تقارير وملفات إضافية

تركت كل شيء وسارعت لإنقاذ الجرحى.. تفاصيل مؤلمة للزفافين اللذين أطاح بهما تفجير بيروت

هكذا كان يُفترض أن يسير اليوم:  ترتدي إسراء سبلاني وهناء فنوس فستانين أبيضين، بينما يرتدي أحمد صبيح وأمين شملي بدلاتٍ سوداء وربطات عنقٍ. الأهل والأصدقاء حاضرون، والكثير من الطعام الفاخر، قبل أن يطيح تفجير بيروت بكل شيء. 

كانت حفلتا الزفاف هاتان حلماً لكل زوجين من الأزواج الأربعة لسنواتٍ، حتى في الوقت الذي بدا فيه أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان ووباء فيروس كورونا المستجد قد اتحدا لتعطيل الزيجتين.

كان الرابع من أغسطس/آب يسير على ما يرام حتى حوالي السادسة مساءً بتوقيت بيروت، حين شعر كل زوجين -أثناء التموضع لالتقاط الصور في نفس الحي بوسط المدينة- بالأرض تهتز من تحتهما، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية. 

تقول إسراء، الطبيبة البالغة من العمر 29 عاماً والمقيمة في مدينة تروي بولاية ميتشيغان الأمريكية، في لقاءٍ أجرته بعد الانفجار: “خطر في بالي شيءٌ واحدٌ فقط وهو: إسراء، ستموتين الآن. أحلامي والأشياء التي أردنا أن نخوضها معاً كانت تطير مع شظايا الزجاج المتطايرة”.

وتابعت: “سألت الله شيئاً واحداً، لو أن لي أن أحظى بدقيقةٍ أو ثانيةٍ لأمسك بأيدي والدي وأودعهما”.

أصاب الانفجار الذي هز أرجاء بيروت الأسبوع الماضي كل مناحي الحياة في العاصمة اللبنانية بالاضطراب، بما في ذلك جلستا التصوير الخاصة بالزفافين. وجد المصورون الذين استؤجروا لالتقاط صور الزفافين أنفسهم بدلاً من ذلك يوثقون أكثر اللحظات رعباً في حياة الأزواج، فيما راحوا يركضون للاحتماء من المباني المنهارة وصفعات الشظايا الزجاجية.

لم يكن الأزواج يعرفون بعضهم البعض، لكنهم لاحظوا بعضهم عبر الميدان المزدحم قبل الانفجار بقليلٍ، حين نادى شملي، 28 عاماً، على صبيح، مازحاً حول أنهما لن يعودا عازبين بعد اليوم. لم ير أي منهما الآخر بعدها إلا على الإنترنت، حين انتشر مقطعان متشابهان بشكلٍ مخيفٍ يُظهران كيف أُفسدت جلستا التصوير الخاصة بالزفافين. جمعت التجربة المشتركة الأزواج للأبد وأصبحوا أيقونةً للدمار الذي اجتاح المدينة.

خلف الانفجار أكثر من 170 قتيلاً وآلاف الجرحى. وقد أُرجع فيما بعد لحريقٍ بمستودعٍ كان يضم 2750 طناً مترياً من نترات الأمونيوم مخزنةً فيه بطريقةٍ غير مناسبةٍ لسنواتٍ.

باجتياح الموجة الصدمية للمدينة ركضت إسراء وصبيح إلى مطعمٍ قريبٍ حيث تحركت غريزة الطبيبة لدى إسراء تلقائياً، وبدأت في مداواة الجرحى.

تقول إسراء: “لم أفكر في نفسي أو في والدي أو في كيف سنخرج من هذا المكان أو أي من هذا. إن معطف المعمل أبيض وفستاني كان أبيض، لكن فقط… الشكل هو ما اختلف”.

لكن عقلها جال في أمر العروس الأخرى التي رأتها قبل دقائق.

تقول: “من أوائل الأفكار التي دارت في رأسي حين دخلت المطعم وبدأت أساعد الناس كانت: ما الذي حل بالعريسين الآخرين؟”.

كان شملي، الذي غطت شظايا الزجاج شعره وظهره، يحمل عروسه المصدومة نصف الطريق إلى خارج المشهد، بعدما مُزق فستانها وغطته الأوساخ والغبار. تقول هناء، 27 عاماً: “كل شيءٍ كان مدمراً، وكان المصابون على الأرض. كان موقفاً فظيعاً”.

لم تُصب أي من العروسين ولا عريساهما بأية إصاباتٍ بالغةٍ. لكن لكلا الزفافين كان الانفجار العقبة الأخيرة في رحلةٍ طويلةٍ للزواج.

التقت هناء بعريسها أيمن شملي عام 2011 عندما كانا يعملان في فندقٍ في بيروت، المكان نفسه الذي كانا ينويان عقد الزفاف فيه بعد نحو عقدٍ من لقائهما الأول. في البداية لم تكن ودودةً معه، لكن بعدما أظهر بعض التصرفات اللطيفة البسيطة، كأن دافع عنها في خلافٍ في العمل، وأوصلها إلى المشفى بعد حادثةٍ ما، رأت فيه شريكاً محتملاً، وسرعان ما وقعت في غرامه. ولقد ساندا بعضهما البعض في منعطفاتٍ جامعيةٍ ومهنيةٍ، وفي عام 2015 بدآ يخططان للزفاف.

تقول هناء: “كانت لدي خططٌ كبيرةٌ، أردت أن أبدو جميلةً كالأميرات وأن تتجه كل الأعين إليّ”.

أما إسراء وصبيح فقد التقيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 في مقهى ستاربكس في بيروت حيث اعتادت إسراء، طالبة الطب آنذاك، أن تجلس للمذاكرة، لساعاتٍ طويلةٍ في بعض الأيام. دلف صبيح إلى المكان ذات يومٍ مع صديقٍ له ولمحها تجلس في إحدى الزوايا تكتب. وفوراً غمرته رغبةٌ في تقديم نفسه لها.

يقول: “شعرت أنني وقعت في حبها. شيءٌ ما في عقلي قال لي أن أذهب وأتكلم معها… هي من تبحث عنها”.

في البداية تفاجأت إسراء من جرأته، حتى أنها رمقته بنظرة ازدراءٍ. لكنها في نهاية المطاف أعطته رقم هاتفها.

تقول: “ثم بدأت قصتنا”.

انتقلت إسراء إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2017، لكن مشكلاتٍ بالحصول على التأشيرة منعت صبيح، الذي يمتلك متجري ملابس في بيروت، من اللحاق بها. صمد حبهما، لكن الاحتجاجات في لبنان، ووقف حركة الطيران والإغلاق الكلي الذي فُرض أثناء الوباء كانت أسباباً أجلت خطط زفافهما.

وحين عادت إسراء إلى بيروت أخيراً في يوليو/تموز الماضي كانت الأزمة الاقتصادية اللبنانية تزداد سوءاً، وكان الوباء ينتشر بسرعةٍ في كل أنحاء العالم. تقول إسراء: “كان الأمر وكأننا نتحدى العالم بأسره”.

لكنها تقول إنهما كانا قد اتفقا مبكراً على أن “يتزوجا مهما كان الحاصل. سنفعلها”.

كانت الأزمة الاقتصادية والوباء يؤخران كذلك زفاف هناء وشملي مرةً تلو الأخرى، قبل أن يستقرا أخيراً على الرابع من أغسطس/آب.

لذا كانت صدفةً بحتةً أن ينتهي الأمر بالأزواج الأربعة -الذين يترقب كل منهم بفارغ الصبر زفافه والحفلة التي تنتظره في الفندق- في نفس المكان ذلك المساء.

تقول هناء عن إسراء: “لا شك أنها كانت تحلم بهذا اليوم طيلة حياتها كما كنت أحلم أنا به. لا شك أنها أرادت الاحتفال، وأرادت أن ترى فرحة أهلها بها؛ فتلك ليلةٌ واحدةٌ بالعمر”.

وتقول إسراء: “لدينا الآن تلك القصة المشتركة، والرابط الذي سيظل موجوداً دائماً”.

يُذكر أن كلا الفندقين قد تضرر وكلا العرسين قد أُلغي. لم تكن هناك كعكةٌ ولا رقصٌ. لكن كل الأزواج الأربعة يشعران بامتنانٍ لنجاة أهلهم جميعاً، وقرروا إتمام الزفاف على أي حالٍ. فقد تعبوا من الانتظار.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى