ثقافة وادب

تاريخ الديمقراطية ليس حكراً على أوروبا! العراق والهند عاشا ديمقراطيات قديمة وإفريقيا قبل الاستعمار أيضاً

عند الحديث عن الديمقراطية وتاريخها يعتقد الغربيون دائماً أنّ الديمقراطية منتج سياسي غربي فقط، بينما الحقيقة غير ذلك.

يشيع دائماً أنّ الديمقراطية بدأت في أثينا القديمة في اليونان، وانتشرت منها إلى الغرب على نحوٍ خاص.

بينما يرى العديد من الباحثين أن هذه النظرة خاطئة، ومن ضمنهم أستاذ السياسات في جامعة نيويورك ديفيد ستاسافاج، في كتابه “تراجع وصعود الديمقراطية: تاريخ عالمي من العصور القديمة إلى اليوم” الصادر في يونيو/حزيران 2020. وقد نشرت مجلة Economist البريطانية عرضاً لبعض أفكار الكتاب.

فمن خلال استيعاب الديمقراطية على أنها نظام حكمٍ عن طريق المشورة والقبول، يوضِّح ستاسافاج أنّ الديمقراطية يمكن العثور عليها في عددٍ من الحضارات القديمة، ليس فقط في اليونان القديمة “الغربية” وإنّما في بلاد الرافدين القديمة، وفي الهند البوذية، بل في المناطق القبلية المحيطة بالبحيرات العظمى الأمريكية، ووسط أمريكا قبل الغزو، وأيضاً في إفريقيا قبل الاستعمار!

ومع وضع هذا الانتشار للديمقراطية في العالم القديم في الحسبان، يكتب ستاسافاج أنّه تحت ظروفٍ موضوعيةٍ محدَّدة “فإنّ الحكم الديمقراطي يأتي إلى البشر بصورةٍ طبيعية”.

لكنّ المفارقة دائماً في أنّ الحكم الاستبدادي كان طبيعياً أيضاً بنفس درجة طبيعيّة ووجود الديمقراطية. فقد كان الاستبداد هو الآخر موجوداً بقوة في مناطق عديدة. فعلى سبيل المثال، كان الحكم المُطلق في الصين وفي مناطق أخرى من الشرق والغرب هو السائد لقرونٍ عديدة.

ومن أجل اكتشاف سبب وجود الديمقراطية في الأماكن التي وجدت فيها، سواءٌ في الغرب أو في الشرق وإفريقيا، اعتمد الكاتب على أدلةٍ من علم الآثار، وعلم التربة، والدراسات المناخية والسكانية.

كانت الديمقراطية المبكِّرة تزدهر في الأماكن التي يعرف الحكّام فيها القليل عمّا يزرعه وينتجه الناس، ولا يملكون الكثير من الوسائل لمعرفة ذلك. فكانوا إما يقلِّلون في تقدير المنتجات الخاضعة للضريبة (ما ينتج عنه تفريطٌ في الواردات)، أو يبالغون في تقديرها (ما يُسبب العصيان وتمرد الشعب).

وكان من الأفضل سؤال الناس عمّا زرعوه، وبالتالي سماع طلباتهم، كان ذلك النمط سائداً حيث كان تعداد السكان صغيراً، وكانت السلطة المركزية ضعيفةً أو منعدمةً.

أما في المناطق ذات التعداد السكاني الكبير فكانت استشارة الشعب غير عمليةٍ. وبدلاً من ذلك كان الحكّام يرسلون مسؤولين إداريين لرؤية كميات المحاصيل ومراقبتها، والأهم من ذلك، أعداد الشباب الذين يُمكن إدراجهم في الجيوش.

نشأت البيروقراطيات وبسببها فرض الحكم الاستبدادي نفسه على العادات المحلية. وفي عالم ما قبل الحداثة كانت تلك البيروقراطية الاستبدادية شائعةً في الأماكن التي كانت التربة فيها جيدةً، والعوائد المالية عاليةً، والتقنيات متطورةً، خصوصاً في التدوين والقياس.

كانت تلك الأنظمة قادرةً على فرض ضرائب عالية، فالصين (الضخمة) في عهد سلالة سونغ (من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر) كانت تحصل سنوياً على 7% من الناتج الإجمالي لأراضيها. في حين كان حكام أوروبا (الصغيرة) في العصور الوسطى يتحصّلون بالكاد على 1%. 

الأمر ليس في أنّ الديمقراطية منتج غربي لأنّ الغرب أفضل، وإنما وجدت الديمقراطية حيث وجدت ظروف نشأتها وتطوُّرها في المجتمعات، سواءً كان هذا في الغرب أو في الشرق.

فمثلاً، يجادل الكثير من الباحثين أنّ إفريقيا كانت لديها أنظمة حكم ديمقراطية قبل الاستعمار الأوروبي، الذي ارتكب فيها مجازر دموية ثقافية وسياسية واجتماعية. وقد كانت السلطة تمارس في هذا النظام في بعض دول إفريقيا من خلال وجود سلطة سياسية مركزية وقائد معترف به للدولة، إضافةً إلى جماعاتٍ فرعية عبر البلاد.

وقد كانت تلك الجماعات الفرعية -القبائل أو العشائر- هي المنوطة بتحصيل الديون وجمع الغذاء، بل وصناعة الأسلحة والدفاع المسلح عن الدولة. بل قد كتب هذا أول رئيس لجمهورية كينيا في عام 1938 عندما كتب كتابه “في مواجهة جبل كينيا”.

نخلص من هذا بنتيجة أنّ الديمقراطية ليست حكراً على الغرب، وإنما هي نتاج أسبابٍ موضوعية، إذا توافرت تلك الأسباب توافرت الديمقراطية.

في المناطق التي نشأت فيها البيروقراطيات المركزية تجذّر الحكم الاستبدادي، أو حكم الفرد. ولكن ما إن قامت أنظمة الحكم تلك حتى بات من الصعب إسقاطها، وقد تكيفت تلك الأنظمة جيداً مع الحداثة والتقنيات الجديدة.

وعلى النقيض من ذلك فإن الديمقراطيات المبكرة كانت هشةً أمام قيام الدول الحديثة والتطوُّر السريع للاقتصاد. وبالتالي فقد تلاشت تلك الديمقراطيات في العديد من الأماكن، بينما نجت وتطوّرت في أماكن أخرى.

بكلماتٍ أخرى، فقد سمحت مركزية الدولة الحديثة بوجود الديمقراطيات والحكم الاستبدادي على السواء. الفكرة الأساسية في الظروف الموضوعية التي تنتج هذا النظام السياسي أو ذاك.

لكنّ هذا الطرح يضعنا في تساؤلٍ آخر: هو أنّ الغرب هو المكان الوحيد في العالم الذي تطوَّرت فيه الديمقراطية المبكِّرة صغيرة المقياس من النوع المباشر بأمانٍ تامٍ، إلى ديمقراطياتٍ نيابيةٍ حديثةٍ. ألا يجعل ذلك من الديمقراطية غربية الطابع في نهاية المطاف كما يراها الغالبية؟

في موجات الديمقراطية الحديثة الثلاث: في القرن التاسع عشر، وما قبل عام 1945، وما بعد عام 1989، كانت الديمقراطية الغربية سابقةً على غيرها، ورغم الانهيارات الحادة فقد كانت متقدمةً بفارقٍ كبيرٍ عن غيرها.

كان لأوروبا قبل الحداثة مظهرٌ ديموقراطيٌّ وحكامٌ ضعافٌ أحياناً، ولكن دون بيروقراطيات فعالة. وهذا ما يصلنا بنتيجة أنّ لكلٍّ من الديمقراطية والاستبداد جذوراً عميقة. وهناك أسبابٌ وجيهةٌ تدفع إلى توقُّع صمود أيٍّ منهما واستمراريته.

السؤال هنا ليس عن أصل الديمقراطية، وإنما عن الأسباب الموضوعية لنشوء هذه الديمقراطية، وكذلك الأسباب الموضوعية لنشوء الاستبداد.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى