ثقافة وادب

كرَّمه السوفييت فتجسست عليه بلاده حتى الموت.. قصة الفنان الأمريكي بول روبسون

 قد تكون القصة غريبة بعض الشيء: لماذا سمَّت روسيا إحدى شركات
الطماطم فيها باسم فنانٍ أمريكي ذي بشرةٍ سمراء؟ في القصة تفاصيل مثيرة، ليس
أغربها هجرة نحو 20 ألف أمريكي إلى الاتحاد السوفييتي في الثلاثينيات. وتكشف هذه
القصة البسيطة إلى أي مدى أصبح الصراع بعد الحرب العالمية الثانية بين موسكو
وواشنطن، وفق ما ذكره موقع مجلة Atlas Obscura الأمريكية.

في عام 1990، أسست مارينا دانيلنكو شركة بذورٍ زراعية مع والدتها،
وقد كانت مارينا بصفتها مالكة أول شركة بذور زراعية خاصة في موسكو قبيل انهيار
الاتحاد السوفييتي، وكانت الطماطم من بين اختصاصات شركة مارينا، إذ كانت والدتها
واحدة من “جامعي الطماطم” في روسيا.

كانت روسيا، في تلك الأيام، تحتل المرتبة الـ12 عالمياً في إنتاج
الطماطم. وعلى الرغم من أن روسيا تأتي في أسفل القائمة إلى حدٍّ كبير في إنتاج
الطماطم، فقد كانت الطماطم تحظى بشعبيةٍ كبيرة في البلاد وتُزرع في نحو 90% من
الحدائق المنزلية، إذ يكثر استخدامها في المطبخ الروسي باعتبارها مكوناً أساسياً
لمختلف أنواع الحساء والصلصات، فضلاً عن أن الطماطم المخللة تؤكل على مدار العام
في روسيا.

حملت أنواع الطماطم الروسية المختلفة أسماء مثيرة، فهناك طماطم
“روسيا الأم” وطماطم “رجل البحر الأسود”، لكن ربما أكثرها
غرابة هو نوع طماطم يُعرف باسم “بول روبسون”، نسبةً إلى اسم المغني
والممثل والناشط الحقوقي الأمريكي من أصل إفريقي: بول روبسون.

وقد أصبحت زراعة هذا النوع من الطماطم، الذي يحمل اسمه، شيئاً مفضلاً
في الحدائق الأمريكية لاحقاً.

وُلد بول روبسون عام 1898، لأبٍ كان مستعبَداً فترة وأُمٍّ من عائلة
“Quaker” النافذة. حصل روبسون في أثناء دراسته بجامعة روتجرز
الأمريكية على 15 جائزة تميُّز في مجموعة متنوعة من الألعاب الرياضية، وتخرَّج
بتفوق.

والتقى في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا زوجته المستقبلية، إيسلاندا
غود، التي شجعته على دخول عالم التمثيل. فقد كان روبسون معروفاً بالفعل في أنحاء
مجتمع البشرة السمراء كافة بنيويورك بصفته مغنياً.

عمِل روبسون في مجال القانون فترةً وجيزة، لكنه استقال من وظيفته في
الشركة، بسبب رفض سكرتير أبيض البشرة أن يأخذ أوامر منه!

أما عن مشواره الفني المسرحي، ففي أثناء دراسته بكلية الحقوق، أدى
روبسون دوره الرئيسي الأول في مسرحية “Simon of
Cyrene”.
وفي عام 1924، أدى دور البطولة في مسرحية “All God’s Chillun Got
Wings”
للكاتب الأمريكي أوجين أونيل، والتي كانت سبباً في إسناد أدوار رئيسية أخرى إليه
في مسرحيتي “Othello ” و”The Emperor Jones”.

مع ذلك، ربما جاءت شهرة روبسون الأوسع من خلال أدائه أغنية “Ol’ Man River” في المسرحية
الموسيقية “showboat”، التي أداها روبسون على خشبة المسرح وفي السينما.

بعد أن نجح في تحقيق حلمَي الشهرة والثروة، أصبح روبسون مهتماً أكثر بحقوق العمال في أمريكا، لا سيما أصحاب البشرة السمراء القادمين من الجنوب. وسرعان ما وجد نفسه يتعاطف مع القضايا “الشيوعية” في جميع أنحاء العالم!

حتى إنه عندما سافر إلى موسكو في عام 1934، قال: “لا أشعر هنا
بأنني زنجي ولكنني إنسان، لأول مرة في حياتي!”.

تعرَّض روبسون للهجوم من النازيين خلال رحلته إلى ألمانيا، قبل أيامٍ
فقط من سفره إلى موسكو. وفي المقابل، حظِي في الاتحاد السوفييتي باستقبالٍ حافل من
جماهير مُحبّة له.

في الوقت نفسه كان الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين يروج للاتحاد
السوفييتي باعتباره مكاناً للفرص والمساواة بالنسبة للأمريكيين المضطهدين من أصولٍ
إفريقية. وفي نهاية المطاف، سافر نحو 18 ألف أمريكي من أصلٍ إفريقي إلى الاتحاد
السوفييتي في ثلاثينيات القرن العشرين.

وبحلول الأربعينيات أصبح روبسون ناشطاً سياسياً، وأعرب عن تأييده
لإنشاء الاتحادات العمالية باعتبارها ضرورية لحفظ الحقوق المدنية، وأدان التمييز
والعنف ضد الأمريكيين من أصولٍ إفريقية.

وأخيراً، بسبب انتمائه إلى مجلس الحقوق المدنية ومجلس الشؤون
الإفريقية، أصبح روبسون مستهدَفاً من لجنة الأنشطة غير الأمريكية، التابعة لمجلس
النواب الأمريكي.

رفضت وزارة الخارجية الأمريكية تجديد جواز سفر روبسون في عام 1950،
مشيرةً إلى أن “انتقاده المتكرر لمعاملة ذوي البشرة السمراء في أمريكا لا
ينبغي بثه علناً في دولٍ أجنبية”.

ولاحقاً أدلى روبسون بشهادته أمام الكونغرس عام 1956، بعد أن رفض
التوقيع على إفادةٍ خطية يقر فيها بأنه لم يكن شيوعياً. وعندما سُئل عن سبب عدم
بقائه في الاتحاد السوفييتي، أجاب روبسون: “سأبقى هنا في أمريكا، لأن والدي
كان عبداً ومات أهلي وقومي من أجل بناء أمريكا، أنا جزء من هذه الأرض ولديّ حقٌّ
فيها، مثلكم تماماً”.

وعلى الرغم من شجاعته، فقد ألقت جهود روبسون النضالية بظلالها
المدمرة على حياته. عانى روبسون من نوبات اكتئابٍ حادة وحاول الانتحار عدة مرات في
سنواته الأخيرة. ويعتقد نجله أن تلك المعاناة كانت بسبب سنواتٍ من المضايقات
والمراقبة الحكومية. وقد توفي روبسون، بعد سنواتٍ من العزلة عام 1976، عن عمرٍ
ناهز 77 عاماً.

في وقتٍ لاحق، وبعد أقل من عقدين من الزمن، سافرت مارينا دانيلنكو في
زيارة لأمريكا؛ للالتحاق ببرنامج إرشادي، لأن معظم الروس لم يعرفوا كيفية إدارة
نشاط تجاري بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي عام 1992، زارت مارينا شركة لإنتاج
وبيع البذور في بلدة مينرال بولاية فرجينيا الأمريكية لمدة ثلاثة أيام؛ للتعرف على
كيفية عمل شركات البذور.

وعلى مدار زيارتين لأمريكا، تبرعت مارينا بـ170 نوعاً من الطماطم
الروسية لمنظمة Seed Savers Exchange، من ضمنها نوع طماطم يسمى “بول روبسون”. في المقابل،
قدَّم جيف ماكورماك، مؤسس شركة Southern Exposure Seed Exchange، هذا النوع من الطماطم
للجمهور الأمريكي عبر فهرس المنتجات الخاص بشركته.

على الرغم من أنه لا أحد يعرف المسؤول عن تطوير أو تسمية هذا النوع
من الطماطم، فإنه يمكن بسهولةٍ تخمين أن الاسم مشتق من لونها بمجرد أن تنضج، وتتسم
طماطم “بول روبسون” بنكهة مميزة ومذاق حلو مدخن.

فتتميز طماطم “بول روبسون” بلونها الأحمر الداكن، وتأخذ في
كثيرٍ من الأحيان درجات اللون الأسود. وكلما زادت حرارة الجو صيفاً، زادت درجة
اللون الأسود. وتعد هذه التسمية أيضاً تكريماً لذكرى بول روبسون، الذي ظل محبوباً
في روسيا.

وقد حاز روبسون جائزة ستالين للسلام عام 1952، وهي أعلى امتياز فخري
في البلاد. وقد ذكر مقالٌ نُشر في مجلة “Krugozor” الروسية في عام
1964، أنه “من سمع صوت بول روبسون مرة واحدة على الأقل فلن ينساه أبداً. نحن
نعرف جيداً هذا الرجل الحكيم صاحب الابتسامة الطفولية، المغني الرائع والمواطن
الشجاع، الذي أصبح اسمه رمزاً لمناضل من أجل الحرية”.

ظلت أعمال روبسون الفنية ونشاطاته في مجال الحقوق المدنية تتردد
أﺻﺪاؤها بعد فترةٍ طويلة من وفاته، على الرغم من أن حكومته كثيراً ما شوَّهت سمعته
في أثناء حياته.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى