تقارير وملفات إضافية

خديعة المفاوضات.. إثيوبيا تفعل ما تريده في ملف السد، فلماذا هذا الضعف المصري؟

بعد نحو ثلاثة أشهر من انسحاب إثيوبيا من مفاوضات سد النهضة، عادت وأعلنت على لسان رئيس وزرائها عن العودة لتلك المفاوضات، فما هو الهدف هذه المرة؟ وهل تملك مصر خيارات أخرى تحميها من مستقبل بلا شريانها الأول؟

فقد أعلن آبي أحمد الخميس 21 مايو/أيار الماضي، عودة المفاوضات لمناقشة التفاصيل الفنية المتعلقة بأزمة سد النهضة بعد وساطة سودانية وبعد انقطاع دام نحو ثلاثة أشهر، وتحديداً منذ الخميس 27 فبراير/شباط حين تغيب الممثل الإثيوبي عن لقاء في مكتب وزير الخزانة الأمريكي، وهو ما يطرح تساؤلات حول النوايا الإثيوبية.

في مسعى منها للتقليل من حدة التوتر أصدرت الدولة الإثيوبية بياناً عبر وكالة الأنباء الرسمية في السابع من مايو/أيار الحالي، موجهاً حديثها للشعب المصري “إن السد مجرد مشروع لتوليد الكهرباء لا يستهلك مياهاً، لكن الإعلام يستغله للاستهلاك السياسي”.

إذاً فلماذا لا يمكن الوثوق في الإثيوبيين؟ الدكتور رفعت محمد رفعت باحث مصري في جامعة لاسابينسا روما أعد هذا التقرير للإجابة عن هذا السؤال، إضافة للتساؤلات الأخرى المرتبطة بالملف، إذن إن نظرة سريعة على تجربة إثيوبيا في التعامل مع جيرانها خلال العشر سنوات الأخيرة توضح كيف يدير الإثيوبيون ملف المياه، ففي 17 ديسمبر/كانون الأول 2016 افتتحت إثيوبيا سد جيبي 3 على نهر أومو الذي يصب في بحيرة توركانا بعد مجموعة من التعهدات “الشفهية” بعدم الإضرار بجارتها الشقيقة وأن يتم اقتسام منافع السد عبر تصدير كهرباء مخفضة من إثيوبيا لكينيا.

لكن تقريراً نشرته منظمة الأنهار الدولية أفاد أن “السد الإثيوبي يهدد بتحويل بحيرة توركانا إلى “بحر آرال شرق أفريقي”، والإشارة هنا لبحر آرال الذي يمثل أكبر كارثة طبيعية تسبب بها الإنسان حين أقدم السوفييت في الثمانينيات على إنشاء سدود عليه بغية التوسع في زراعة القطن فنتج عنه تجفيف رابع أكبر حوض مائي في العالم كانت مساحته 6 آلاف كم2.

ويمكن الحديث عن نحو 200 ألف مهجر من شمال كينيا من أصل 500 ألف كانوا يحيون على البحيرة كما يمكن الحديث عن الاقتتال في ذلك المجتمع الرعوي الذي يتكرر كل عام نتيجة نقص مياه البحيرة، فيما تربط الحكومة الإثيوبية مرور المياه بإقدام كينيا على شراء الكهرباء المنتجة من السد خلال عملية مرور المياه، وهو ما تنوي فعله مع مصر وهو ما أكده وزير الري المصري الأسبق محمد نصر علام في 29 فبراير/شباط الماضي، ونقله عنه موقع روسيا اليوم، وأكده عن الطرف السوداني عضو الوفد المفاوض في اجتماعات سد النهضة سابقاً أحمد المفتي في حديثه لموقع عربي بوست بتاريخ 4 مارس/آذار الماضي: “الآن تريد إثيوبيا بيع مياه النيل لمصر والسودان”.

بخلاف كينيا يمكن أيضاً النظر للصومال حين شيدت إثيوبيا سد ملكا وكينا على الروافد العليا لنهر شبيلى في جبال بايل، وأربعة سدود على نهر جوبا وكلا النهرين يمثلان 90% من المياه التي تصل للأراضي الصومالية، بالطبع بعد عدد من الوعود المعسولة واستغلالها حالة الفوضى السياسية في الداخل الصومالي انخفضت كميات المياه بدرجة كبيرة ومع ضعف الاستهلاك والاقتصاد الصومالي الذي لا يستطيع شراء الكهرباء، لم تستح الدولة الإثيوبية على ربط مرور المياه بالحصول على أحد الموانئ الصومالية باعتبار إثيوبيا دولة حبيسة وهي بحاجة لميناء بقدر حاجة الصومال للماء وبالفعل استحوذت على 19% من ميناء بربرة الصومالي.

كما تكرر استخدام إثيوبيا للمياه كسلاح وورقة ضغط على حياة الشعوب هذه مع جارتها جيبوتي عقب تشييد أربعة سدود على نهر أواش الذي ينبع من أراضيها وينتهي في بحيرة آبي في جيبوتي، تلك المرة لم تكن المقايضة ميناء مقابل السماح بجريان النهر إنما أيضاً بمزيد من المياه كما صرح الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله، في حفل تدشينه لمشروع ضخ 400 مليون م3 من مياه النيل -بالطبع من حصة مصر- تكفي احتياجات 700 ألف مواطن جيبوتي بتمويل وتنفيذ صيني، وتم توقيع اتفاق مشاركة إثيوبيا بحصة من ميناء جيبوتي في أبريل/نيسان 2018.

بالعودة إلى الحالة المصرية، وبعد استعراض التجربة الكينية والصومالية، يمكن تفهم مدى الإصرار الإثيوبي على السد رغم تفنيد المبررات الاقتصادية، ولكن ماذا عساها تريد إثيوبيا من مصر في مقابل السماح بمرور مياه النيل؟ بالطبع سيتم الحديث عن بيع الكهرباء فإن لم يكن لمصر فعلى الأقل على مصر أن تنسحب من السوق السوداني وربما لاحقاً من سوق الطاقة الليبي، غير أن بحيرة السد الهائلة بالإضافة للسدود الثلاثة الأخرى التي تخطط لإنشائها- مدعيةً أهميتها لحماية جسم السد من الطمي ولضمان عمل التوربينات- يدفع للتوجس في غاية أبعد من مجرد تحقيق إثيوبيا أهدافاً اقتصادية وسياسية، فماذا عساه يكون؟

حتى الآن رفضت إثيوبيا جميع المقترحات المصرية التي من شأنها التخفيف من أضرار السد، فهي لم تقبل أن يكون ملء السد في 7 سنوات والحفاظ على مستوى المياه في سد أسوان عند 165 متراً وضمان 40 مليارم3 من المياه لمصر -وهو ما يعني تخلي مصر طوعاً عن 15 مليارم3 من حصتها التاريخية والتي لا تكفيها- وزيادة فتحات تصريف المياه لتصبح أربعاً بدلاً من اثنين لضمان تدفق المياه خلال فترات الجفاف وأن تكون سنوات الملء 7 مع مراعاة سنوات الجفاف في حين تريدها إثيوبيا بين 4-7 سنوات على الأكثر، وبالطبع رفضت إثيوبيا الإدارة المشتركة للمشروع.

رفض وتعنت إثيوبي وامتناع عن أي نوع من الالتزام بضمان حصة من المياه لمصر، وهي تبرر ذلك بأن إيراد النيل متغير فكيف لها أن تضمن حصة ثابتة، وهو حق أريد به باطل لأن في علم الأنهار يقاس متوسط تدفق النهر بمعدلاته خلال آخر 100 عام، وهو أمر يسهل حسابه في النيل (متوسط إيراد النيل هو 84 مليار م3 تحصل مصر منه على قرابة 55.5 والسودان 18 والباقي لإثيوبيا) وكأن النية الإثيوبية هي الإضرار العمدي بمصر لا أكثر.

يكفي القول إنه في خلال خمس سنوات من بدء ملء السد ستتعرض 5 ملايين فدان من رقعة مصر الزراعية المحدودة للبوار وما يتبع ذلك من انخفاض الإنتاج الحيواني -متوقع انخفاض إنتاج المزارع السمكية بنسبة تتراوح بين 50-75%- وتغيرات دائمة على طبيعة التربة في منطقة الدلتا -الثقل الزراعي لمصر- نتيجة زيادة نسبة التملح، اقتصادياً لن يكون تفريغ بحيرة ناصر وتوقف توربينات السد العالي أكبر مشاكلنا فيكفي القول إن كل مليارم3 ينخفض من مياه النيل يعني فقدان 200 ألف وظيفة وخسارة 1.8 مليار دولار من ناتجنا المحلي طبقاً لتصريح محمد عبدالعاطي وزير الري المصري في اجتماعه مع غرفة التجارة الأميركية بالقاهرة 2 أبريل/نيسان 2018.

التقرير الاستهلالي للمكتب الاستشاري الفرنسي -“ويعتمد على عمل شركتين هما “بي آر إل” و”أرتيتا” الذي أوكلت إليه الدول الثلاث “مصر والسودان وإثيوبيا” دراسة آثار تشييد السد على دول المصب- يعرض صورة أشد قتامة، التقرير الذي نوه للهوة الشديدة بين نصيب الفرد من المياه سنوياً في مصر وإثيوبيا– حيث يبلغ نصيب الفرد في مصر 555 م3 وهو أقل من خط الفقر المائي البالغ 1000 م فيما يبلغ نصيب المواطن الإثيوبي 38 ألف م3–  وحذر من انخفاض منسوب المياه الجوفية وانكشاف مأخذ محطات مياه الشرب المصرية ومشاكل الملاحة النهرية وتلوث المياه بالمعادن الثقيلة نتيجة قلة التدفق وبطء جريانه وهو ما سيؤدي لزيادة معدل الحموضة، كما وأكد أن حجم الفواقد في موقع السد لن تقل عن 5 مليارات م3 نتيجة البخر والتسريب والتشرب بخاصة خلال أعوام الملء ولحين تشبع التربة وهو ما سيؤثر على حصة دول المصب بالتأكيد بخاصة مصر التي تعاني بالفعل من عجز مائي يقدر بحوالي 19 مليار م3.

ولتكتمل الصورة فقد أظهرت صور القمر الصناعى الأمريكي “Land sat 8” – طبقاً لتأكيد الدكتور علاء النهري نائب رئيس المركز الإقليمي لعلوم الفضاء- أن الطاقة الاستيعابية لبحيرة السد فعلياً هي 96 مليارم3 وليست 74 كما تزعم حكومة إثيوبيا ونتيجة التسرب عبر الصدع الإفريقي العظيم وتشرب التربة خلال سنوات الملء فستصل السعة لنحو 120 مليارم3، فيما تكمن أخطر مشكلات السد- طبقاً لتقرير اللجنة الثلاثية الدولية لسد النهضة الصادر في مايو/أيار 2013- في موقعه الجغرافي، حيث يعتبر الصدع الإفريقي العظيم واحداً من آخر وأنشط الفوالق بإفريقيا وهناك احتمالية كبيرة لحدوث زلزال في تلك المنطقة ومع ضغط مياه بقوة تزيد عن 70 مليارم3 سيكون هناك احتمالية الانهيار كما حدث بالفعل مع سد أوين في شمال أوغندا الذي لا يبعد عن سد النهضة كثيراً، وهو ما حذر منه سابقاً خبير الري السوداني أحمد المفتي.

أعادت جامعة “إم إي تي” الأمريكية تحذيرها من مخاطر انهيار السد في ورشة عمل عقدت عام 2014 وحذرت من موجة تسونامي قد تدمر السودان وجنوب ووسط مصر، فيما أكدت الجمعية الجيولوجية الأمريكية في مايو/أيار 2017 أن مصر ستعاني من نقص 25% من حصتها السنوية من المياه حتى في حال ملء السد في سبع سنوات وسيتم تدمير 17% من الرقعة الزراعية في حال ملء الخزان في ست سنوات تصل لـ51% إن قلت السنوات إلى ثلاث.

 فإن كان الأمر بتلك الخطورة وعدم الجدوى الاقتصادية فلم تتحمل إثيوبيا رد فعل دولة مثل مصر قد يدفعها بناء السد للدخول في مواجهةٍ عسكرية؟ بل لماذا يرهن نظام حاكم لدولة مستقبله السياسي بسد؟ ويجيش من أجله قدراً كبيراً من مقدرات الدولة الفقيرة ومن مدخرات مواطنيه؟ من الصعب تخيل أن كل ذلك من أجل ضغائن قديمة أو مكاسب سياسية قد لا تحدث أو نفع اقتصادي قد لا يتحقق، فمن ذا الذي قد يقدم على تمويل مشروع بكل تلك المخاطر ويسبب لدولة ليست بالصغيرة في البعد العربي أو الإفريقي كمصر كل تلك الأضرار؟

الصعوبات المالية الشديدة التي واجهت توفير تمويل السد (كانت التكلفة المبدئية 4.5 مليار دولار ارتفعت بمقدار 60% كما صرح آبي أحمد في كلمته أمام البرلمان في فبراير/شباط 2019، بفعل التأخير والفساد في الداخل الإثيوبي) كانت كفيلة بكشف غايته الحقيقية حين أظهرت للعيان من يقفون خلفه، وبالتالي بات من الممكن التعرف على نواياهم.

في هذا السياق، لا يمكن استبعاد الحضور الإسرائيلي فهي دائماً طرف قائم في المعادلة فكان حضورها في ملف النيل أدعى ولعله حضور سبق إدراكنا له، ففي 23 مارس/آذار 1903 وصل إلى مصر على متن السفينة النمساوية سميراميس تيودور هرتزل أحد الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية منذ 31 أغسطس/آب 1897، ليعقد اجتماعاً في فندق شبرد مع وزير المستعمرات البريطانية جوزيف تشمبرلين واللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر والماركيز لانسدون وزير الخارجية البريطاني وبطرس غالي رئيس النظار المصري لبحث تأسيس وطن لليهود في سيناء، فوافق الحضور غير أنه اشترط تأمين وصول المياه من النيل من أسفل قناة السويس فرفضت الخطة بسبب التكلفة العالية بخاصة مع وجود بديل فكانت فلسطين.

حتى في مباحثات السلام مع إسرائيل كان لملف المياه الصدارة، في دراسة أعدها إليشع كيلي رئيس هيئة تخطيط المياه في إسرائيل، قدم الرجل دراسة تفصيلية لنقل المياه بواقع 1% من حصة مصر وهو ما وعد السادات حينها بدراسته وشرع بالفعل بإنشاء ترعة السلام في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1979 بين فارسكور والتينة عند الكيلو 25 وقد التقى السادات حينها  بعدد من المختصين وطلب منهم عمل دراسة علمية لتوصيل المياه إلى القدس وهو ما أكده السادات ذاته في حديثه التلفزيوني مع المذيعة همت مصطفى في 25 ديسمبر/كانون الأول 1979، وفي 13 أغسطس/آب نشرت الصحف المصرية نص خطاب السادات لمناحم بيجن  يفاوضه فيه على إخلاء مستوطنات الضفة وإعادة توطين ساكنيها في النقب مقابل إيصال المياه فرفض الأخير وعرض مشروعه القائم على شراء الماء بمقابل ضخم وتشغيل العمالة المصرية في المشروعات التي ستقام وطويت تلك الصفحة باغتيال السادات لاحقاً.

لم يثن ذلك الفشل السعي الحثيث لإسرائيل عن الحلم الأبدي، فالنيل لهم ليس مجرد مياه تغطي احتياجاتهم ولكنه حلم تلمودي يحد حدودهم الجنوبية في دولتهم العظمى ولم يرسم على علمهم هباء، ومع وصول مبارك للحكم وتقزم دور مصر في محيطها العربي والإفريقي انطلقت إسرائيل لفتح مجالات للتعاون مع إثيوبيا مستغلة حاجة الأخيرة للدعم في حرب الاستقلال مع إريتريا وحرب أوغادين مع الصومال وفتحت ملف التنمية والشراكة الاقتصادية عبر الدعم الفني والتوجيه الإداري، وهو ما تكلل بإنشاء سد فيشا على النيل الأزرق عام 1984.

وفي حقبة مبارك شاركت إسرائيل في بناء 25 من أصل 37 سداً شيدتها إثيوبيا فيما تكفل السوفييت والصينيون بالبقية من بينهم سد سنيت وسد خور الفاشن وسد البيبو وسد تكزه وجميعها على النيل الأزرق، وأدركت إسرائيل أنها بالفعل نجحت في امتلاك العديد من أوراق الضغط على مصر مما جعلها في “مؤتمر لوزان سويسرا 1989 وعلى لسان حايين بن شاهار تعيد مقترحها مرة أخرى بالحصول على 1% من حصة مصر عبر سحارة لنقل المياه لسيناء ولاحقاً لإسرائيل فيما يعرف بنموذج بؤر أو “نيل أزرق أبيض” وهو الاقتراح الذي كان جزءاً من مشروع شمعون بيريز “الشرق الأوسط الكبير” وحظي بدعم من البنك الدولي ورغبة في التمويل.

ولم تتوقف إسرائيل يوماً عن خنق مصر مائياً، فمنذ دعمها منجستو هيلا مريام الشيوعي والمعروف بعدائه الشديد لمصر مدت أيديها في جنوب السودان واشتعلت حرب أهلية أدت لتوقف قناة جونجلي (كان من المنتظر أن توفر 30 مليارم3 وقيل أقل مع الفواقد) بعد أن أنجز أكثر من نصف أعمالها وهو النجاح الذي خلدته الرقابة العسكرية في إسرائيل بإصدار كتابها “مهمة الموساد في جنوب السودان”.

عوداً لسد النهضة، في 16 سبتمبر/أيلول 2012، وقعت الحكومة الإثيوبية اتفاقاً مع شركة الكهرباء الإسرائيلية تتولى الأخيرة بموجبه نقل الكهرباء المنتجة من سد النهضة وإدارة مرور المياه على النيل الأزرق لكافة السدود التي سيتم تشييدها لاحقاً، مما يعني ضمنياً سيطرة كاملة لإسرائيل على تدفق المياه لمصر، يلي ذلك اتفاق الحكومة الإثيوبية مع شركة جيجاوات جلوبل الإسرائيلية على استثمار 500 مليون دولار في مجال الطاقة المتجددة، وإعلان وزير الزراعة الإثيوبي “تفرا دبرو” أن 250 شركة إسرائيلية تقدمت بطلبات للاستثمار الزراعي في مارس/آذار 2014.

غير أن الدور الإسرائيلي اقتصر على التحريض أولاً والدعم الفني ثانياً، فمن أين أتت الدولة الإثيوبية الفقيرة بالتمويل؟ في بادئ الأمر واجهت إثيوبيا مخاضاً متعثراً لتوفير التمويل الكافي، فالصين تكفلت بقرض بقيمة 1.8 مليار دولار هي قيمة الإنشاءات التي تنفذها الشركة الصينية المسئولة عن التشييد، فيما سعت الحكومة الإثيوبية لتوفير الباقي عبر اكتتاب عام لمواطنيها  فلم يستجب الشعب مما جعلها تفرض استقطاعات إجبارية من رواتب العاملين وحوالات الإثيوبيين العاملين بالخارج ومع هذا لم تنجح سوى في توفير 15%  وتفاقم الوضع حين قلت الحوالات من إثيوبيي الخارج، فتعرض وضع النقد الأجنبي الهش لمزيد من الضغوطات حتى كاد أن يؤدي لتوقف كامل للمشروع.

مع وصول آبي أحمد للحكم في مارس/آذار تغير المشهد بالكلية، فكانت أولى زياراته بالشرق الأوسط للمملكة السعودية حيث قوبل الرجل بترحابٍ ملفت ووعودٍ باستثمارات مليارية في القطاع الزراعي على جانبي السد بل ووعدٍ بشراء طاقة كهربية عبر مشروع للربط مع جيبوتي واليمن، كما قدمت الإمارات أيضاً دعماً مالياً مهماً مكن أديس أبابا من إصلاح موقفها النقدي وتجاوز محنتها الدولارية وتوفير احتياطي نقدي مطمئن وسد العجز في ميزانها التجاري البالغ 8 مليارات دولار مما شجع صندوق النقد والبنك الدولي -بعد توقيع اتفاق 2015 مع مصر والسودان- على توفير قرض لإثيوبيا بقيمة 5.9 مليار دولار ومنحة 600 مليون دولار لتمويل السدود الكهرومائية.

ويطرح الدور السعودي الإماراتي في تمويل السد ودعم إثيوبيا الكثير من علامات الاستفهام، فكلتا الدولتين على علم يقيني بالآثار المدمرة للسد على مصر ومع هذا أقدمتا على تمويله ولو بشكل غير مباشر بدلاً من استغلال نفوذهما لصالح دعم الموقف المصري، وهو ما لا يمكن رؤيته سوى في سياق المناكفات السياسية والتنافس على قيادة المنطقة ورغبتهما في امتلاك مزيد من أوراق الضغط على أقوى دولة عربية عسكرياً وديموغرافياً وإرغامها مستقبلاً على السير في ركابهم على شاكلة البحرين.

لم يكن تحول الموقف السوداني بالأقل غرابة، فمنذ إعلان إثيوبيا إنشاء سد عملاق على النيل الأزرق عام 2001 حرصت السودان على الاصطفاف مع الموقف المصري حد التطابق، وفي وثيقة سربها موقع ويكيليكس عام 2013 جاء فيها موافقة البشير على طلب مصر في 26 مايو/أيار 2010 إنشاء قاعدة عسكرية في مدينة “كوستي” للقوات المصرية لتوجيه ضربة للسد، تحول الموقف الرسمي والإعلامي تماماً، وبدلاً من الحديث عن أضرار السد على 3 ملايين فدان تعتمد على طمي الفيضان والمزارع السودانية التي تعتمد على مياه الفيضان وسوف يضطر صغار المزارعين لاستخدام طلمبات رفع المياه واستخدام الأسمدة وإنشاء المصار وتأثيره علي الإنتاج السمكي من مياه النهر، خرج علينا وزير الخارجية السوداني إبراهيم الغندور في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ليقول إن السد سيمكن السودان من استخدام حصته كاملةً والتي كانت تأخذها مصر علي سبيل “السلفة” منذ 1959.

وقلل الرجل في حديثه من خطر غرق السودان في حال انهيار السد معللاً ذلك بأنه أمر غير وارد واستفاض بأن السد سيقلل كمية الطمي التي تصل السودان وينظم مرور المياه عبر سدوده مما يساهم في زيادة إنتاج الكهرباء من تلك السدود بواقع 20% سنوياً، ويمكن بلاده من شراء الكهرباء بأسعار تفضيلية بل والحصول على مقابل في حال تمرير الكهرباء حبر الشبكة السودانية لدول الجوار، معتبراً أنه قد حان الوقت كي يضع السودان مصالحه أولاً، وهو الموقف الذي لم يتغير عقب إسقاط البشير في أبريل/نيسان 2019، حين أفشل السودان الإجماع على مشروع قرار مجلس وزراء الخارجية العرب الخاص بدعم مصر في حفظ حقوقها المائية رداً على سد النهضة وأصر على تحفظه رسمياً في مارس/آذار 2020.

تناسى الوزير السوداني أن السد شيد على أرض طالما اعتبرها السودان أرضاً سودانية محتلة؛ فيما تستند إثيوبيا على اتفاقية موقعة عام 1902 تتنازل السودان بمقتضاها عن تلك الولاية وبحيرة تانا، وهي ذات الاتفاقية التي نصت أنه لا يحق لإثيوبيا تشييد أي أعمال على مجرى النيل دول الرجوع للسودان وموافقة الأخيرة.

إن المتابع لتطور ملف السد يجد أن أكبر علامات التعجب والاستفهام تنبع من الموقف المصري ذاته، ففي 30 أكتوبر/تشرين الأول 2013 خرج علينا رئيس الوزراء المصري حازم الببلاوي بتصريح تلفزيوني مثير معتبراً أن سد النهضة سيكون مصدر رخاء لدول حوض النيل، تصريح لم يكن أقل غرابة من اعتراف وزير الكهرباء المصري محمد شاكر في ندوة بنقابة المهندسين في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014، بأن هناك دراسات متعلقة بإمكانية شراء كهرباء سد النهضة (وأعاد الوزير ذاته التصريح في مؤتمر إفريقيا في شرم الشيخ في 9 ديسمبر/كانون الأول 2017) وصولاً لتوقيع وثيقة إعلان المبادئ في 2015 وهو ما يعني تخلي مصر طوعاً عن 12 اتفاقية مع إثيوبيا تحفظ لها حصتها في النيل (منها خمس موقعة في أوقات لم تكن إثيوبيا تخضع فيها لأي احتلال) ابتداءً ببرتوكول روما في أبريل/نيسان 1891 (مروراً باتفاقيتي 1929 و1959 والتي نصت صراحة على حصة مصر التاريخية وحق مصر في الفيتو للاعتراض على أي مشروع من شأنه الإضرار بمصالح مصر)، حتى إطار التعاون الموقع في القاهرة في يوليو/تموز 1993.

لم تتوقف علامات الاستفهام على المواقف المصرية عند هذا الحد، فتوجهت الدولة لنقل المياه عبر عدد من السحارات الجديدة -“سحارة ترعة السلام في 1 سبتمبر/أيلول 2017 وسحارة سرابيوم في 22 أبريل/نيسان الماضي”- لنقل المياه لشمال سيناء بغية التوسع الزراعي حالياً في ظل ما تمر به البلاد من أزمة مائية دفعتها لمنع زراعة عدد من الحاصلات الاستراتيجية كالأرز يثير التعجب، بخاصة في ظل علم مصر بسرقة إسرائيل لنحو 30 مليون م3 من مياه شمال سيناء الجوفية، طبقاً لتقرير مركز بحوث الصحراء الصادر 20 فبراير/شباط 2014.

تجد مصر نفسها اليوم وحيدة في مشهد صعب لقلما مرت بمثله في تاريخها المعاصر، رفض ومماطلة إثيوبية ورغبة في فرض سياسة الأمر الواقع طمعاً في مليارات الاستثمار الخليجي، وبعد خطيئة التوقيع على وثيقة إعلان المبادئ والسماح لإثيوبيا باستمرار البناء دون انتظار تقرير المكتب الاستشاري حول الآثار المترتبة على دول المصب -وهو ما مكنها من الحصول على تمويلات دولية ما كانت لتتم لولا التوقيع المصري- وتحويل محور المفاوضات لتركز على سنوات الملء دون التمسك بكامل حق مصر في حصتها التاريخية التي يحفظها لها القانون الدولي، لم يبق في جعبة مصر الكثير، فإما البحث عن استجداء تفاهم حول سنوات الملء عبر وسيط دولي آخر بعد الفشل الأمريكي، أو تحرك دولي عبر مجلس الأمن وهو ما تم في 7 مايو/أيار الحالي، وسخرت منه إثيوبيا مؤكدة أنه لن يجدي أو خيار عسكري ولو محدود قد يعيد إثيوبيا للتفاوض مرة أخرى أو يرغمها على عدم الإضرار بمصر، أو قبول مستقبل قد تكون مقارنةً به الشدةُ المستنصرية قبل نحو ألف عام أقلَّ وطأةً وأخفَّ قتامة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى