تقارير وملفات إضافية

هل يعلن لبنان إفلاسه بعد نيل الحكومة الثقة؟ البلاد التي دعمته تاريخياً تتخلى عنه، والآن يراهن على دولة أوروبية كبرى

قبيل نيل الثقة لحكومته، حاول رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب أن يُقنع سفراء الاتحاد الأوروبي منذ أيام، بأنّ حكومته هي حكومة الإصلاح السياسي والاقتصادي المنتظرة، وبأنّها هي الترجمة الرسمية لثورة 17 نوفمبر/تشرين الأول.

وهذه المحاولة ليست جديدة، والأوروبيون كالأمريكيين والعرب، وافقوا منذ اللحظة الأولى على منح دياب فرصةً لإثبات صدقه في تغيير النهج من الفساد إلى الإصلاح.

مع تحفُّظات يبديها الاتحاد الأوروبي على ما يجري. فقد وعدَ دياب بتسليم الوزارات إلى وزراء مستقلين وتكنوقراط، لكنها بقيت في جيب أحزاب السلطة وتحديداً قوى 8 آذار التي منحت حكومته الثقة الثلاثاء 11 فبراير/شباط 2020 بـ 63 صوتا، من أصل 84 نائبا حضروا جلسة مجلس النواب.

وقال رئيس الحكومة اللبنانية المكلف حسان دياب، الثلاثاء، في كلمة ألقاها بمستهل الجلسة إن “برنامجنا يتضمن خطة طوارئ وإصلاحات قضائية تشريعية ومعالجة في الآلية العامة، تواكبها إجراءات اقتصادية للانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الإنتاجي”.

الموازنة التي أنجزتها الحكومة السابقة هي التي اعتمدتها «حكومة دياب» بلا تعديل ولا تغيير متوقع في الطواقم التي جاءت بها المحسوبيات السياسية نفسها إلى الإدارة. فيما التساؤل من أين سيأتي الإصلاح إذاً في ظل عودة نفس العقلية والموازنة.

وفوق ذلك، البيان الوزاري جاء استعادةً لنماذج البيانات السابقة في الجانب السياسي- الأمني منه.

أما في الجانب المالي والاقتصادي، فقد أطلق وعوداً من عناوين الإصلاح والإنقاذ المحدّدة بمهل زمنية عمومية، ولكن غير مترابطة ولا مرفقة بآليات أو مضبوطة ببرامج. وهذا ما يثير انطباعاً بأنّ الغاية من إدراجها في البيان الوزاري هي رفع العتب والخداع بوعود الإنجازات الوهمية.

رغم ذلك لم يتسرَّع أحد في اتخاذ موقف سلبي من الحكومة.

وتلتزم القوى الدولية إعطاءها مهلة كافية لإثبات صدقيتها.

ولكن يدرك أركان حكومة دياب وداعموها ما سيكون الوضع عليه بعد انتهاء المهلتين الممنوحتين لها: المهلة القريبة، أي حصولها على ثقة المجلس النيابي، والمهلة البعيدة، أي الـ100 يوم التي حدَّدتها هي لنفسها.

ففي الأوساط الدبلوماسية هناك كلامٌ مفادُه أنّ القوى الدولية امتنعت حتى اليوم عن فرض عقوبات على لبنان، لأنّها شديدة الحرص على استقراره. وهي تكتفي بإرسال التحذيرات إليه. لكنها في الوقت نفسه لن تتهاون في التزامه الإصلاح ووقف الانزلاق في المواجهة الإقليمية التي تدفع  إيران إليها دول المنطقة التي تحظى بالنفوذ فيها أو بالأحرى تديرها.

وهذا هو فحوى الكلام الذي قاله المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش، عشية إنجاز الحكومة لبيانها الوزاري، الذي كرَّره السفراء الأوروبيون، وقبلهم جميعاً مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر، الذي ذهب إلى التحذير المباشر من نقطة الضعف اللبنانية حالياً: «نحن نعرف تماماً حجم المخزونات من العملات الأجنبية في مصرف لبنان. إنه أدنى بكثير مما هو مُعلَن».

لكن، بعد نيل حكومة دياب ثقة المجلس، ستكون الرسائل الدولية أقوى وأكثر حزماً، ومنها رسالة شينكر المُنتظرة في بيروت قريباً، الذي قد يؤجل زيارته الموعودة كي لا تفهم كرسالة تغطية لحكومة اللون الواحد التي يقودها حزب الله.

السعودية من جانبها عبرت عن موقفها بتخفيض حضورها الدبلوماسي في بيروت، ما شكّل إشارة خليجية أن لبنان لم يعد مهماً لدول الخليج، في ظل حكومة شكلها حزب الله وحلفاؤه .

يقول مصدر مقرب من المعارضة اللبنانية، إن أحزاب السلطة ستكتشف في المرحلة القادمة خطأها في عدم التجاوب مع الانتفاضة منذ الأيام الأولى، بالذهاب سريعاً إلى الإصلاح الحقيقي.

فآنذاك، كان ممكناً تجاوز الأزمة، بأدوات لبنانية فقط، وبعيداً عن تدخلات الدول والجهات والمؤسسات المانحة. أو على الأقل، بأقل مقدار من الضغوط على لبنان.

وفي اعتقاد البعض، أنّ أي تأخير إضافي في الاستجابة لمتطلبات الإصلاح الحقيقي سيقود القوى السياسية إلى مزيد من التورُّط مع القوى الخارجية، لأنّ الحاجة إلى مساعداتها ستكون أكثر إلحاحاً وتحديداً الخليجي منها.

يقول أحد الخبراء الاقتصاديين لـ “عربي بوست”، إنّ الطبقة السياسية في لبنان أدمنت المساعدات كأي مدمن على المخدرات، حيث إنّها أصبحت رهينة للمشيئات الخارجية، ومستعدة لالتزام تعليماتها.

وكان يمكن أن يكون لبنان أكثر استقلالاً في قراره لولا أنّ هذه السلطة أوصلته إلى الانهيار.

وثمة مَن يعتقد أنّ فرنسا لا بدّ أن تقف إلى جانب خيار السلطة في لبنان، وأن تساعدها على إقناع الأمريكيين والسعوديين بـ«تفهُّم الوضع» وتجنّب توسيع العقوبات التي تستهدف اليوم «حزب الله» لتشمل لبنان كله.

لكن هذا الرهان، في تقدير المطلعين، لم يعد واقعياً. والدليل هو أنّ فرنسا نفسها تتولّى تجميد المساعدات المقرّرة للبنان في مؤتمر  «سيدر» الذي استضافته في باريس منذ 2018، وأنّها لم تتجاوب مع الحريري في محاولاته المستميتة لتحريكها.

فالأزمة وفق هؤلاء، تكمن في أنّ أي قوة دولية لن تجرؤ على خرق الحصار الذي تفرضه الإدارة الأمريكية على «حزب الله»، في سياق مواجهتها الكبرى مع إيران.

وبالتأكيد، فإنّ الأوروبيين يلتزمون هذا الموقف، حتى لو كان هناك تباين في المصالح مع واشنطن. أما القوى العربية الحليفة للولايات المتحدة فهي الأكثر حماسة في المعركة ضد إيران.

ومنذ بدء الانتفاضة، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، تداخلت عناصر محلية وإقليمية ودولية جعلت الأزمة الحالية في لبنان أكثر تعقيداً، ووضعت حكومة دياب أمام تحدّيات خطرة. وهي:

تحدّي الجرأة على اتخاذ خطوات سليمة لوقف الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي، وتحدّي القيام بخطوات إصلاحية حقيقية، أي وقف الهدر واسترداد الأموال المنهوبة، مع ما يستدعيه ذلك من مواجهة مع طاقم الفساد.

ورفض التأسيس للانتقال إلى طاقم سياسي جديد ونظيف، وعدم فكّ ارتباط لبنان بالمحاور الإقليمية، ولاسيما المحور الإيراني، والتعاطي في ملف الغاز والنفط، في ظل تحوّل البحر المتوسط ساحة نزاع بين المصالح الإقليمية والدولية حول الطاقة والنفوذ في منافسة يشارك بها الأمريكيون والروس والإسرائيليون والأتراك والأوروبيون… بالإضافة للتغافل العجيب في المواجهة مع متطلبات صفقة القرن، سواء في الشقّ المتعلق باللاجئين أو بمقاربة ملفات الحدود وسواها.

والتحدّيات الأخيرة، أي الإقليمية، ازدادت حدّة في الأشهر الأخيرة.

ولعلها أكثر ثقلاً على حكومة دياب من الملف المالي الداخلي، بل هي تترابط فيه، لأنّ الجهات الدولية والإقليمية التي ستتوجّه إليها لطلب المساعدات المالية هي نفسها عناصر النزاع الدولي- الإقليمي، ولاسيما الولايات المتحدة وإيران.

وليس من المبالغة القول، إنّ كل الصخب اللبناني اليوم يدور حول محورٍ أساسي هو النزاع الأمريكي- الإيراني.

فالحسم في هذا النزاع يعني الحسم في لبنان، والعكس صحيح، بمعزل عمّا إذا كان الحسم سيصبّ في مصلحة لبنان أو لا.

وتشير المصادر إلى أن حكومة دياب ستكون محكومة بالغوص في بحرٍ من التعقيدات الهائلة داخلياً وإقليمياً ودولياً. وستكون البراعة في الخروج منها بسلام. وهي محكومة أيضاً بأن تواجه هذه التحدّيات، ولا يمكنها التلكؤ كما فعلت سابقاتها لكن حتى اليوم، يوحي حسان دياب أنّه مرتاح، وبأنّه قادر على المواجهة.

لكن كثيرين يخشون أنّه سيحارب طواحين الهواء، وبعبارة أخرى، سيحارب طواحين واشنطن- طهران التي تطحن كل الشرق الأوسط، وسيأخذ لبنان بدربها إذا لم يحيّد نفسه كما تشير مصادر صحفية!

يواجه لبنان اليوم استحقاقاً جديداً يتمثّل في تسديد سندات اليوروبوند في 2020، حيث تستحق على الدولة اللبنانية 3 سندات يوروبوند، يبلغ مجموعها 2.5 مليار دولار: 1.2 مليار دولار في مارس/آذار 2020، و700 مليون دولار في أبريل/نيسان 2020، و600 مليون دولار في يونيو/حزيران من العام نفسه. كذلك تستحق فوائد على محفظة سندات اليوروبوند بقيمة 2.18 مليار دولار تتوزّع على دفعات شهرية تتراوح بين 33 مليون دولار و539 مليوناً.

‎وتنقسم الآراء اليوم حول التسديد أو عدمه، في الوقت الذي طلب حاكم المصرف المركزي مهلة 24 ساعة للخروج بحلول. حيث تتزايد دعوات خبراء اقتصاديين إلى عدم التسرّع في اتخاذ اي قرار غير مدروس حيال مسألة سداد لبنان سندات «اليوروبوند».

ودعا خبراء إلى التريّث في دفعها والاتفاق مع الدائنين على تأخير سدادها، أسوة بكثير من الدول الخارجية التي أقدمت على ذلك، على اعتبار أنّ آثاراً شديدة السلبية قد تترتّب على لبنان إذا تمّ دفع مبالغ بمليارات الدولارات في هذا الظرف المالي البالغ السوء.

ويعتبرون أنّ نظرية تخلّف لبنان عن سداد ديونه وإعلان إفلاسه قد تكون منطقية، خصوصاً أنّ الدفع الآن، بحسب أصحاب هذا الرأي، ليس سوى تأجيل في الاعتراف بالتعثّر الحاصل حكماً في المستقبل، وزيادة في كلفة هذا الدين على معيشة اللبنانيين. ويرون أنه لا مفرّ اليوم من الانطلاق في مسار واضح يعيد التفاوض في أصل الدين العام وفوائده وخفضهما، وفق عمليّات تعيد هيكلة القطاع، وإعادة هيكلة الدين بالليرة والدولار، وإعادة رسملة المصارف، خصوصاً أنه إذا تمّ التسديد اليوم قد تتعثّر الدولة في تسديد الاستحقاق المقبل ثم التخلّف عن سداد الاستحقاقات التالية، وهو أمر لا معنى أو قيمة له سوى إهدار مبلغ من احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.

وحذّرت جمعية المستهلك بدورها من «انّ سداد 4.8 مليار دولار من أموال المودعين الآن سيكون بالتأكيد جائزة ترضية جديدة للمصارف والمودعين الكبار، لكنه سيحرم الاقتصاد اللبناني واللبنانيين من شراء المواد الأساسية التي تحتاجها البلاد من غذاء ودواء ومحروقات ومواد أولية للصناعة والزراعة».

في المقابل، هنالك الرأي الآخر، الذي يقول إنه من الانتحار عدم سداد الدين اليوم، لِما له من تأثير على سمعة لبنان العالمية، ويعتبرون أنّ المبلغ ليس كبيراً لتحمّل تبعات إعلان الإفلاس في هذه المرحلة، خصوصاً أنّ هناك حلولاً، منها إجراء Haircut على حسابات المودعين الكبار، وتحييد صغار المودعين، كما أنّ هناك طرحاً بالتسديد للأجانب وعدم التسديد للبنانيين، علماً أنّ هذا الإجراء ينتج منه تَبعات قانونية في التمييز في تسديد الديون.

‎ويتخوّف أصحاب هذا الرأي من أنّ التخلّف عن السداد يضع لبنان تحت رحمة صندوق النقد الدولي ومطالبه، فالخضوع لهذا الصندوق سيكون موجعاً جداً، خصوصاً أنّ تدخّله لمساندة عملية إعادة هيكلة الدين العام أو إعادة جدولته لا يمكن أن يأتي بلا ثمن سياسي واجتماعي هائل، من خلال فرض أجندة إصلاحات تتضمّن زيادة الضرائب والخصخصة.

‎مهما كان الخيار في المرحلة المقبلة، التسديد أو عدمه، يبقى أنّ هذه الخطوات هي إبرة مورفين لتأجيل الأزمة. إذا لم تتغيّر طريقة التعاطي مع الأزمة والعقلية السائدة تماماً.

كان رئيس الحكومة قد قال أمام البرلمان: “مخطئ من يعتقد أنه سينجو من أي انهيار للاقتصاد ومن غضب الناس، ولنعترف بأن استعادة الثقة تكون بالأفعال وليس بالوعود”.

ولكن المشكلة أن البيان الوزاري يأتي خجولاً نسبة إلى ما يواجه لبنان، خصوصاً أنّ الناس في الشارع يصرخون.

فالبيان غير واضح في طريقة الانتقال من عصر الظلمة إلى عصر الشفافية الذي يبشر به، فهل سيتم تطهير الإدارة وإجراء إحصاء دقيق لعدد العاملين في القطاع العام وتقديماتهم وإنتاجيتهم؟

تتساءل المصادر هل ستتم إعادة كل موارد الدولة الفائتة إلى الدولة اللبنانية، وتغيير طريقة إدارة إملاك الدولة؟ هل سيتم تقييم عمل المدارس الرسمية وما تقدمه مقابل ما يتم هدره من مال على التعليم الرسمي كل عام.

يقول أستاذ الاقتصاد، الدكتور سامر حجار، إن البيان الوزاري لمّح للقروض المنوي اقتراضها من مستحقات مؤتمر سيدر، لكنّ هناك شروطاً تضعها الدول الممولة، وهي الإصلاحات في قطاعات الكهرباء والاتصالات، والتي تم التعاطي معها في البيان الوزاري، حسب العقلية القديمة المعتمدة من جماعات السلطة المتعاقبة على الحكم.

ويشدد الحجار أنه قبل البيان الوزاري المشوه كانت الدول المانحة قد فقدت الثقة بلبنان ووعود الإصلاح المتكررة فكيف بعد البيان الوزاري الحالي، الخالي من أي أدوات فعلية للإصلاح.

وحول التعويل على مساعدات خليجية للبنان.. يرى الحجار أن الحكومة الحالية أدرى اليوم بالنظرة العربية لها، في ظل سيطرة فريق حزب الله على الحكم، ما يعد استفزازاً للإجماع العربي.

وحول الاقتراض من صندوق النقد الدولي، يقول إنه هو الحل الأخير لحكومة حسان دياب، لكن تبعاتها ستكون مؤلمة بما ستسببه من ضرائب على الطبقة الفقيرة والمتوسطة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى