تقارير وملفات إضافية

الخطايا الأربع لزعماء لبنان التي أدت إلى انهيار اقتصاد البلاد

بينما يتبادل المسؤولون والزعماء اللبنانيون الاتهامات، فإن أسباب الأزمة الاقتصادية في لبنان معقدة ومركبة وتعود جذورها إلى طبيعة النظام اللبناني نفسه، بقدر ما هي مسؤولية الزعماء والسياسيين.

الأزمة اللبنانية الحالية تعبّر عن فشل سياسات النخبة اللبنانية التي حكمت البلاد لأكثر من ثلاثة عقود منذ نهاية الحرب الأهلية.

اتخذت هذه النخبة قراراً اقتصادياً بدا لسنوات حكيماً ولكن تبين بعد وقت طويل، أنه أدى بلبنان إلى الوضع الحالي.

كان لبنان دوماً بلداً تجارياً خدمياً، ولكن لديه بعض القطاعات الصناعية والإنتاجية تاريخياً.

وعندما جاء رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الراحل، للسلطة بعد نهاية الحرب الأهلية، قرر أن يعيد لبنان لوضعه الطبيعي كمركز مالي وخدمي للمنطقة، ولكن الاستراتيجية الحريرية تضمنت تجاهل الإنتاج الاستهلاكي والزراعي.

من أجل تعزيز لبنان كمركز مالي جاذب لأموال العرب والمغتربين اللبنانيين، قام الحريري بتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية في مواجهة الدولار مع الاحتفاظ بأسعار فائدة مرتفعة.

جعل هذا الوضع لبنان جاذباً للغاية لودائع اللبنانيين في الخارج وبعض الودائع العربية والأجنبية، خاصة في ظل تساهل النظام المصرفي اللبناني مقارنة بالأنظمة الشبيهة.

وعلى مدار عقود انهالت هذه الأموال على المصارف اللبنانية، التي كانت بدورها تقرضها للحكومة اللبنانية بأسعار فائدة مرتفعة.

وتراكمت الديون اللبنانية عدة مرات من قبل.

ولكن في المرات السابقة كان الغرب والعرب يسارعون غالباً بقيادة سعودية فرنسية وموافقة أمريكية، لإنقاذ الاقتصاد اللبناني.

ولكن اليوم قررت السعودية والولايات المتحدة الأمريكية رفع يدهما عن لبنان بعدما رأتا أن هذا النموذج الذي ساد في الحكم لعقود، أدى إلى سيطرة حزب الله على البلد، في وقت تقوم الدول الغربية والعربية بالإنفاق عليه بينما هو واقعياً مستعمرة للإمبراطورية الفارسية بالمنطقة.

كانت سياسة لبنان الاقتصادية مشجعة على الاستيراد وجلب العمالة من الخارج.

فقد أدى ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية إلى ارتفاع غير مبرر للأجور، فشجّع على استقدام العمالة من الخارج.

وهي سياسة رفضها صندوق النقد الدولي في البداية ثم عاد وأيدها.

والنتيجة أن بلداً متوسط الدخل مثل لبنان لديه 200 ألف خادمة أجنبية، تمثل نحو 5% من سكانه. 

أدت هذه الأوضاع إلى تراكم العجز في الميزان الجاري والعجز بالميزانية، خاصة في ظل ضعف قدرة التحصيل الضرائبي بالبلاد (جزء كبير من منطقة الضاحية الجنوبية ذات الغالبية الشيعية لا تدفع تكلفة الكهرباء للدولة).

وفي الوقت ذاته كانت مؤتمرات الدعم الخارجية بمثابة مسكنات، وعندما توقفت ظهر حجم الورم.

كان حجم الانهيار في سعر العملة كبيراً، إذ تراجع سعر الليرة من 1500 ليرة للدولار إلى نحو 4000 ليرة.

وهذا الانخفاض الكبير ليس فقط تعبيراً عن الأزمة الأخيرة؛ بل هو محصلة للاختلال طويل الأمد في الاقتصاد من جراء عقود من التثبيت والتسعير غير الحقيقي للعملة.

فقدت العملة اللبنانية في شهور، أكثر ما كان يجب أن تفقده في الظروف الطبيعية على مدار عقدين أو ثلاثة.

إضافة إلى تثبيت سعر العملة فاقم ضعف القيود والتعريفات الجمركية وسياسات حماية الإنتاج المحلي من إضعاف المنتجات المحلية، خاصةً الصناعية.

كل ذلك أدى إلى جعل البلاد دولة استهلاكية نموذجية تمولها المصارف، التي بدورها كانت رغم كفاءتها المشهود لها غير بعيدة عن اتهامات الفساد.

ولكن هناك حدود لاعتماد أي بلد على الاستدانة، ولبنان تحول فعلياً إلى واحد من أكثر بلدان العالم من حيث نسبة الدَّين إلى حجم الناتج المحلي.

وحسب بيانات تقرير جمعية المصارف اللبنانية، فإن الدَّين العام الخارجي للبلاد بلغ 91 مليار دولار، نهاية 2019، وأن السندات الحكومية تمثل عصب هذا الدين بنسبة تصل إلى 94%.

بالإضافة إلى عيوب هذا النموذج الرأسمالي الطفيلي، كان لبنان لديه أيضاً عيوب الدول الاشتراكية، إذ قامت الدولة لإرضاء زعمائها وطوائفهم بالتوسع في التوظيف بالحكومة، وهو الأمر الذي شكَّل عبئاً كبيراً على ميزانية البلد.

ومن المعروف عن اللبنانيين في كل العالم، بالإضافة إلى أنهم تجار حاذقون، أنهم أيضاً إداريون أكْفاء.

قد يكون صحيحاً أن اللبنانيين إداريون أكْفاء في كل العالم إلا لبنان.

إذ أدت سياسة المحاصصة الطائفية التي تعني توزيع المناصب بنسب متفق عليها بين الطوائف، إلى كارثة إدارية.

ولكن الكارثة الأكبر أن تحديد الأفراد الذين سيُعيَّنون بكل منصب يكون في الأغلب مهمة زعيم أو زعماء الطائفة.

ومن ثم يجعل هذا ولاءَ الموظف العام لطائفته وليس للدولة أو حتى رئيسه المباشر.

قد تكون المحاصصة مفهومة في ظل الحساسيات الطائفية اللبنانية، ولكن النظام اللبناني بعد الحرب الأهلية حوَّلها إلى وضع مزرٍ، جعل أجهزة الدولة تابعة للطوائف.

فحتى الأجهزة الأمنية موزَّعة في ولائها الطائفي.

فالأمن العام محسوب على الشيعة، ومخابرات الجيش للمسيحيين (وبصورة أقل، شيعة)، والأمن الداخلي وشعبة المعلومات التابعة لها للسُّنة.

حتى إنه عندما يقع عمل إرهابي يستهدف منطقة شيعية تحقق فيه مخابرات الجيش أو الأمن العام، أما إذا استهدف السُّنة فتحقق فيه شعبة المعلومات التابعة للأمن الداخلي.

علماً أن هذه الأجهزة تضم موظفين من كل الطوائف، ولكن في كل جهاز، الغلبة والرئاسة لطائفة معينة.

ساهم حزب الله في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي ولعب دوراً في حماية البلاد من داعش، ولكن في المقابل تحكَّم الحزب في سياسات البلاد، وجعلها تدفع ثمن ولائه لإيران.

كان مستقبل لبنان الذي رسمه الحريري الأب مختلفاً عن النموذج الذي يطبقه حزب الله.

وهي مفارقة أطلق عليها اللبنانيون “هانوي مقابل هونغ كونغ”، أي نموذج فيتنام المقاوم أمام نظام هونغ كونغ المنفتحة على العالم. 

وكانت واحدة من كبرى إشكاليات الاقتصاد اللبناني التي أوصلته إلى ما هو عليه، أنه كان اقتصاد يقوم بشكل كبير على السياحة في منطقةٍ تمور بالاضطرابات، وتحديداً الأزمة في سوريا المجاورة.

وكان قطاع السياحة اللبناني يعتمد بشكل كبير على السياحة من دول الخليج والتي توقفت بعد اندلاع الأزمة السورية؛ خوفاً من أي تحرش محتمل لأنصار حزب الله به.

بالإضافة إلى أن مغامرات حزب الله الخارجية كانت غير ملائمة لفكرة لبنان القائم على السياحة والخدمات، فإن الفساد ظل ينخر في البلاد لعقود، مدمراً الحيوية الكبيرة التي يتمتع بها الشعب اللبناني.

فأفضل توصيف للفساد في لبنان هو أنه جزء من النظام أو هو النظام ذاته.

ورغم شعور الزعماء اللبنانيين المخضرمين اللبنانيين مثل رئيس وزراء الأسبق فؤاد السنيورة ونبيه بري وجنبلاط بخطورة الوضع، حتى إن الأخير حذَّر قبل عدة سنوات من أن لبنان قد يواجه مصير اليونان.

بل إنه لفت فيما يشبه النبوءة، إلى أن لبنان لن يجد أوروبا تنقذه مثلما فعلت مع اليونان، كما حذَّر من أن العرب سيتركونه.

وقد تحققت هذه النبوءة، على ما يبدو.

وبينما يسعى البعض للبحث عن شخص أو تيار يحمّله مسؤولية الفساد والأزمة.

فإن تاريخ لبنان يشير إلى أنه يكاد ﻻ يكون هناك أحد بريء من الفساد بين الساسة اللبنانيين.

فحزب الله الذي كان يتباهى دوماً بأنه الأقل فساداً حليف أساسي لنبيه بري، وهو عراب النظام السياسي اللبناني الموصوم برمَّته بالفساد.

كما أن حزب الله حامي حمى آخِر الواصلين إلى عالم السياسة اللبناني الممزوج بالفساد جبران باسيل، رئيس التيار العوني.

وحزب الله كذلك متهم بأن له صلات بتجارة المخدرات في البقاع اللبناني، إضافة إلى اتهامات بأنه انضم إلى الأحزاب التي تستغل مرافق الدولة اللبنانية، بعد أن كان يترفع قديماً عن مجرد المشاركة في الحكومة.

وقد يكون أصدق من عبَّر عن هذا الوضع هو وليد جنبلاط.

فخلال الاحتجاجات السابقة بسبب أزمة القمامة قبل عدة أعوام، لم ينكر وليد جنبلاط اتهام المتظاهرين له بالفساد هو ونبيه بري وسعد الحريري وآخرين، ولكن كان استنكاره موجهاً لاقتصار توجيه الاتهام إليهم فقط.. كأن لسان حاله “نعم، نحن فاسدون ولكن لسنا وحدنا المتورطين في الفساد”.

واليوم يكرر جنبلاط قولته هذه بعد أن لوَّحت قوى “8 آذار” الحاكمة التي يقودها حزب الله، بفتح ملفات الفساد ضد قوى “14 آذار”التي تضم جنبلاط وتيار المستقبل وغيرهما.

ولأن جميع السياسيين في لبنان إما فاسدون وإما أصدقاء لفاسدين، كان طبيعياً أن يتجاهلوا المطالبات الدولية والأممية والأوروبية تحديداً بمحاربة الفساد، والتي كان آخرها ما صدر في مؤتمر سيدر الأخير الذي يرمى إلى دعم الاقتصاد اللبناني.

واليوم بات التراشق بالفساد مَلمحاً أساسياً، يحاول المسؤولون اللبنانيون به الهروب من الأزمة.

فالتيار الوطني الحر وحزب الله يحاولان تقديم نفسيهما على أنهما وافدان جديدان على الحكم، والحقيقة أنهما تأخرا بضع سنوات فقط في الالتحاق بالحكومات اللبنانية.

ويحاولان إلصاق الفساد بقوى “14 آذار”، تحديداً تيار المستقبل، ووليد جنبلاط، إضافة إلى النخب المصرفية في البلاد.

ولكن هذا الاتهام غمز غير مباشر بقناة نبيه بري حليف حزب الله المقرب، لأنه كان عراباً للنظام اللبناني منذ نشأته في أوائل التسعينيات بعد الحرب الأهلية.

وبالفعل نشب خلاف بين حزب الله ونبيه بري حول ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي درست الحكومة اللبنانية إقالته.

وانتشرت نار الخلاف  بين  أنصار “حزب الله” و”حركة أمل” على مواقع التواصل الاجتماعي، ما استدعى اتصالات بين الجانبين لتخفيفها.

يبدو تأثير الفساد جلياً في ملف الكهرباء الذي كلف البلاد مليارات، وفي الوقت نفسه فإن الدولة تعاني عجزاً في الإنتاج (بيروت تُقطع فيها الكهرباء ثلاث ساعات يومياً على الأقل، وبقية المناطق الوضع فيها أسوأ)، تتم تغطيته عبر موردي الكهرباء في الأحياء والذين يرتبطون بالأحزاب السياسية.

كما أن عمليات التهريب المغطاة من الأحزاب كانت بمثابة ضربة نجلاء للصناعات المحلية، والخزينة العامة.

أما الشارع اللبناني فهو كعادته، كل طائفة تتهم زعماء الطوائف الأخرى بالفساد وتقلل أو ترفض توجيه هذه التهم لزعماء طائفتها، باستثناء بعض القوى اليسارية أو النشطاء الذين يرفعون شعار “كلهن يعني كلهن”، ولكنهم يطرحون في الأغلب أفكاراً طوباوية قد تزيد الأزمة سوءاً.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى