشر جداً، وبقيت القوات البحرية الإيطالية متمركزة في بحر إيجة.

أما الشعرة التي قصمت ظهر البعير فكانت عندما أعلن الجبل الأسود الحرب على الإمبراطورية العثمانية، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1912، وقد تمكنت القوات البحرية الإيطالية الموجودة في بحر إيجة من منع إرسال المساعدات من إسطنبول إلى الجنود في مقدونيا والجبل الأسود، وهنا اضطرت وأُجبرت الإمبراطورية العثمانية لقبول السلام مع الإيطاليين بشروط إيطاليا، وتوقيع معاهدة أوشي، في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1912.

ومعاهدة أوشي أو معاهدة لوزان الأولى، هي معاهدة وُقِّعت بين إيطاليا والدولة العثمانية، وقد عُقدت في قلعة أوشي (ضواحي لوزان) بسويسرا، وبموجبها انسحبت قوات الدولة العثمانية من ليبيا، وبقي أهالي ليبيا وحدهم يقاومون الاحتلال الإيطالي.

هكذا انتهت الحرب التي راح ضحيتها من الجانب العثماني والليبي 4500 شهيد، و14800 شخص مفقود، و5370 جريحاً، ولم يتم تحديد الخسائر الاقتصادية للجانب العثماني، أما الجانب الإيطالي فقد تكبد مقتل 4000 جندي، و6000 جريح، و600 مفقود، كما تشير بعض المصادر إلى تعرض إيطاليا لخسائر مادية طائلة، فلقد كانت التقديرات المادية الأولية للحرب 20 مليون ليرة في الشهر، ولكن ارتفعت المصروفات حتى وصلت إلى 80 مليوناً للشهر الواحد، ما أدى إلى خلل في الميزان المالي الإيطالي.

أعلنت ايطاليا سيادتها على ليبيا في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، ما عدا طرابلس، وبدأت القوات الإيطالية في تنفيذ أحكام الإعدام بحق المقاومين علناً في الميادين، وبدأ الليبيون رحلتهم في المقاومة ضد المحتل، وظهرت أسماء عديدة كالشيخ سليمان الباروني، والشيخ أحمد سيف النصر، وأحمد شريف السنوسي، والشيخ عمر المختار ومرافقيه.

كان عمر المختار أبرز المقاومين في ليبيا وفي العالم تلك الفترة، واستطاع تشكيل أول قوة نظامية، معتمداً على أبناء قبيلته، واعتمد في قتاله للإيطاليين على حرب العصابات، فاتصل بكل العشائر وأقنعهم بمقاومة الاحتلال وحشدهم لقتال الاحتلال، وإلحاق الخسائر في صفوف الإيطاليين، إلى أن تم إعدامه عام 1931.

واستمرت حركة المقاومة في ليبيا حتى خرجت إيطاليا منها عقب خسارتها الحرب العالمية الثانية، ثم ملأت القوى المنتصرة في الحرب (بريطانيا وأمريكا) الفراغ، ولكنها لم تكرر خطأ الإيطاليين بالتوغل في العمق الليبي، وبقيت على الشواطئ، حتى تمكنت ليبيا من إعلان استقلالها في عام 1951.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى