تقارير وملفات إضافية

“سنطيح بالقضاة والولاة”.. قصة تحول الرئيس البرازيلي من نقيب فاشل لمعشوق العسكريين، فهل ينقلبون على الديمقراطية لصالحه؟

يتبنّى الجيش البرازيلي تكتيكاً جديداً لتعزيز مكانته: تطوير لعبة فيديو للأطفال، يمكن فيها لجنود افتراضيين ارتداء اللون الأخضر الزيتوني الخاص بالجيش البرازيلي وإطلاق النار على الأشرار.

والهدف هو تلميع صورة الجيش بين شباب البلاد، لكن خوفاً من تصوير الجيش باعتباره مرتزقة جامحين، أَمَر قادته بـ”ألا تُظهِر اللعبة دماء كثيرة جداً”. ومُنِعَت كذلك المشاهد التي قد تؤدي إلى “أزمة مؤسسية”، وهو ما يعني عدم وجود قتال في العاصمة برازيليا، وبالتأكيد عدم وجود انقلابات.

ويشي الدخول إلى عالم ألعاب الفيديو بالكثير عن الدور الغامض على نحوٍ متزايد الذي يضطلع به الجيش في الحياة العامة البرازيلية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.

بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على نهاية الديكتاتورية العسكرية العنيفة، ظلَّت القوات المسلحة بعيدة عن المتاعب إلى حدٍّ كبير، وقدَّمت دعماً قوياً لمؤسسات البلاد الديمقرطية.

لكن كان ذلك قبل أن يُنتَخَب جايير بولسونارو، وهو نقيب سابق بالجيش ذو ميول يمينية، في عام 2018. إذ عيَّن بولسوناور عدداً كبيراً من أفراد الجيش السابقين في مناصب بحكومته. وبعدما بات منصبه الآن في خطر، أثار الرجل علانيةً فكرة حدوث صورة ما من تدخل الجيش في السياسة البرازيلية، بادّعائه في يونيو/حزيران الماضي، أنَّ القوات المسلحة لن تقبل “القرارات السخيفة” من المحكمة العليا أو الكونغرس البرازيليَّين.

نُظِر إلى هذه التصريحات باعتبارها رد فعل من جانب الرئيس على التحقيقات الجنائية المتعددة التي يواجهها هو وعائلته من أعلى محاكم البلاد، وهي التحقيقات التي يمكن أن تقود إلى بدء إجراءات عزله أو إبطال انتخابه في عام 2018.

لكن لم تكن هذه أول مرة يستدعي فيها الرئيس الجيش لمحاولة ترهيب خصومه. ففيما بدأت جائحة فيروس كورونا تجتاح البرازيل في أبريل/نيسان ومايو/أيار الماضيين، حضر الرئيس تجمعات انتخابية خارج القواعد العسكرية، طالب فيها أنصاره المتشددون بتدخل مسلح للإطاحة بحكام الولايات والقضاة والمشرعين الذين يفرضون إجراءات إغلاق.

لكن يبدو أنَّ بولسونارو يحاول حالياً تقليل التوتر السياسي، فهو يحاول إصلاح العلاقة مع المحكمة العليا، ونجح في تشكيل تحالف مع مجموعة أحزاب مثيرة للجدل في البرلمان، يقول المحللون إنَّه من شأنه صد الجهود المبذولة لإبعاده عن منصبه، على الأقل في الوقت الراهن.

لكن في ظل استمرار التحقيقات بخصوص أسرة بولسونارو، ودخول الاقتصاد على الأرجح في ركود جديد قد تكون البرازيل على وشك الدخول في حقبة جديدة من الاضطراب السياسي.

أثار هذا الوضع تساؤلات بشأن ماهية دور الجيش في المجتمع البرازيلي اليوم، وما هي علاقته ببولسونارو.

يُصِرُّ ضباط وجنود حاليون وسابقون، وكذلك شخصيات بارزة في المجال الدفاعي، على أنَّ القوات المسلحة لن تقوم مجدداً أبداً بذلك النوع من التدخلات العسكرية التي طبعت تاريخ البرازيل في القرن العشرين. ويجادلون بأنَّ الجيش سيلتزم بحماية النظام الديمقراطي في البلاد في حال اضطره بولسونارو لذلك.

لكن بالنسبة للمراقبين المدنيين، هناك ما يدعو للقلق، إذ يوجد أكثر من 6 آلاف من أفراد الجيش النشطين أو الاحتياط ملتحقين بالفعل بمناصب حكومية في إدارة بولسونارو –عددهم الآن في السلطة التنفيذية أكبر مما كان في عهد ديكتاتورية 1964-1985– يجلبون معهم عقلية عسكرية إلى الحكم المدني.

ويُعَد وزير الصحة الحالي جنرالاً في الخدمة، وقد اتبع أوامر بولسونارو بصرف عقار الكلوروكين غير الموثوق لمرضى فيروس كورونا.

يقول وزير الدفاع البرازيلي في حكومة الرئيس السابق ميشال تامر، راؤول جونغمان: “ما يقوله الرئيس هو: (معي السيف، وهذا السيف هو الجيش)”.

للقوات المسلحة جذور عميقة وممتدة في المجتمع البرازيلي، فحين أعلنت البرازيل الاستقلال عن البرتغال عام 1822، وقع عبء التخلص من الحاميات البرتغالية في البداية على الجيش، ثُمَّ لاحقاً القضاء على التمردات المحلية في أقاصي الإمبراطورية الوليدة.

وأدت العمليات الأخرى إلى ترسيم خرائط أعماق الأمازون المطيرة، وهو ما أسس الحدود الحالية للبرازيل وغرس في الجيش إحساساً بأسبقيته في إنشاء الدولة. يقول جنرال كبير سابق: “شاركت القوات المسلحة بصورةٍ ما في الحكومة خلال كل فترات الاضطرابات السياسية”.

استمرت هذه النزعة التدخلية طوال القرن العشرين، وبلغت ذروتها في انقلاب 1964، الذي أذِن بديكتاتورية عنيفة استمرت لعقدين.

استُعِيدت الديمقراطية عام 1985، لكن بعكس الجارة الأرجنتين، التي كانت الديكتاتورية فيها أكثر وحشية وحُوكِم جنرالاتها في محاكمات على غِرار محاكمات نورنبيرغ، تفاوض الجنرالات البرازيليون الراحلون عن السلطة على عفو واسع، ولم يُساءَل الجيش عن أي جرائم، بما في ذلك القتل والتعذيب.

وبما أنَّ الجيش البرازيلي لا يواجه تهديدات واضحة للدفاع الوطني، فإنَّه اتبع في السنوات الأخيرة مبادرات متنوعة، مثل مهمات المساعدة الإنسانية ومشروعات البنية التحتية. وبحسب البنك الدولي، تملك البلاد أكبر قوات مسلحة في أمريكا اللاتينية، تليها كولومبيا.

وساعد هذا التوجه الجيش على إعادة تأهيل صورته بعد الديكتاتورية، وعلى مدار معظم العقد المنصرم، أوردت استطلاعات المعهد البرازيلي للرأي العام والإحصاء الجيش إلى جانب الشرطة الاتحادية والإطفائيين ضمن أكثر المؤسسات موثوقية في البرازيل.

لكن هناك مخاطرة الآن بأن يُلطِّخ الكثير من الضباط الحاليين والسابقين الداعمين لبولسونارو في الحكومة تلك السمعة، لاسيما مع تعمُّق أزمة فيروس كورونا في البلاد.

يقول إدواردو كوستا بينتو، المتخصص في الدراسات العسكرية بالجامعة الاتحادية في ريو دي جانيرو: “إنَّهم يمارسون السياسة من خلال الخوف”.

اتَّسم سِجلّ بولسونارو العسكري بالجدل، فقد قضى 15 يوماً بأحد السجون العسكرية بتهمة العصيان عام 1986. ووصف إرنستو غيزيل، الجنرال الذي تزعَّم الديكتاتورية البرازيلية بين عامي 1974 و1979، بولسونارو ذات مرة بأنَّه “رجلٌ عسكريٌّ سيئ”.

غادر بولسنارو الجيش برتبة نقيب عام 1988، وبدأ مسيرة سياسية كعضو في البرلمان في ريو دي جانيرو، حيث كان يركز حصراً على حماية مصالح القوات المسلحة والسياسة العسكرية على مستوى الولاية.

وحين ترشَّح للرئاسة عام 2018، دعمه مئات الآلاف من الجيش والشرطة.

يقول جندي يبلغ من العمر 20 عاماً: “ننظر إليه باعتباره منقذاً، إنَّه أيقونة، هو الشخص المنشود”. ويقول عريف: “كلنا تقريباً ندعمه، يمكنني القول 95% منا”.

وحين انتُخِب، كافأ الرئيس هذا الدعم بتكديس حكومته بالشخصيات العسكرية، وهي خطوة أثارت على الفور المخاوف بشأن عودة الجيش إلى الحياة المدنية والسياسية.

يقول كارلوس فيكو، أستاذ الدراسات العسكرية بالجامعة الاتحادية في ريو دي جانيرو: “تعرَّضت جهود تأكيد السطوة المدنية على الجيش إلى الشلل مع (مجيء) بولسونارو”.

وبالنسبة للبعض، فإنَّ في الأمر محاكاة لفنزويلا الاشتراكية، فمنذ المحاولة الانقلابية التي أطاحت في عام 2002 بالرئيس هوغو تشافيز لفترة وجيزة، وهو مِظلّيُّ سابق، اكتظت حكومة البلاد بالجنرالات الموالين، في محاولة لخلق ما يدعوه الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، وهو مدنيّ، بـ”اتحاد مدني-عسكري”.

أدَّت المخاوف المتصاعدة في البرازيل إلى تحقيقٍ قضائي، وتحقق محكمة التدقيق الاتحادية في “الحضور المفرط للجيش في الخدمة المدنية العامة”.  

وقال القاضي المشرف، برونو دانتاس، في يونيو/حزيران الماضي: “أعتبر أنَّ من المهم أن يعرف المجتمع عدد العسكريين، ممّن في الخدمة أو خارجها، الذين يشغلون مناصب مدنية حالياً، نظراً للمخاطر التي قد يمثلها هذا والاختلافات بين النظامين المدني والعسكري”.

ضاعف صمت قيادة الجيش الحالية المخاوف المحيطة بنفوذ الجيش، ويُعتَقَد أنَّ كبار الضباط في الخدمة لا يشاطرون الضباط الأصغر نفس حماسهم تجاه بولسونارو، لكنَّهم لم يقولوا الكثير في مواجهة تجاوزات الرئيس.

يقول ألسيديس دا كوستا فاز، مدير الرابطة البرازيلية للدراسات الدفاعية: “في الرتب العليا، هناك ضباط ينظرون إلى الجيش باعتباره قوة دفاعية، ولا يرحبون بهذا التوغل في السياسة. لكن هؤلاء القادة العسكريين هم مَن يجب عليهم الآن تبديد المخاوف”.

في المقابل، يَنصبُّ التركيز على توجهات الجنرالات المتقاعدين الموجودين الآن في حكومة بولسونارو، بما في ذلك مستشار الأمن القومي، أوغستو هيلينو، الذي بدا في مايو/أيار الماضي أنَّه يهدد السلطات القضائية بـ”عواقب لا يمكن التنبؤ بها على الأمة”، نتيجة مساعي التحقيق مع الرئيس البرازيلي في اتهامات بالفساد.

يقول الأستاذ بينتو: “كان بولسونارو يُكنَّى بـ(الحصان)، لأنَّ الجميع كانوا يعتقدون أنَّهم يمكنهم امتطاؤه متى أرادو، وكانوا يعتقدون أنَّ بإمكانهم السيطرة عليه، لكن من الواضح الآن أنَّ هؤلاء الجنرالات خانعون للرئيس”.

لم يخفِ بولسونارو طوال مسيرته إعجابه بالديكتاتورية العسكرية في البرازيل، وأعطى صوته خلال تصويت الكونغرس البرازيلي على بدء إجراءات عزل الرئيسة السابقة ديلما روسيف، لواحدٍ من أسوأ جلّادي النظام صيتاً.

وصرَّح ذات مرة لصحيفة The Financial Times البريطانية قائلاً: “القوات المسلحة هي مَن يحدد ما إن كان بلدٌ ما سيشهد ديمقراطية أم لا”.

لكنَّ خطابه بدأ يتحول إلى أفعال في الشهور الأخيرة، حين بدأ يشارك في تجمُّعات تطالب بالتدخل العسكري لإغلاق المحكمة العليا والكونغرس. وتبنَّى بعض أنصاره زياً شبيهاً بالزي العسكري.

وتصاعدت التوترات إلى حدِّ أنَّ سيلسو دي ميلو، أحد قضاة المحكمة العليا، حذَّر من أنَّ البرازيل في وضعٍ مشابه لوضع جمهورية فايمار الألمانية، وأنَّ الرئيس يُحوِّل البلاد إلى “ديكتاتورية تعيسة”.

يدافع أولئك المقربون من القوات المسلحة بشدة عن الحياد السياسي للجيش.

لكن يشير محللون مدنيون إلى أنَّ الجيش كان عليه الرد بقوة حين ادَّعى بولسونارو أنَّ القوات المسلحة لن تقبل “الأوامر السخيفة” من المحكمة.

يقول حسين كَلوت، وزير الشوؤن الاستراتيجية في إدارة تامر: “إذا تجاهل بولسونارو قراراً من المحكمة العليا، ستفقد حكومته الشعبية، وسيعني ذلك نهاية سيادة القانون… بعض أفراد الجيش قد يحبون الأمر، لكنَّ مناصبهم غير ذات أهمية، القوات المسلحة كمؤسسة لن تدعم ذلك”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى