الأرشيف

المصيدة

بقلم الإعلامى

محمد عبد الله زين الدين

المتحدث الإعلامى للمنظمة فرع مصر

 (1) على المقهى

——————————-

ذات يوم جاء احد الاشخاص الى مصرمن دول الجوار الخليجي وفي معيته ثلاثة من ابناء جيرته , ذهبوا جميعا بسيارة احدهم الفارهة الى مدينة طنطا لزيارة أحد مستخدميهم من المغامرين من اصحاب المصالح والمنافع وكان اسمه مخيون , ودلفوا لداخل مقهى شعبى قديم يجاور مقام سيدي احمد البدوي ينتظرون قدوم خادمهم المصري لاستقبالهم وتمتد اعين المارة اليهم في تعجب وهم يتيهون فخرا في لباسهم الابيض الفضفاض وهم جالسين على افريز الرصيف يتحلقون حول منضدة بالية يضعون علىها اغراضهم من هواتف محمولة ومفاتيح ومدي ومتعلقات اخرى وبقايا مشروباتهم ينفثون دخان تفاح النرجيلة دون ان ينبسوا ببنت شفة وكأنهم قد استقر لهم المقام حازوا الدنيا وما فيها بمن فيها يزكي هذه الاحاسيس لديهم خفة حركة النادل شاحب الوجه في تلبية طلباتهم حتى انه بالكاد كان يلتفت لرواد المقهى الاخرين فلقد قرر وقف حاله على حدمة الضيوف دون غيرهم , وينظر اليهم البعض بحذر والبعض الاخر فاغر فاه بابتسامة بلهاء دائم النظر اليهم وكأنهم كائنات فضائية , كما أن هناك من يجلس في حاله لايعيرهم التفاته وكأنه قد علم أن الامر لايعنيه من قريب أو من بعيد , لكن حب الفضول يتغلب على أحد اليافعين ليندفع ويسألهم : من اين انتم ؟ فرد أحدهم برد مقتضب: من الرياض باسوب لم يشجع ذلك الولد ان يعيد الكرة ليغامر بسؤال آخر , ولم تمضي برهة على ذلك الحال الا وقد وصل مخيون وهو شاب قد بدا عليه انه جاوز العقد الثالث له وجه متعب غير مريح ومعه شخص آخر دميم الخلقة كث اللحية عيونه جاحظة من محجرها يدعى بتهامي , تنم ملامحه على انه معتاد اجرام !! وتراهما وقد أتيا وكأنهما يشخصان مشهدا فكاهيا حيث يلتصق مخيون بالآخرتهامي وهو متأبطا ذراعه ونظراته زائغة لاتستقر على شئ , وفجاة يضج المكان بالتهليل والترحيب والتبريك.

———————————————————————

(2) بلاد تركب البشر !!

——————————————————————–

لم تكن ام مخيون تعلم شيئا عن هوية ولدها وماذا يفعل !! فهو حديث عهد بزواج لم يلبث ثلاثة شهور ولا يزال ينتظر الانجاب بفارغ الصبر , هاهي الوالدة حاضرة الذهن في كل ما يخص العادات والتقاليد , فهي سيدة ريفية قد جاوزت عقدها الخامس بقليل لا تدري من امور الحياة سوى طهي الطعام والحبل والولادة والمعاشرات الجنسية والذكر والانثى ومراسم الزواج وموروثات ثقافية ولم تزيد في ذلك عن قريناتها الريفيات بقرية ام المحسنين, فهي سيدة في دارها قد تسيدت عليها حماتها من قبل لبرهة قصيرة من الوقت ومالبثت ان فارقت الحياة مبكرا تاركة لزوجة ولدها (والد مخيون )الارض و الدار والدوار التي تركها مخيون الولد منذ ان فارق والده ايضا الحياة , اما الارض فقد اجرها بعض ابناء العمومة من امه لتقتات منها في غياب ولدها , ولينساب اذن مخيون ولدها سائحا في ملكوت الله حيث بلاد ماوراء البحر , ويالها من قصص واحجيات وألغاز يأتي بها وليلتف حوله من الجيران والاقارب ليعلموا ماذا في بلاد العجائب وبلاد تركب البشر وتوخزهم بسياط التكامل حيث الجهد مقابل الريال !! واحيانا الدياثة مقابل عائدات النفط وحظوات وتبريكات من اصحاب الدولارات والريالات !! , وهاهو ابنها يدعو من اولئك اصحاب الاردية البيضاء لقضاء حاجاتهم مقابل الحظوة والمال في وقت واحد و داخل منعطفات تلك القرية البائس اهلها تنام اسر بكاملها تنتظر الفرج بانقشاع ازماتهم المالية والحياتية على يد موثق عقود القرية الشيخ مبارك !! ليتمم صفقات زواج جديدة من احد الضيوف من اصحاب الترهل والبدانة والكروش المستديرة من بعد ايام عجاف لم تهدأ معها الامعاء الخاوية التي لاتلبث الا ان تتلوى من املاق وضيق ذات اليد , لقد أتى الضيوف اذن والكل يتحرش بالاخر  فذلك يتحرش من اجل بغاء مقنع تحت مسمى الزواج ومتعة مضافة يشتقها من اجساد الفقر المتجسد في وجه فتاة بائسة ساقها قدرها لتساير طعم علاقات شاذة قوامها السمع والطاعة العمياء , في مقابل الرضا , والاخر يتحرش بالمال الذي من اجله تذلل كل العقبات ومن اجل نعمة مسبوغة مرسلة ووفرة وبشم من بعد مسغبة , والوالدة شاخصة في مطهاها تسخر من كل حولها لاثبات جدارة المرأة الريفية وجودها وتميزها في اكرام الضيف وكل من يفد اليها , وبخاصة من سوف يلثم فلذة كبدها ولدها العزيز بقبلات قوامها حنو مال وعطف وحظوة قربى , فالفتى مغامر لاشك لايألوا جهدا في سبيل المال الوفير , فالمال ركن ركين لاساسيات الحياة .

——————————————————————–

(3) ام المحسنين لها ابواب كثيرة

—————————————————————————————————-

والان قد اتى الولد بضيوفه فلتكتمل الوليمة اذن امام الجميع ولسان حالها يتمنى ان يعود الابن المغترب وهو مرضي عنه وينعكس كل ذلك بالنفع على الجميع , اما اطفال القرية فهم الان متحلقين حول تلك السيارة الفارهة التي اتت ومعها غبار الارض وكأن تراب الارض قد هب من ثباته عند قدومهم ثم تتوقف السيارة ليهبط الحشد ليدلفوا الى داخل الدار وكأن الدار قد تحول الى نزل ومن ثم يتبرع احد الصبية من اقارب الدار في حماية السيارة يذب المتنطعين من اهل القرية خشية ان يعبث بها احد الحساد من الجيران ,تلك السيارة التي قد سكنت في خشوع وأهبة استعدادا لعودة اصحابها ,لم يدر بخلد اهل القرية بنية الضيوف في شراء أم المحسنين وهي الدار الجميلة , انها الدار القبلية , بيت العمدة السابق المتوفي , انه والد بكار ذلك الصبي الذي كان وحيد والده عمدة قرية أم المحسنين , فهو شاب الان في متوسط العمر جاوز العقد الثالث ورث تلك الدارالجميلة وهي في مدخل القرية ومن مميزاتها تلك الدار ان لها ابواب كثيرة ومتسعة وشرفات شاهقة وسياج رشيق وبوابة رئيسية كبيرة على الطريق الزراعي وبه حديقة غناء وارفة الاشجار المثمرة بعضها مانجو وبعضها جوافة وبعضها شجر كافور وكرمة رشيقة تتدلى ثريات الاعناب المذهبة مع اوراق خضراء يانعة تلك دار ام المحسنين التي ترى شروق الشمس مثلما ترى شفقها الاحمر وقت الغروب على مرمى البصر ولا شئ تلمحه العين سوى آفاق اشجار من مسافات شاسعة ولا نستطيع تمييزها الا بشق الانفس , كما انه لا شئ يخترق السمع الا الصمت المحير من روعة المكان ولا فكاك من ان تستنشق زفرات نسمات عبير الريحان والفل والياسمين واحيانا تمتزج مكونات المكان بصوت بعض الزنابير المترامي على جدول من الماء المصفى على غير عادة مصارف القرى الملوثة الا ان تلك القناة قد كان لها حظوة ماء رقراقا من مضخة آتية من مكان بعيد جدا لاتكاد تسمعها تدفعه الماء دفعا ليروي الارض الطيبة .

——-

——————————————————————————

لقد كان لهذا الدار قصة حزينة حدثت منذ ردح من الزمان , فوالد بكار المتوفي قد حاز الدار بطريقة لا تخلو من الاحتيال مستغلا منصبه كعمدة القرية الموالي الشرس لاولي امر البلاد وقتها وذو حظوة لديهم لشديد ولائه لهم وكان ذي اذن مرهفة وعين شاخصة لكل مايلفت النظر, ومالبث ان قفزت له فكرة ماكرة ليقتنص ذلك الدار الحلوة من اصحابها عنوة فأخذ يبث شائعات تدين ابناءاسرة الحاج عيسى صاحب دار ام المحسنين وتورطهم مع الحاكم , ليستل تلك الدار من ورثته ومعها بعض الافدنة القليلة التي كان الحاج عيسى يقوم بزراعتها بنفسه ثم انتقلت الى ورثته الذين لم يلبثوا ان اصابهم الهلع فخافوا ظلم الحاكم جراء الشائعات التى بدأت تتناثر عن عداوتهم له , فباعوا الدار بالبخس ليفروا من امام بطشه , وبعد ان نال ماتمنى وحاز تلك الدار الحلوة بالمكر والخداع , توفاه الله تاركا ذرية ضعيفة متمثلة في بكارالذي لم يقوى لادارة شئونه حتى الدار لم يقم عليها ليحتفظ برونقها الا انها وبالرغم من ذلك كانت لم تزل ممشوقة القوام حينما ترها وكأنها فتاة تتهلل لديها اسارير الصبا , الا ان العم بعد ان سرق المال والارض لم يترك الا ام المحسنين بيد الطفل الذي تربى فيها الى ان اصبح فتى قوي ورث خسة الوالد والعم , ولم يتمسك بها وباعها واكل جميع ثمارها و,ازدرد كل طيورها وباع كل ثمين فيها ونفيس وتركها خاوية الا من بعض الاثاث البالي وسنحت له فرصة الهجرة , فهاجر الى الغرب الامريكي , واصبحت الان الدار وهي خاوية في حيازة اصحاب الكروش المستديرة والنفط الخليجي .

——————–

(5) الاشجار ماتت واقفة في محبسها

————————————————————————————————-

لك الله يانفس لقد حملت فوق الطاقة فكل شئ تبدل في الدار الجميلة التي قد اذلتها عوامل التغير الفجائي بعد ان باعها بكار وتحول وجهه الى سواد اديم الارض بعد ان ذبح يمامها وحمائمها واكل كل طيورها المغردة التي كانت تبيت شادية على الدوح الذي تقلمت اوراقها الوارفة فماتت وهي واقفة رهينة محبسها وتحولت الى شواهد قبور تشهد على الجاني وتشير اليه بالبنان ,استحالت الحديقة الغناء الى مرأب تنتظر به السيارات الفارهة اسيادها من اعراب النفط وتبدلت رائحة عطور الفل والياسمين والورد البلدي الى رائحة الدخان المنبعث من عوادم تلك السيارات وغلقت ابواب الدار في وجه كل من كان يقصدها بالامس القريب وكانها اصبحت موصدة في اعين كل ملتاع يطلب مسألته ثم اصبح يمضي مكسور الخاطر بنهنه عبراته ويزجرها زجرا في وجدانه , لكن هيهات وهويسح الدمع السخيم الفاتر رغما عنه , فبعد ان رأى طلاء الدار الفاتح الزاهي , قد اكفهر ثم انكب وكأنه وجها اصبح له لون باهت قد ابرز له اعين جاحظة تعالج للموت سكراته , حتى النوافذ المضيئة الشاهقة تقزمت واطفئت المصابيح من الداخل وتحولت الى اضواء متراقصة خافتة بايقاع مرتعد مميت كطبول الحروب

لتبدأ رقصات الموت بعد ان كانت للدار الحان شجية ملهمة تحولت في ظلام ليل دامس الى خبث وخبائث تعشش في حنايا الدار ففرت الفراشات الجميلة الى حدائق بعيدة فكاكا من زهور الدار التي تمايلت ميلتها الاخيرة تاركة الارض المقفرة الجدباء الجديدة من بعد حنو اديم الزعفران اصبح الان من الصلابة بمكان وتوقف جدول الماء , لم يكن ليروي الا من هم يستحقون السقاية والارتواء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى