ثقافة وادب

أوقفت الحرب العالمية أبحاثَهما، لكنهما أكملا ليُخرجا لنا لقاحاً أنقذ الملايين

كانت أكثر الحروب المرهقة للبشرية عبر تاريخها الطويل هي حروب الأوبئة والأمراض المرعبة التي تفتك بالإنسان والحيوان، والتي لا يُمكن قهرُها إلا باكتشاف اللقاح الذي يقضي عليها أو يحدّ من نشاطها وقوة فتكها وانتشارها، ومن أشهر هذه الأوبئة المرعبة “السل”، الذي وقف الإنسان عاجزاً أمامه لقرون طويلة، إلى أن ظهر عالِم الجراثيم الفرنسي ألبيرت كالميت، وصديقه ومساعده البيطري الفرنسي كميل غيران وأخرجا للبشرية لقاح السل. 

يُعتبر السل واحداً من أقدم الأوبئة المعروفة التي أصابت الإنسان والحيوان معاً منذ العصور القديمة. فقد تبيّن مع علماء الآثار أنّ مرض السل قد ضرب الحيوان منذ أكثر من 17 ألف سنة، وذلك من خلال فحص بقايا عظام جاموس البيسون القديم الذي كان يعيش في وايومنغ الأمريكية في تلك الفترة. لكن لم يتبين معهم ما إذا كان نشأ هذا المرض لدى الحيوانات ثم انتقل إلى البشر، أم أنه انتقل إليهما من عاملٍ مشترك.

وقد يُرجح علماء الآثار أن تاريخ انتشار السل بين البشر كان قبل حوالي 9 آلاف عام، أي حوالي عام 7000 ق.م، وذلك على إثر اكتشافهم السُّل في بقايا عظام أُمٍّ وطفل مدفونين معاً في “عتليت”، وهي قرية فلسطينية بالقرب من حيفا، فيما كان أول ذِكر مكتوب لمرض السل في الهند قبل 3300 عام، ولقد عرفت الحضارات القديمة هذا المرض، ولكن سمّوه أسماء مختلفة.

منذ القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر تسبَّب السل في مقتل حوالي 25%  من إجمالي الوفيات في أمريكا وأوروبا، وقد لقَّب الناسُ في تلك الفترة مرضَ السل “بالطاعون الأبيض”، وذلك لأن هناك حالات شفاء لبعض المرضى، وفي عام 1834 قام عالم النبات والطبيب الألماني يوهان شونلاين بتسمية المرض بـ”السُّل”.

والسُّل، هو مرض مُعدٍ تُسببه بكتيريا ذات طابع خاص تُدعى “مايكوبكتريام” أو (البكتريا المتفطّرة السليّة)، التي تصيب الرئتين في معظم الأحيان، وينتشر السل من شخص إلى شخص عن طريق الهواء.

وعلى طوال القرون المنصرمة تسبّب مرض السل في وفاة عدد هائل من الشخصيات التاريخية البارزة، كالملك الصالح نجم الدين أيوب، ونابليون الثاني، ابن نابليون بونابرت، والأديب الروسي أنطون تشيخوف، والمؤلف المسرحي الفرنسي موليير، والشاعر والكاتب اللبناني جبران خليل جبران.

عرف العالم العديد من الاكتشافات التي أسهمت في بداية الحدّ من خطورة مرض السل في أواخر القرن التاسع عشر، فخلال شهر مارس/آذار 1882، اكتشف العالم الألماني روبرت كوخ البكتيريا المتفطرة السليّة المسببة للمرض، وقام بوصفها، وطوّر التيوبركلين “مستخرج من عصيات السل” لقاحاً للمرض.

لكن مع الأسف لم يُثبت هذا اللقاح فاعليته، إلا أن ما قام به كوخ كان بمثابة ثورة في عالم الطب وعالم البكتيريا آنذاك، بعد أن استطاع التمييز بين البكتيريا المتفطرة السلية وبين المتفطرة البقرية، الأمر الذي ألهم كلاً من ألبرت كالميت وكميل غيران للعمل على تطوير لقاح ضد السل. 

وُلد ألبرت كالميت في نيس بفرنسا عام 1863، وتخرّج في كلية الطب عام 1886 في باريس، وكان تلميذاً عند العالم لويس باستور، ثم أكمل كالميت دراسته في داء الخيطيات، وهو مرض طفيلي سببه عدوى الديدان، وبعد تخرجه كُلِّفَ بالعمل في المناطق التي كانت تخضع للاحتلال الفرنسي حول العالم، فخدم في سان بيير بالقرب من كندا، وفي الغابون والكونغو الفرنسية غرب إفريقيا، حيث أجرى هناك أبحاثاً عن مرض الملاريا وبعض الأمراض المنتشرة في تلك المنطقة.

وفي عام 1891 كان يعمل في مدينة سايغون الفيتنامية (اسمها حالياً هو تشي منه)، وهناك استعان به العالم الفرنسي الشهير لويس باستور من أجل تأسيس معهد باستور في تلك المنطقة، وهناك كرّس نفسه لدراسة علم السموم الناشئ، الذي كان له صلات هامة بعلم المناعة، ودرس خصائص زعاف الثعابين والنحل وسموم النبات، واكتشف لقاحاً وقائياً ضد سم الثعبان.

بعد عودته إلى فرنسا عام 1895 تم تكليفه بقيادة معهد باستور في مدينة ليل، حيث أسس أول مستوصف لمكافحة مرض السل، كما أسس كالميت الرابطة الشمالية لمكافحة مرض السل في عام 1904، التي لا تزال موجودة حتى الآن. 

أما كميل غيران فقد وُلد عام 1872 في مدينة بواتييه في فرنسا، ودرس الطب البيطري، وبعد أن تخرّج التحق بكالميت في معهد باستور عام 1897، ومنذ ذلك الوقت كرّس حياته لأبحاث التطعيم مع كالميت، وخصوصاً لمرض السل، وظل يعمل في  هذا المجال حتّى بعد وفاة كالميت عام 1933، إلى أن توفي غيران عام 1961، حيث كان وقتها المدير الفخري لمعهد باستور.

في عام 1900 كثف العالِمان جهودَهما لإيجاد لقاح لمرض السل، وكانت أولى خطواتهما هي خلق وَسَط ملائم لزراعة البكتيريا المسبِّبة للسل من أجل مراقبتها بشكل دقيق، وفي عام 1906 أثبت غيران أنّ مقاومة مرض السل مرتبطة بوجود عصيّات حية في جسم الإنسان، وفي عام 1908 قاما بعمل بحث عن إحدى سلالات السل البقري بهدف تطوير لقاح مناسب لها.

حقق العالِمان تقدماً ملحوظاً في أبحاثهما تلك، إلا أنهما توقفا مع نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وفور انتهاء الحرب استكملا أبحاثهما بشكلٍ مكثف، وقاما بتجربة أكثر من 230 عملية لزراعة البكتيريا، إلى أن نجحا في الحصول على عصيّات سُلّيّة مضاعفة فشلت في التسبب بمرض السل عند حقنها بعددٍ من الأرانب والأبقار والأحصنة.

وفي عام 1921، قدَّم العالِمان للعالم هديتهما، بعد أن ابتكرا لقاح السل وأطلقا عليه اسم عصيّة كالميت- غيران (Bacillus Calmette–Guérin) والتي تختصر حالياً بأحرف (BCG).

إن فكرة هذا اللقاح مثيرة، وقد أثبتت نجاعتها عند أغلب البشر. تتم العملية عن طريق تحفيز الجهاز المناعي لجسم الإنسان، فهو ليس جرعةً مناعيةً مضادّة للمرض، ولكنه عبارة عن بكتيريا حية بالغة الضعف، عندما تُحقن داخل طبقات جلد كتف الإنسان الأيسر تعمل على مخادعة الجهاز المناعي الذي “يظن” أنه أصيب بالعدوى، فيتحفّز أحد خطوطه ليكوِّن دروعه ضدها، وعندما يتعرض للبكتريا الحقيقية لا يُصاب بها، وإذا أصيب بها يتعامل معها الجهاز المناعي ولا تظهر على الإنسان أعراض المرض.

في عام 1921، تم تجريب اللقاح على طفلٍ حديث الولادة فارقت أمه الحياة للتو  بسبب مرض السل، وخلال الأيام التالية لاحظ الباحثون عدم ظهور أعراض السل على الطفل، وتلا تلك التجربة مئات التجارب الأخرى الناجحة، التي شجّعت معهد باستور على إنتاج هذا اللقاح بكثافة، وفي عام 1928 حصل نحو 114 ألف طفل فرنسي على التلقيح، لتُوافق لجنة الصحة التابعة لمنظمة عصبة الأمم في ذلك العام على اعتماد هذه التلقيح.

وعلى الرغم من كفاءة اللقاح الجديد ونجاحه، الذي طال انتظاره قروناً طويلة، وموافقة اللجنة الصحية لعصبة الأمم، فإنّ تقبُّل المجتمع العالمي للقاح السُّل كان بطيئاً، مستغرقاً سنوات، حتى ظهرت أهميته في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ونجاحه في حماية ملايين الأطفال من الإصابة بالسل، حيث تلقى ما يزيد عن 8 ملايين رضيع هذا اللقاح في أوروبا. 

إن جهود كالميت وغيران العظيمة أثمرت عن إنقاذ ملايين الأرواح منذ اختراع اللقاح حتى اليوم، فلقد تم إنقاذ حياة أكثر من 49 مليوناً، وشفاء 56 مليون شخص من خلال المعالجة والرعاية، منذ عام 2000، بحسب منظمة الصحة العالمية.

لكنّ السل ما زال يُعتبر أحد أهم أسباب الوفاة للناس في العالم، ففي عام 2018 أصاب 10 ملايين شخص، ولقي 1.5 مليون شخص مصرعه بسببه، وتُخطط منظمة الصحة العالمية للقضاء على السل نهائياً بحلول عام 2030، ليكون ذلك أحد أهداف التنمية المستدامة في العالم.

فيما تكمن أسباب عودة خطورة السل في السنوات الأخيرة أولاً في عدم تقديم اللقاح بشكل صحيح، حيث إن له دورة علاجية معيارية مدتها ستة أشهر، وثانياً بعد ظهور مرض الإيدز وانتشاره، الذي يُضعف مناعة الجسم البشري ويتركه عرضة للأمراض المختلفة، وعلى رأسها السل.

أما السبب الثالث فهو أنّ السل يصيب الرئة، وهناك الكثير من الحالات المصابة بالرئة بفعل التلوث الهوائي، ما يُعزّز من فرصة السل في الدخول للجسم.

إن اللقاح الذي وصل إليه هذان العالمان، تجاوز أن يكون علاجاً أو وقاية من السل فقط، بل إنه يُستخدم أيضاً كأحد طرق العلاج لمرضى سرطان المثانة، فضلاً عن أن له علاقة بانخفاض معدلات الوفيات بشكل عام، حيث إنه يقوي جهاز المناعة تجاه بعض الفيروسات بجانب محاربته للسل.

واليوم، وبعد حوالي مئة عام من اختراع اللقاح، يدرس بعض العلماء إمكانية فاعلية هذا اللقاح لمواجهة فيروس كورونا المستجد، ولكن لا يوجد دليل على أن اللقاح يحمي مَن يحصل عليه من الإصابة بفيروس كورونا.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى