ثقافة وادب

ماذا حدث لوكالة الاستخبارات “كي جي بي” حين انهار الاتحاد السوفييتي؟

إذا كنت شاهدت مسلسل “The Americans”، لا بد أنه لفت انتباهك قصة الزوجين اللذين يعيشان بضواحي واشنطن في نهاية الثمانينيات، واللذين يكافحان من أجل التكتُّم على سرٍّ مظلم. إنهما في الحقيقة عميلان لوكالة الاستخبارات “كي جي بي”، الوكالة الاستخباراتية السوفييتية التي تصارعت سراً مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وغيرها من أجهزة الاستخبارات الغربية لعقود.

كانت الـ”كي جي بي” -وهو اسمٌ مُختَصَرٌ للجنة أمن الدولة باللغة الروسية- ذائعة الصيت خلال تلك السنوات، لبراعتها في اختلاس المعلومات السرية واغتيال أعدائها بالخارج، علاوة على سحق المعارضة الداخلية. 

كانت عمليات هذا الجهاز هي ما وفَّرَت مادةً قيِّمة لكثير من الأفلام وروايات الإثارة، مثلما في أعمال الروائيَّين جون لو كاريه ومارتن كروز سميث، وفق ما نشره موقع how stuff works.

بعد أن اختفى الاتحاد السوفييتي من الوجود في عام 1991، وأُزيحَ عَلم المنجل والمطرقة من على مبنى الكرملين وحلَّ محلَّه العَلم ثلاثي الألوان لروسيا الفيدرالية، حلَّ أول رئيسٍ للدولة الجديدة، بوريس يلتسن، الوكالة وفرَّقَ مهماتها على كثير من القطاعات الأخرى بالحكومة الجديدة. 

ومع ذلك، يقول خبراء استخباراتيون إن الوكالة لم تتلاشَ قط؛ وفي المقابل، مثلما تفعل الوكالات الاستخباراتية دائماً، ظهرت مُجدَّداً في صورة جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، “إف إس بي”. 

واليوم، مع رئاسة فلاديمير بوتين، العميل السابق بالـ”كي جي بي” ورئيس الـ”إف إس بي”، يبدو أن الوكالة التي كان اسمها في السابق “كي جي بي” استعادت كثيراً من قوتها القديمة. 

وهذا ما أكده مسؤول مُخضرَمٌ في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خَدَمَ بموسكو في التسعينيات، وأصبح لاحقاً نائباً لبرنامج روسيا العالمي بمقر الاستخبارات الأمريكية؟

يدعى هذا المسؤول جون سيفر، الذي بدوره قال: “هذه الآن هي الأداة المُفضَّلة لدى بوتين”. 

وساهم سيفر في إلقاء القبض على عميل مكتب التحقيقات الأمريكية (إف بي آي) الذي تجسَّسَ لصالح الاتحاد السوفييتي وروسيا، روبرت هانسن. 

ومنذ أن تَرَكَ سيفر الوكالة، أصبح كاتباً واسع الانتشار عن الشؤون الاستخباراتية، وهو مؤسِّسٌ مُشارِكٌ بشركة Spycraft Entertainment، وهي شركة إنتاج عالمية تعمل مع مسؤولين استخباراتيين سابقين لتطوير مشاريع إعلامية، مثل الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والمدونات الصوتية. 

وكما يوضح سيفر، تعود جذور الـ”كي جي بي” والـ”إف إس بي” إلى تلك الفترة التي أعقبت تأسيس الاتحاد السوفييتي بوقتٍ قصير. 

في ديسمبر/كانون الأول 1917، أسَّسَ الزعيم السوفييتي فلاديمير لينين جهازاً شرطياً سرياً يُدعى التشيكا. 

يقول سيفر: “أطلقوا على أنفسهم سيف الثورة المُعاقِب، وكان هدفهم هو إبقاء القيادة في السلطة”. 

وجزءٌ من هذه المهمة هو إلقاء القبض على الخصوم المُحتَمَلين وسجنهم، وإبقاء السُكَّان تحت المراقبة، وممارسة الرقابة لمنع الأفكار المُعارِضة من الانتشار. 

علاوة على ذلك، تفرَّعَت تلك المنظمة وخليفاتها إلى عمليات التجسُّس خارج حدود الاتحاد السوفييتي، من أجل التصدي لأيِّ ضرباتٍ تُوجَّه للنظام من أعدائه الخارجيين. 

ورغم تغيُّر اسم المنظمة عدة مرات عبر السنين، ظلَّت تؤدي الأمور نفسها منذ تأسيسها، بحسب سيفر، الذي يضيف: “حتى مسؤولو الاستخبارات في روسيا اليوم يفخرون بأنهم أبناء للتشيكا، ويُجهِّز بوتين نفسه ليكون موجوداً بموسكو في يوم التشكيا، 8 ديسمبر/كانون الأول من كلِّ عام”. 

طوَّرَت المنظمة استراتيجياتٍ وتكتيكاتٍ ماكرة لسحق المعارضة. في وقتٍ مُبكِّرٍ من عُمر الاتحاد السوفييتي السابق، على سبيل المثال، تكاتَفَ أنصار الحكم القيصري والاشتراكيون ومُناهضو الشيوعية، الذين أرادوا إفشال النظام، في تنظيمٍ واسع يُدعى “الاتحاد الملكي لروسيا المركزية”. 

وما لم يدركه هؤلاء إلا بعد وقتٍ متأخِّرٍ للغاية، أن ذلك الاتحاد كان حيلةً، أو طُعماً، أنشأته السوفييتات نفسها. 

يقول سيفر: “لقد خلقوا أعداءهم بأنفسهم، وخلقوا حركة المقاومة ضدهم بأنفسهم أيضاً”. ويضيف: “لذا كانوا يعرفون الجميع، وفي نهاية المطاف قتلوهم جميعاً”. 

وخلال الحرب العالمية الثانية، كان الجواسيس السوفييت فعَّالين بصورةٍ استثنائية في شقِّ طريقهم إلى مشروع مانهاتن، وهو المشروع الأمريكي الذي طوَّرَ القنبلة الذريَّة. 

يقول سيفر: “كانوا على علمٍ بعملية بناء القنبلة الذرية أكثر من الرئيس ترومان نفسه”. 

وهذه السرقة الجاسوسية للأسرار مكَّنَت الاتحاد السوفييتي في نهاية المطاف، من أن تكون لديه قنبلته الذرية بصورةٍ أسرع مِمَّا كان في إمكان علمائهم، ما أبطَلَ الميزات التي ربما كانت الولايات المتحدة ستتفوَّق بها على الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين. 

يوضح كالدر والتون، الزميل الباحث بمشروع الاستخبارات في كلية كينيدي الحكومية بجامعة هارفارد، ومُحرِّر كتاب “Cambridge History of Espionage and Intelligence”: “كان التجسُّس الذري السوفييتي من الأمور القليلة التي غيَّرَت مباشرةً تاريخ العالم”.

يعمل والتون أيضاً على كتابٍ يصدر قريباً عن الصراع بين الاستخبارات البريطانية والأمريكية والسوفييتية خلال الحرب الباردة. 

وإضافةً إلى العملاء الذين عملوا دبلوماسيين مبعوثين في السفارات، يقول سيفر إن السوفييت نشروا أيضاً بعض “غير الشرعيين”، وهؤلاء كانوا عملاء بهوياتٍ جديدة تنكَّروا في أصولٍ وطنية أخرى. 

على سبيل المثال، بعد غزو فنلندا في الحرب العالمية الثانية، بحث المسؤولون السوفييت في السجلات الفنلندية عن أطفالٍ رُضَّع ماتوا بعد ولادتهم بوقتٍ قصير، ثم سرقوا هوياتهم، واستخدموها مضيفين إليها مزيداً من الوثائق لبناء ما يُسمَّى بـ”الأسطورة”. 

يوضح سيفر قائلاً: “هذا الشخص المُزيَّف كان سيسافر مُدَّعياً أنه رجل أعمالٍ فنلندي”. 

غير أن فاعلية الجواسيس السوفييت كانت محدودةً بحدود قدراتهم على إقناع ستالين بأن معلوماتهم أكثر موثوقيةً من افتراضاته. 

وكما يُفصِّل سيفر في مقالته بمجلة The Atlantic الأمريكية، فإن من المعروف أن الزعيم السوفييتي رَفَضَ الاستجابة للتحذير الذي أدلى به الجاسوس السوفييتي ريتشارد سورجه، الذي كان يعمل متخفياً في هيئة صحفيٍّ ألماني باليابان، حول توقيت خطة هتلر لغزو الاتحاد السوفييتي في العام 1940. 

أُعيدَ تنظيم وكالة الاستخبارات السوفييتية في العام 1954، وأصبحت رسمياً الـ”كي جي بي”، لكنها واصلت المهمة نفسها. 

وخاض أعضاؤها الـ250 ألفاً، وهو العدد الأكبر كثيراً من قوة العمل الاستخباراتية في أيٍّ من وكالات الاستخبارات الغربية، في مهماتٍ مترامية الأطراف بالخارج، من التجسُّس إلى المراقبة الإلكترونية إلى فكِّ الشيفرات إلى حملات التضليل المعلوماتي ضد الأعداء الأجانب. 

لكن الوظيفة الأهم للوكالة ظلَّت تتمثَّل في سحق أيِّ شخصٍ قد يتحدَّى القادة الشيوعيين داخل الاتحاد السوفييتي. 

يوضح والتون قائلاً: “من السهل التفكير في هذا الجهاز كوكالةٍ استخباراتية، لكن الأمر لم يكن على هذا النحو”. 

ويضيف: “كانت تلك شرطةً سرية. كانت لديها قدراتٌ خارجية، وغرضها الرئيسي هو قمع المعارضة الداخلية. كانت مُصمَّمة منذ البداية لتكون سيفاً ودرعاً للحزب، لضرب أعدائه في الداخل والخارج، وللدفاع عن النظام”. 

ولسحق أيِّ مقاومةٍ داخلية، أدارت وكالة الـ”كي جي بي” كلَّ شيءٍ في البلاد، من حرس الحدود إلى معسكرات الغولاغ، وهي معسكرات العمل القسري التي سُجِنَ فيها ملايين الروس. 

على مدار عقود استمرت الـ”كي جي بي” أيضاً في زرع الجواسيس بنجاحٍ في أماكن مرموقة، من بينهم المسؤول المخضرم بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ألدريتش أميس، الذي اعترف بتهمة الجاسوسية عام 1994. 

لكن، رغم تلك النجاحات ظل تأثيرها محدوداً، بحسب الخبراء. 

خلق ميل ستالين إلى إعدام القادة الذين يأتونه بأخبارٍ لا يُريد سماعها ثقافةً مُحافظةً لا يُريد أحدٌ فيها أن يتحدث بالحقيقة للقيادة. 

يقول والتون: “وفرت كي جي بي بشكلٍ أساسيٍّ معلوماتٍ استخباراتيةً تماشت مع هوى القادة السوفييت المتعاقبين، بحيث كانوا ينظرون إلى معلوماتٍ تؤكد رؤيتهم المسبقة للعالم”.

لكن الـ”كي جي بي” كانت على خلافٍ مع قائدٍ سوفييتيٍّ واحدٍ. 

بعد اعتلائه السلطة في أواسط الثمانينيات لم تنل سياسات الإصلاح التي جاء بها ميخائيل غورباتشوف استحسان مسؤولين سوفييت آخرين. 

إذ قاد مدير الـ”كي جي بي” فلاديمير كريتشكوف محاولة انقلابٍ عسكريٍّ على غورباتشوف، وهي المحاولة التي تحكي التقارير أنه وأدها في مهدها حين باغت المنقلبين في اجتماعٍ بأحد حمامات موسكو، وفقاً لتقرير الصحفي فيكتور سباستيان الذي نشره في صحيفة New York Times عام  2011. 

فشل هذا الانقلاب وتفكك الاتحاد السوفييتي.

مع أن الحكومة الجديدة قد حلت وكالة “كي جي بي” تماماً، ظل عناصرها يؤدون الأعمال نفسها تحت المسميات الجديد للوكالة. 

يقول والتون: “ظل اسم كي جي بي موجوداً، لكنها لم تؤد  الوظيفة نفسها، وسرعان ما عادت للعمل بأسماء الإف إس بي والإس في آر (خدمة الاستخبارات الأجنبية)”.

يفسر سيفر ذلك قائلاً: “قسّم يلتسن الوكالة، وكانت هناك رؤية لإمكانية تغيرها، لكن ذلك لم يحدث”. 

جاء يلتسن برئيسٍ جديدٍ، بغرض فرض التغيير، لكنه لم يستمر طويلاً، مضيفاً: “رأينا ذلك في الشوارع، من الطريقة التي عاملت بها الاستخبارات الروسية الناس أن شيئاً لم يتغير”.

في نهاية المطاف قدّم جهاز الاستخبارات خليفةً ليلتسن. 

بوتين، الذي انضم إلى الـ”كي جي بي” في أواسط السبعينيات بعد أن استحوذت عليه قصة فيلم إثارةٍ يحكي عن جاسوسٍ روسيٍّ شجاعٍ في الحرب العالمية الثانية، وتمكن من الارتقاء في المنظمة إلى أن نال أخيراً تكليفه الخارجي الأول، في درسدن الواقعة بما كانت حينها ألمانيا الشرقية الشيوعية، قُبيل انهيار الاتحاد السوفييتي. 

يرى سيفر أنه خرج من ذلك باعتقاد أنه “حين احتاجت الدولة السوفييتية أن تكون قويةً تقرع الرؤوس لم تستطع، وتداعت”.

ترقى بوتين في نهاية المطاف ليُصبح رئيساً لوكالة الـ”إف إس بي” الجديدة تحت إمرة يلتسن، الذي خلفه كرئيسٍ لروسيا عام 2000. 

وتحت قيادة بوتين أخذت قطاعات الوكالة القديمة تتحد بشكلٍ متزايدٍ، ما قاد إلى تقارير إخباريةٍ تُشير إلى أنه يُفكر حتى في دمج الوكالات الأخرى مع الـ”إف إس بي” رسمياً. 

ومع أن ذلك لم يحدث، فإن الأقسام المتنوعة لمجتمع الاستخبارات الروسي -ومن بينها وكالة الاستخبارات العسكرية (جي آي يو)- باتت تعمل كلها بتنسيقٍ لدعم سيطرة بوتين على السلطة. 

يُفسر سيفر ذلك قائلاً: “كلهم يعملون لصالح الكرملين”.

يوافقه والتون على ذلك. يقول: “الحدود الفاصلة بين الجي آر يو والإف إس بي وإس في آر ليست واضحةً أبداً”.

تضمنت الجهود الاستخباراتية الروسية الرامية إلى التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، والموثقة في تقرير عام 2019 الصادر عن المحقق الخاص روبرت مولر، حيلاً تنوعت من نشر رسائل بريدٍ إلكترونيٍّ مسروقةٍ إلى استخدام حساباتٍ مفبركةٍ لإغراق فيسبوك وتويتر برسائل تهدف إلى نشر الكراهية بين الأمريكيين. 

وقد انتحل العملاء الروس شخصيات أعضاء في حزب الشاي الأمريكي مثلاً، ومتظاهرين في حركة حياة السود مهمة أو Black Life Matters.

وفيما صُدم كثيرٌ من الأمريكيين بمعرفة أن قوةً أجنبيةً حاولت التدخل بهذه الطريقة، يقول سيفر إن تلك مجرد حركةٍ من كتاب تعليمات الـ”كي جي بي” القديم. 

ويقول إن وكالة “إف إس بي” حاولت فعل الأمر ذاته في الثمانينيات بشن حملةٍ من الشائعات زرعت فيها قصصاً في الصحافة الدولية، تحكي عن أن البنتاغون قد خلّق فيروس الإيدز ليستخدمه ضد الدول النامية. 

والأمر المختلف اليوم هو أن التكنولوجيا تُسرع العملية. 

ويقول: “الآن بدلاً من أن يستغرق الأمر أربع إلى خمس سنواتٍ لنشر المعلومة، يُمكنهم استخدام العملاء وبرامج المحادثات الآلية لبث 100 ألف كذبةٍ في الساعة”.

يُسلط والتون الضوء على تاريخ أسلوب “التضليل” السوفييتي في الانتخابات بمقاله الذي نشره في دورية the Brown Journal of World Affairs.

بالمثل، يُشير والتون أيضاً إلى اغتيال ألكسندر ليتفينيكو، الجاسوس السابق لصالح الـ”إف إس بي” عام 2006، الذي قُتل بجرعةٍ من عنصر البولونيوم 210 المُشع يُعتقد أنها دُست له في الشاي، وإلى محاولة اغتيال العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال عام 2018 بسمٍّ للأعصاب في منزله بالمملكة المتحدة.

ويقول إن كلتا الحادثتين تذكيرٌ بجهود الـ”كي جي بي” القديمة لتصفية المنشقين وغيرهم من المعارضين للنظام.

يقول والتون: “هناك تاريخٌ طويلٌ من اغتيالات الكرملين لأشخاصٍ بأكثر الطرق إيلاماً، للتخلص من الأعداء، وأيضاً لتوصيل رسائل”. 

أحد الأمثلة على ذلك هو اغتيال الثوري السوفييتي السابق ليون تروتسكي عام 1940، والذي قُتل بمعولٍ للجليد في مكسيكو سيتي. يقول والتن: “لقد كان ستالين مهووساً بتروتسكي أكثر من هتلر”.  

لكن على الرغم من النجاحات السرية الحديثة للروس، يُحذر والتون وسيفر من اعتبار ذلك علامةً على النجاح. 

ويقول: “كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عمليةً في غاية النجاح، لكنك تستطيع القول إنهم بالغوا فيها، وبات لدى الجميع وعيٌ كافٍ من جراء ذلك”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى