ثقافة وادب

كوّن جيشه من العبيد وثار على أقوى الجيوش وكاد أن ينتصر ويقضي على الإمبراطورية الرومانية

على الرغم من التطور الضخم الذي وصل إليه الإنسان اليوم في شتى المجالات، فإن هناك قضايا تاريخية كبيرة لم تنتهِ بعد، أبرزها قضية العبودية، أو التمييز. فما زالت الكثير من المجتمعات والدول، تصنف مواطنيها وتُفاضل بينهم على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو حتى المكانة الاجتماعية. 

وعلى مدار السنين الطويلة حفل التاريخ الإنساني بثورات للعبيد ضد الأنظمة التي تستعبدهم، وتُعد ثورة سبارتاكوس على العبودية في روما من أوائل  ثورات العبيد في التاريخ وأشهرها، والتي كادت أن تقضي تماماً على الإمبراطورية الرومانية.

كانت العبودية منتشرة على نطاقٍ واسع في المجتمع الروماني القديم، كحال المجتمعات القديمة، حيث كان لامتلاك العبيد أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لروما التي كانت تشكل أحد أهم القوى الاقتصادية والعسكرية في ذلك الوقت.

فقد كانوا يعتمدون على العبيد في العمل بشكلٍ قسريّ في كل المجالات: بالزراعة والصناعة وأعمال البناء وكذلك في الجيش، فضلاً عن خدمتهم في المنازل، كما تم استخدامهم أحياناً في تعليم الأطفال القراءة والكتابة والموسيقى والفنون الأخرى.

وبحسب المؤرخ البريطاني المعاصر مارك كارترايت فقد كان 1 من كل 3 من السكان في الدولة الرومانية أو 1 من كل 5 عبيداً. وبناءً على هذه الفكرة بُني صرح الدولة الرومانية والمجتمع الروماني بأكمله. لذلك كانت العبودية منتشرة على نطاق واسع في روما القديمة، وكانت أعدادهم تزداد بشكل مستمر، لدرجة أن الرومان كانوا يخشون أحياناً انتفاضة هؤلاء العبيد.

وبطبيعة الحال، كان العبيد يمثلون الطبقة الدنيا في المجتمع الروماني. ويصفهم بعض المؤرخون بأنهم كانوا أدنى حتى من المجرمين، وذلك لعدم إعطائهم أي حقٍّ من الحقوق، بل كانوا مجرَّد ملكيّة، يمتلكها صاحبها كأيِّ متاعٍ آخر يمكن امتلاكه (أثاث أو أواني طبخ مثلاً). فهم عبيدٌ مملوكين يلدون عبيداً مملوكين.

بذلك كان العبيد في روما القديمة يعيشون ظروفاً غاية في القسوة عن غيرها من المجتمعات. وقد تحدث عنها بعض الكُّتاب والمؤرخين الرومان، الذين عبروا عن سخطهم وغضبهم حول هذا التعامل مع العبيد، مثل الكاتبة الرومانية سينيكا الأصغر (4 قبل الميلاد -65 م) التي كانت تدعو إلى تحسين أحوال الرقيق، ولكن العبيد أنفسهم كانوا مستسلمين للأمر الواقع، إلى أن ظهر سبارتاكوس وقادهم إلى الثورة.

وُلد سبارتاكوس ثراسيان في شمال مقدونيا، البلقان حالياً، وهي منطقة كان يعتبرها الإغريقيون والرومان  من بعدهم منطقةً غير حضارية وبربرية. غزاها جيش روما وانتصر بعد مقاومة السكان المحليين، وجلبوا معهم العبيد غنائم حرب، وكان من بينهم سبارتاكوس وزوجته.

وفي الفترة التي جاء فيها سبارتاكوس إلى روما، كان العبيد يشكّلون الأغلبية الحقيقيّة في المجتمع، وكانت أعدادهم أكثر من أعداد الأحرار، الأمر الذي أدّى لعدم توفُّر المساحة لعمل العبيد الجدد، لذلك خلقوا لهم وظيفة جديدة، وهي مصارعة الوحوش والبشر حتى الموت للترفيه عن “المواطنين الأحرار”.

وهنا نشطت تجارة العبيد بين أصحاب مدارس مصارعي الوحوش (gladiators)، لكن بالرغم من الشهرة والشعبية وحب الجماهير الذي كان يناله مصارعو الوحوش، فإن طبيعة حياتهم كانت أسوأ بكثير من ظروف باقي العبيد، فقد كانوا يتصارعون مع بعضهم البعض أو مع بعض الوحوش، ولا ينتهي النزال إلا إذا قتل أحدهما الآخر!

وبالعودة إلى سبارتاكوس، فقد كان أحد العبيد الذين أصبحوا مصارعين، اشتراه لينتولوس باتياتوس، مالك مدرسة تدريب المصارعين الوحوش؛ بعدما لفت نظرهاً جسده سبارتاكوس المفتول وبنيته القوية وذكائه الشديد حسبما وصفه المؤرخ اليوناني بلوتارخ، ليتم تدريبه بعدها في مدرسة بلاثياتوس في كابوا شمال نابولي بإيطاليا.

عاش سبارتاكوس ورفاقه من المصارعين حياةً صعبة في تلك المدرسة، حيث كان التعامل معهم باعتبارهم وحوشاً تحتاج للترويض، لذلك خطّط للهرب مع حوالي 80 من رفاقه في عام 73 ق.م. وإنهاء الحالة التي يعيشونها، واستطاعوا الفرار بعد أن داهموا مطبخ المدرسة وتسلَّحوا بالسكاكين، وقتلوا مدربيهم.

وبعد هروبهم هجموا على قافلةٍ صغيرة كانت تضم عرباتٍ تحمل أسلحة واستولوا عليها، ثم همُّوا بالفرار في مكان ما على سفوح جبل فيزوف القريب منهم، وهناك انتخب العبيد الثائرون سبارتاكوس وأوينوماوس وكريكسوس قادةً لهم، وبدأوا في شنِّ عمليات النهب على المناطق من حولهم، في سبيل الاستمرار بثورتهم على الرقّ.

وسرعان ما انتشر خبر تمرُّد سبارتاكوس على الظلم في المدن المجاورة، حتى انضم إليه مجموعة كبيرة من الرعاة والعبيد؛ واستطاع أن يشكل جيشاً ضخماً يضم أكثر من 70 ألف شخص من الثائرين، الذين أصبحوا يهددون بقاء الإمبراطورية الرومانية.

اعتبر كبار الدولة الرومانية أن هذه الثورة التي بدأها الرقيق بقيادة سبارتاكوس خطيرة طبعاً. لكنّهم ظنُّوا أنّها ستنتهي بسهولة لأن العبيد لا يملكون خبرةً كافيةً بالتكتيكات العسكرية وإنما هم مجموعةً من المصارعين المتمردين، واتفق مجلس الشيوخ الروماني على إرسال القائد العسكري كلاوديوس غلابر مع 3 آلاف جندي لمحاصرة المتمردين على جبل فيزوف.

كانت خطة غلابر ترتكز على تجويع العبيد في الجبل حتى الاستسلام، لكنّ سبارتاكوس فاجأهم بذكائه، إذ عبر بجيشه صوب الناحية الثانية من الجبل باستخدام حبال مصنوعة من الكروم، ثمّ أحاط بجنوده معسكر الجيش الروماني، واقتحم المعسكر واستطاع اغتنام أغلب الأسلحة والمعدات العسكرية الرومانية.

أرسلت قوة ثانية لإخماد ثورة سبارتاكوس بقيادة بوبليوس فارينوس الذين عمل على تقسيم قواته لمحاصرة العبيد، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً أيضاً لدرجة أنه خسر حتى حصانه، وحقق سبارتاكوس نصراً شجّع الكثير من العبيد على ترك أسيادهم والانضمام إلى جيشه الذي أخذ يتزايد ويتزايد مع الوقت.

بعد كل هذه الانتصارات عمد سبارتاكوس إلى تغير استراتيجيّة حركته من الدفاع والهرب إلى الهجوم، إذ بدأت مجموعاتٌ من جيشه تتربص للدوريات العسكرية الرومانية وتنقضّ عليها وتأخذ كل المؤن والأسلحة الخاصة بهم، كما أصبح يهاجم القرى الرومانية ويسلب أموالها ويقاتل قوات الحامية العسكرية فيها.

واستطاع جيش سبارتاكوس تدمير مدن نولا ونوسيريا وثوري وميتابونتوم في روما القديمة، فقام مجلس الشيوخ باستدعاء أفضل قياداتها العسكرية وأرسلوا قوات مع القائد بابليكولا وقوّات مع القائد كلاوديانوس، ولكن سبارتاكوس انتصر عليهما أيضاً واستطاع أسر عدد كبير من الجنود الرومان.

وتقول بعض المصادر إن سبارتاكوس أرغم الجنود المعتقلين على مصارعة بعضهم البعض أمام جمهور العبيد، وبعدها سار باتجاه العاصمة روما رفقة أكثر من 120 ألفاً من جنوده من العبيد الذين انضموا إليه، وعدد غير معروف من سلاح الفرسان.

تسببت سلسلة انتصارات سبارتاكوس في انقلاب المجتمع الروماني على السلطة الحاكمة، التي عجزت عن مواجهة العبيد المتمردين، ونتيجة لذلك غيّرت السلطة الرومانية من طريقة تعاملها مع سبارتاكوس ومن معه على أنهم متمردين، وأصبحوا يتعاملون بمنطلق حالة حرب ستتسبب في انهيار الإمبراطورية الرومانية العريقة.

لذلك قرر مجلس الشيوخ الروماني إرسال جيشٍ ضخمٍ مكوّن من أكثر من 33 ألف جندي بقيادة ماركوس كراسوس؛ لمواجهة سبارتاكوس ورجاله، ودامت الحرب بين الطرفين 3 سنوات في بروتيوم في أقصى جنوب إيطاليا، وتقول بعض المصادر التاريخية إن سبارتاكوس كان ينوي أن يتوجه إلى جزيرة صقلية ويعلن استقلالها عن روما.

لكنّ كراسوس استطاع محاصرة الثائرين، وقطع عنهم جميع الإمدادات الحربية؛ لإجبارهم على الاستسلام، ولحق به جيش القائد المشهور بومبيوس الذي غزا وفتح إسبانيا في ذلك الزمن، وبعد استبسال العبيد ورفض سبارتاكوس الاستسلام استطاع استغلال ثغرة في أحد فيالق الجيش الروماني وهرب بعدد كبير من جنوده الثائرين، متجهاً صوب الجنوب، ولكن قوات الجيش الروماني استطاعت اللحاق به وبجنوده في منطقة لوكانيا، حيث حاصروهم وتمكنوا من هزيمة سبارتاكوس وسحق جيشه في لوكانيا.

وذكرت بعض المصادر التاريخية أن سبارتاكس قد قُتل، على الرغم من عدم العثور على جثته، كما قامت قوات الجيش الروماني بصلب 6 آلاف من العبيد المتمردين، وعُرضت جثثهم على طول طريق أبيان في روما القديمة، وهكذا كانت نهاية سبارتاكوس، الذي كان قريباً جداً من إنهاء حكم الإمبراطورية الرومانية.

جنى القائدان العسكريان كراسوس وبومبيوس فوائد سياسية كبيرة لإنهائهما التمرُّد، فعادا إلى روما مع فيالقهما ورفضا حلّها، بل أقاموا لها مخيماتٍ خارج روما ونال كل من الرجلين منصب قنصل سنة 70 ق.م، وكان أحد أسباب هذا الترفيع هو خطر الفيالق الموجودة خارج المدينة، التي شكلت لهما ثقلاً سياسياً.

أما عن أثر هذه الثورة على نظرة المجتمع الروماني للعبودية، فقد قالت بعض المصادر إن هذه الثورة استطاعت هز المجتمع الروماني الذي بدأ بمعاملة العبيد بطريقةٍ أقل قسوة عما قبل، ويُعتقد أن ملاك الأراضي الأثرياء قاموا بتقليص أعداد العبيد المزارعين الذين يتملكونهم، خوفاً من ثورتهم مرةً أخرى.

بدأت تتحسن أحوال العبيد قليلاً خلال فترة حكم كلوديوس عام 41 م، وصدر قانون تجريم قتل العبيد العجائز، وغيره من القوانين، وفي حكم أنطونيوس بيوس ازدادت حقوق العبيد أكثر، وحمل السيد مسؤولية عن قتل العبد، ويجبر على بيع عبده إذا ثبتت إساءته لعبده، ولكن هذه القوانين أتت بعد فترات متأخرة عن ثورة سبارتاكوس.

ولكن ثورة سبارتاكوس بقيت حية عبر العصور، وتناولتها الفنون والأدب، وبقيت سيرته حتى يومنا هذا في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. ومن أشهر الأعمال التي تناولت قصته فيلم Spartacus 1960، ومسلسل 2010 Spartacus war of the damned في 4 أجزاء.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى