تقارير وملفات إضافية

العداء بدأ بالأوروبيين الشرقيين ثم العرب.. سباب وُجّه لسيدة مسنة جعل البريطانيين ينقلبون على المهاجرين؟

«أنت امرأة متعصبة؟».. كانت هذه الكلمات الثلاث سبباً أساسياً لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وظهور موجة العداء للمهاجرين في المملكة المتحدة.

إذ لم يسبق أن كان لمقابلة تمت بالصدفة أثرٌ سياسي أكبر من أثر لقاء جوردان براون رئيس وزراء بريطانيا العمالي السابق مع السيدة المسنة جيليان دوف في صباح أحد أيام أبريل/نيسان في مدينة روتشدال البريطانية عام 2010، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.

التقط الميكروفون بطريق الخطأ صوت براون الذي كان آنذاك رئيساً للوزراء وهو يسبّ المسنة التي كانت من أنصار حزب العمال ونعتها بأنها «امرأة متعصبة»، بعد أن حاوطته بالشكاوى من «تدفق» المهاجرين إلى بريطانيا.

سُميت هذه الواقعة بفضيحة بيجوت أو بيجوت غيت (Bigotgate).

ولم تقتصر آثار هذه الفضيحة على إغراق حملة براون الانتخابية التي كانت تتخبط بالأساس؛ وإنما كانت مؤشراً على اتجاه المزاج العام الذي يرى أن الهجرة ستكون أكبر قضية شائكة في السياسة البريطانية خلال العقد التالي.

حين وصل حزب العمال الجديد (كما كان يوصف تحت قيادة توني بلير آنذاك) إلى السلطة في عام 1997، كان 3% من العامة في بريطانيا ينظرون إلى الهجرة باعتبارها قضية جوهرية

ولكن بحلول موعد الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وصلت النسبة إلى 48%. 

خلال تلك الفترة، أصبحت مسألة الهجرة مهيمنة على الساحة وشوَّهت السياسة في بريطانيا؛ وهو بالضبط ما عكسه لقاء جوردان براون مع جيليان دوف. 

فزلة براون قوَّت الموقف السياسي الذي لن يلبث أن يشكل كل شيء بعد ذلك: «البيئة العدائية»، وفضيحة ويندراش (فضيحة مرتبطة باتخاذ وزير الداخلية سياسات صارمة لترحيل المهاجرين دون إطلاع البرلمان) واستفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وعودة اليمين المتطرف البريطاني إلى الساحة؛ ليفتح بذلك الباب أمام الأقاويل التي ترى أن ساسة المدن الكبرى المستهزئين من العامة والمناصرين لفتح الحدود والمفضلين للأجانب غافلون بشكل لا أمل من الشفاء منه عما يكابده العامة وما يسمى «مخاوفهم المشروع» (وهم بطبيعة الحال في هذا السيناريو من البيض دائماً).

لا يزال حزب العمال يعاني من تبعات فضيحة جوردان براون المعروفة بـ «بيجوت غيت»، في ظل انقسام يشهده الحزب حول مسألة الهجرة. 

وفي ظل اقتراب موعد إطلاق الحزب لبيانه الانتخابي، تهدد حملة أطلقها زعيم حركة Unite the Union –أكبر الجهات التابعة للحزب- تستهدف حرية المهاجرين في الحركة، بعرقلة الجهود المبذولة للوصول إلى موقف أكثر تقدمية حيال تلك القضية.

غير أنه في الوقت الذي جرى فيه اللقاء المشؤوم بين براون ودوف عام 2010، كانت قضية الهجرة قد تصدرت بالفعل استطلاعات الرأي باعتبارها الشاغل الأكبر للرأي العام، متفوقة بذلك على نظام الرعاية الصحية ولا يتفوق عليها سوى الاقتصاد للسنوات القليلة التي تلت الأزمة المالية لعام 2008. 

وبحلول عام 2010، كان الساسة ووسائل الإعلام قد صاغوا رواية ممتلئة بالضغينة عن حجم الواصلين حديثاً إلى المملكة المتحدة، وهويتهم وأسباب قدومهم إلى المملكة.

ولأكثر من 30 عاماً، كانت المملكة المتحدة جبهة العولمة الاقتصادية النيوليبرالية التي رفعت الرقابة عن الأسواق وخفضت سطوة الدولة؛ ما عمق من حالات عدم المساواة الاقتصادية على المستوى العالمي وهو ما أسفر بدوره عن ظهور هجرة العمال

وفي المملكة المتحدة، أغلقت اقتصادات محلية قائمة على التصنيع أبوابها أو نقلت إلى خارج البلاد بعد أن كانت تدعم مجتمعات كاملة. 

وفي كافة بلدان الجنوب، كانت برامج التصحيح الهيكلي التي فرضها الغرب في صورة شروط للقروض تقضي على الاقتصادات الوطنية. 

غير أن هذه الحقائق الاقتصادية القاسية لم تظهر في روايات التخويف التي أطلقتها وسائل الإعلام عن «مد» من المهاجرين «يغزو» بريطانيا الهشة لأسباب مفتعلة الهدف من ورائها السيطرة على البلاد.

ومع تعرض المجتمعات لصدمات السوق الحرة غير الخاضعة للقيود وانكماش دور الدولة، تم إمطارها بوابل من القصص عن «السلوفاك الطفيليين» والتشيك الغشاشين. 

وتساوى الساسة من الاتجاهات المختلفة في إنتاج خطاب عدائي وسياسات عدوانية للاستجابة لذلك، مع النظر إلى القضية باعتبارها انعكاساً لمخاوف مفترضة بشأن العدد الدقيق للواصلين إلى البلاد و«وتيرة التغيير» في المجتمعات المحلية والحاجة إلى التحكم في الهجرة. 

كان هذا حافز رئيس الحكومة المحافظ ديفيد كاميرون في إطلاق وعده الانتخابي الأحمق عام 2010 بوضع رقم مستهدف لـ «إجمالي عدد المهاجرين«.

وهو هدف أخفق حزب المحافظين في تحقيقه مرةً تلو الأخرى ليزداد العامة سخطاً وفقداناً للثقة فيما يخص قضية الهجرة (هذا الهدف المستحيل كان السبب في سياسة البيئة العدائية التي انتهجها المحافظون والتي أفضت إلى فضيحة وندرش).

وفي الفترة التي سبقت مباشرةً استفتاء مغادرة الاتحاد الأوروبي، الذي دعا إليه كاميرون لتقويض شعبية حزب استقلال المملكة المتحدة وإسكات صوت المشككين في الاتحاد الأوروبي من حزب المحافظين، كررت حملة الداعين إلى مغادرة الاتحاد الفكرة التي تفيد أن السياسة التي اتبعها حزب العمال بزيادة الهجرة هي ما جعل مسألة الهجرة قضية شائكة في السياسة البريطانية. 

وانصب اللوم بشكل أكثر تحديداً على التزام قطعه توني بلير عام 2004 حين كان رئيساً للوزراء.

وفي فيلم وثائقي من إنتاج هيئة الإذاعة البريطانية BBC يحمل عنوان The Truth about Immigration، تحدث المذيع نيك روبنسون عن الهجرة في المملكة المتحدة باعتبارها مسألة «تضيف إلى قدر مريع من التغييرات أدت بدورها إلى قدرٍ هائل من القلق». 

وحدد روبنسون سبباً واحداً لهذا القلق حين قال: «قرارٌ واحد جرى اتخاذه في داوننغ ستريت دون تروٍّ بالسماح للمهاجرين من دول الاتحاد الأوروبي الجديدة في أوروبا الشرقية بالدخول إلى البلاد».

يرى روبنسون أن هذا القرار الذي اتخذته حكومة حزب العمال يمكن أن يصبح محل نقاش في أوساط المؤرخين في غضون 50 عاماً باعتباره «القرار الأهم الذي جرى اتخاذه منذ الحرب العالمية الثانية».

ووفقاً لهذا التحليل الذي انتشر في وسائل الإعلام، فإن ما خلق المشكلة كان وصول المهاجرين بأعداد أكبر، وليس الطريقة التي جرى بها تصوير الهجرة أو وصفها أو تداولها أو شيطنتها.

ولكن، ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟

ربما لم تكن الهجرة نفسها هي القضية المحددة للسنوات العشرين الماضية وإنما الطريقة التي تناولتها بها الأحزاب السياسية والصحافة والسياسات التي جرى اتباعها للاستجابة لها.

الفرضية الأرجح هي أن العداء للهجرة كان نتيجة محتومة، مما يجعلها بدورها قضية سياسية شائكة في المملكة المتحدة. 

ورغم أن بريطانيا دأبت على استقبال المهاجرين بشيء من التشكك، فإن قضية الهجرة لم يكن محكوماً عليها أن تصبح بلا مفر القضية التي ستحدث هذا الضرر بنا أو تحيد بسياسة بلدنا بهذه الصورة الهائلة.

وبحلول تسعينيات القرن العشرين، بدأ النزاعات التي شهدها العالم في تحفيز الهجرة. 

ورداً على حالات وصول اللاجئين الأولى في ثمانينيات القرن العشرين، نعتت بعض وسائل الإعلام البريطانية التاميل الفارين من سيريلانكا بأنهم طالبو لجوء «زائفين». وهو مصطلح تبناه الساسة للتشكيك في طالبي اللجوء وتركيز حالة القلق من الهجرة على الجوانب المتعلقة بالإنصاف وإساءة استغلال الكرم الذي تبديه المملكة المتحدة تجاه من يقصدها.

وخلال هذه الفترة، قدم وزراء حزبي المحافظين والعمال سياساتهم المتعلقة باللجوء في هذا الإطار، الذي يفترض حرصهم على الحفاظ على نزاهة المنظومة.

وصعَّد المحافظون الذين كانوا في سدة الحكم في أوائل تسعينيات القرن العشرين خطابهم ضد «طوفان» طالبي اللجوء، حتى في ظل استقبال ألمانيا لأكبر عدد من طالبي اللجوء في أوروبا

وسعى التشريع الذي قدمه المحافظون إلى تسريع عملية «الرفض السريع لعدد كبير من طلبات اللجوء التي لا أساس لها«، وهو ما من شأنه أن «يلعب دوراً أساسياً في ردع حدوث المزيد من حالات إساءة استخدام المنظومة»، وفقاً لعبارات كينيث بيكر وير الداخلية المحافظ بين عامي 1990 و 1992.

وبوصول حزب العمال إلى السلطة عام 1997، كانت الصحف قد دأبت بشكل روتيني على التخويف من القادمين الجدد: إذ في العام المذكور نشرت صحيفة the Daily Mail البريطانية قصة عن «طوفان من طالبي اللجوء المزيفين يجتاح بلدة دوفر الساحلية»، في حين حذرت صحيفة the Independent من أن «الغجر يغزون بلدة دوفر طمعاً في الحصول على مساعدة«. 

غير أن الأرقام الفعلية كانت ضئيلة. إذ لم يقدم سوى 32500 طلب لجوء عام 1997، مع رفض 81% منها.

وفي العقد المؤدي إلى عام 2000، قبلت المملكة المتحدة 1.9% من طلبات اللجوء من سيريلانكا؛ في حين وصل الرقم في فرنسا إلى 73.6%.

ألغت حكومة حزب العمال القواعد التي تحظر على أزواج المواطنين البريطانيين بالانضمام لهم في المملكة المتحدة، وألغت القيود على التمييز ضد المثليين وغيرها من العلاقات طويلة الأجل.

غير أن الأمور لم تسر على هذا المناول الداعي للتفاؤل على طول الخط. ذلك لأن قانون اللجوء لعام 1999 شرع استخدام مراكز الاحتجاز كإجراء إداري روتيني بعد أن كان إجراءً استثنائياً، كما ألغى المزايا النقدية لطالبي اللجوء بقسائم، ذلك لأن المزايا المالية كانت، على حد تعبير وزير الداخلية جاك سترو، «عامل جذب قوياً لطلبات اللجوء المزيفة».

الغريب أن منظومة تفريق طالبي اللجوء أرسلت مقدمي الطلبات إلى أماكن فقيرة من البلاد، دون أن تترك لهم خياراً بخلاف ذلك. وهو ما خلق تصوراً بوجود عبء لابد من مشاركته، مع حرمان الوافدين الجدد من الخدمات القانونية وخدمات الترجمة. ومع تنامي الشعور بالسخط، واجه طالبو اللجوء التحرش والاعتداء البدني في المناطق التي أذكى الساسة والصحفيون روح الغضب من قدومهم فيها.

وبحلول عام 2002، بلغت طلبات اللجوء التي كان معظمها مقدماً من العراقيين في ذلك الوقت، ذروتها لتصل إلى ما يزيد على 80 ألف طلب (ولم تزد عن هذا الرقم منذ ذلك الحين).

رغم أن بريطانيا لم تكن ضمن الدول العشر الأكثر استقبالاً لطلبات اللجوء في أوروبا نسبة إلى عدد السكان. 

ومع ذلك، تعهد توني بلير بخفض عدد طالبي اللجوء إلى النصف في المملكة المتحدة بحلول شهر سبتمبر/أيلول من العام المذكور. 

ويشير التزام حزب العمال آنذاك بخفض العدد إلى هذا الحد إلى اعتقاد ساسة الحزب أن نصف طلبات اللجوء المقدمة على الأقل غير صالحة للقبول.

وفي عام 1998، الذي شكل أوج الهستيريا الإعلامية ضد القادمين من روما، زعم جاك سترو أنه لا يوجد طلب واحد من طلبات اللجوء المقدمة يمكن أن يعتبر صادقاً.

وفي عام 2001، أرسلت وزارة الداخلية البريطانية ضباط هجرة إلى مطار روزين في براغ لإثناء معظم طالبي اللجوء عن الصعود إلى الطائرات التي ستنقلهم إلى بريطانيا. 

وبعد ثلاث سنوات أصدر القضاء حكماً بأن ما حدث يرقى إلى مستوى العنصرية «الممنهجة والمتأصلة».

ثم بدأت سلسلة القوانين التمييزية.. محاولة لفصل أبناء اللاجئين بالمدارس

وفي عام 2001، رغب وزير الداخلية آنذاك ديفيد بلونكيت في إجبار طالبي اللجوء على حمل بطاقات هوية. 

وبعد ذلك بعام، اقترح حزب العمال أن يتلقى أبناء طالبي اللجوء تعليمهم بشكل منفصل، محتجاً بأنهم «يغمرون» الفصول الدراسية». قوبلت كلتا الخطتين بمعارضة شديدة ولم تقابلا بالنجاح. 

وقد عمل قانون الجنسية والهجرة واللجوء لعام 2002 إلى الحد من الوصول إلى المساعدة القانونية وألغى المزايا التي يحصل عليها طالبو اللجوء إذا تقدموا بالطلب بعد أكثر من ثلاثة أيام من وصولهم. 

وألغى القانون أيضاً الحق في العمل خلال فترة انتظار البت في الطلب؛ ذلك لأن التوظيف كان ينظر إليه بأنه عامل «جذب» آخر. 

وقد ألغى قانون اللجوء والهجرة لعام 2004 المزايا التي تحصل عليها الأسر التي رفضت طلبات اللجوء المقدمة منها، في محاولة لتجويع تلك الأسر حتى تخرج من البلاد، كما قال نائب حزب العمال آنذاك ديفيد وينيك محتجاً على القرار.

واحتجت قيادة حزب العمال بأنه إذا كان من الممكن إظهار منظومة اللجوء في بريطانيا باعتبارها منظومة عادلة، فإن حالة العداء ضد طالبي اللجوء ستقل. وتدعم باربرا روش، وزيرة الهجرة عن حزب العمال لمدة عامين حتى عام 2001، هذه المعادلة بقولها: «إذا لم تكن صارماً في إبقاء مسألة اللجوء على الصورة التي نشأ لأجلها، فأنت تخسر المفهوم نفسه. أنا أشعر بحماس شديد لحماية مفهوم اللجوء. لذا، أجل، ثمة قواعد ازدادت صرامة بكل تأكيد».

المعضلة هي أن مسألة العدالة التي سلف الاحتجاج بها تؤجج فرضيات العامة بأن الهجرة أمرٌ غير عادل أو ينطوي بشكل أو بآخر على الخداع. 

ويصف محامو الهجرة المنظومة بأنها أصبحت قائمة على افتراض الكذب والميل إلى تفضيل المهاجرين من الدول البيضاء الثرية. وتصف المحامية فرانسيس ويبر في كتابها Borderline Justice الوضع فتقول إن طالبي اللجوء كان ينظر إليها خلال تلك الفترة على أنهم كاذبون. وفي عام 2000، أرسلت وزارة الداخلية خطاباً لأحد طالبي اللجوء قالت فيها «تعتقد وزارة الداخلية أن طلب اللجوء الذي قدمته ما هو إلا حفنة من الأكاذيب«.

أصر المستشارون في ذلك الوقت على أن حزب العمال لا يحتاج إلى وضع سياسة لاسترضاء قراء الصحف الشعبية. 

وقال أحد كبار المستشارين الاستراتيجيين لتوني بلير إن «حكومة لديها أغلبية قدرها 150 مقعداً تبالغ في الإجراءات التي تتخذها».

غير أن أحد مستشاري وزارة الداخلية آنذاك يقول إن ما يقرب من نصف تغطية الإعلام كل يوم كان عن طالبي اللجوء. 

وأضاف: «كان الصحف تنشر صوراً لأشخاص يحاولون الصعود إلى الشاحنات والقطارات وقطع الأسوار.. كان الأمر بالغ الحدة، لدرجة أن الحكومة كانت تخضع لتدقيق في كل تصرفاتها وتخضع للضغوط من كافة الأطراف». وأضاف أن كل هذه الأمور كانت تحول دون وجود بيئة صالحة لوضع سياسات راشدة.

وبحلول هذه المرحلة، كان الحديث عن الهجرة يفتقر في مُجمله إلى العقلانية. 

ففي عام 2003، نشرت صحيفة The Sun البريطانية خبراً كاذباً في الصفحة الأولى تحت عنوان «شواء الإوز Swan Bake»، حيث زعمت الصحيفة أنَّ الأوروبيين الشرقيين يشوون الإوز الذي اصطادوه من حديقةٍ في شرق لندن (ولم تعتذر الصحيفة في أعقاب الشكاوى، رغم عدم وجود دليلٍ يُؤكِّد مزاعمها). 

وفي غضون 31 يوماً عام 2003، نشرت صحيفة Daily Express البريطانية 22 خبراً في صفحتها الأولى عن الموضوع.

وزاد حزب العمال، بتركيزه السياسي ولغته المُستخدمة، من تلك الانطباعات المتراكمة ضد المُهاجرين واللاجئين الذين «يتسلَّلون إلى المملكة المتحدة ويخدعون النظام ويقتاتون على المساعدات». 

وأقرّ المستشارون آنذاك بأنّ النظرة السلبية تجاه اللجوء بدأت تتحوَّل على نطاقٍ واسع إلى عداءٍ ضد كافة المُهاجرين

وأوضح أحد مستشاري وزارة الداخلية البريطانية أنَّ الأمل حينها كان يكمُن في «استعادة ثقة العامة مُجدَّداً حين يرى الناس أنَّنا نتعامل مع الانتهاكات، ونُحسِّن قنوات الهجرة الشرعية في الوقت ذاته».

لكن مشاعر العامة لا تتحرَّك بهذه الطريقة. إذ قال المستشار: «أدركنا بعد عام 2004 أنَّ الأمور لا تسير على هذا النحو -إذ تحوَّل قلق العامة إلى التركيز على الأوروبيين الشرقيين ببساطة (الذين وصلوا من الدول التي انضمت للاتحاد الأوروبي مؤخراً)». 

وكشفت تقارير مركز أبحاث Institute of Railway Research عام 2012 حول تزايد أعداد هجمات الكراهية العرقية آنذاك -في مدنٍ مثل ستوك وبليموث وبيتربورو- أنَّ المُهاجرين الذين لم يطلبوا اللجوء، إلى جانب السود والأقليات العرقية البريطانية، تعرَّضوا عادةً لأعمالٍ عدائية تفاقمت بسبب انتشار اللجوء والخطاب السياسي القاسي وترهيب وسائل الإعلام.

بحلول عام 2004، كانت نسبة 26% من السكان ترى أنَّ عدد المُهاجرين وطالبي اللجوء في البلاد تُعَد ثالث أهم قضيةٍ يجب التصويت عليها، بعد توفير الخدمات العامة وفرض النظام والقانون. 

وفي العام ذاته، فتح حزب العمال الحدود أمام المهاجرين من بلدان أوروبا الشرقية التي تحمل تصنيف A8، بدعمٍ من عدة أحزاب: جمهورية التشيك والمجر ولاتفيا وأستونيا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا

وحتى يومنا هذا، يُنظر إلى ذلك القرار بوصفه خطأً اعتذر عنه نواب حزب العمال السابقين والحاليين. 

وفي عام 2012، قال زعيم حزب العمال إد ميليباند إنَّ الهجرة كانت «من الأمور التي أخطأنا في تقديرها»، وتحدَّث عن «حرمان المواهب المحلية من الفرص». وفي عام 2013، وصف وزير الداخلية الأسبق سترو الهجرة بأنَّها «خطأٌ مُذهل».

وقبل انضمام دول الـA8، توقَّع تقريرٌ حكومي وصول 13 ألف مهاجر إضافي سنوياً من تلك البلدان. لكنَّه كان توقُّعاً بعيداً، إذ دخل 129 ألف مهاجر من دول الـA8 إلى المملكة المتحدة في عام 2005.

وصُوِّر الأمر لاحقاً على أنَّه أزمة، ولكن الاقتصاد البريطاني في واقع الأمر كان بحاجةٍ إلى تلك الأعداد غير المتوقعة. وحاول ديفيد بلانكت توضيح أنَّ المهاجرين يصلون إلى المملكة المتحدة بأعدادٍ كبيرةٍ على كل حال، وأنَّه من الأفضل انضمامهم إلى سوق العمل بشكلٍ قانوني ليدفعوا ضرائبهم. 

وأظهرت الدراسات المتتالية أنَّ الهجرة الأوروبية، خاصةً من دول الـA8، حققت مكاسباً اقتصادية صافية للمملكة المتحدة.

ونصّت دراسةٌ أعدتها هيلين لاوتون، مع داني بلانشفلاور عام 2008، على التالي: «هناك ضربٌ من العبقرية في حقيقة أنَّ المملكة المتحدة فتحت حدودها أمام تدفُّق العمال المتنقلين ذوي المهارات العالية والحماسة والعلم والتكلفة المنخفضة، إبان توسعة الاتحاد الأوروبي، ويجب أن نمنح الحكومة البريطانية الثناء الذي تستحقه على ذلك القرار».

ورغم أنّ الاقتصاد كان مزدهراً في التسعينيات وأوائل الألفية الجارية، لكنَّه كان مدعوماً بالتمويل والديون ولا يتمتّع به جميع السكان على حدٍّ سواء. 

إذ وصف داني دولينغ، عالم الجغرافية الاجتماعية، توني بلير بـ «ملك عدم المساواة».

ولاحظ أنَّ حزب العمال بين عامي 1997 و2010 تزعَّم في فترةٍ شهدت ازدياد عدم المساواة في الدخل والصحة والثروة فعلياً.

وقال دون فلين، المدير السابق لمنظمة Migrants’ Rights Network: «لم تغفل مجموعةٌ من الساسة عن مهامها ليتمكَّن المهاجرون من النفاذ إلى البلاد. ولكن الهجرة جاءت نتاجاً لطبيعة الاقتصاد الذي تشكَّل في أعقاب الثمانينيات، حيث كان 80% من الناس يعملون في صناعة الخدمات داخل أسرع المناطق نمواً في لندن والجنوب الشرقي، في حين كان الاقتصاد القائم على مدار 24 ساعة طوال سبعة أيامٍ في الأسبوع بحاجةٍ إلى عاملين مرنين للعمل في الساعات غير الاعتيادية داخل وظائفٍ منخفضة الأجر ومن دون حدٍّ أقصى لساعات العمل

ويبذل السكان الأصليون قصارى جهدهم لتفادي تلك الوظائف عادةً».

وربما استخف حزب العمال بأعداد الوافدين من الدول الأعضاء الجُدد في الاتحاد الأوروبي عام 2004، لكن الصحف الصفراء بالغت بشدة في تقدير تلك الأعداد. 

وعشية انضمام الدول الجديدة، توقَّع كُتّاب أعمدة صحيفتي Daily Mail وDaily Telegraph وصول 4 ملايين، أو 4.4 مليون مُهاجر إلى بريطانيا على الترتيب. 

وتوجيهاً لذلك التهويل، أطلق حزب المحافظين بقيادة مايكل هوارد (نجل لاجئ يهودي من رومانيا) حملة لوحاتٍ إعلانية خلال عام 2005 تقول: «ليس من العنصرية أن نفرض قيوداً على الهجرة… هل تفكرون في ما نُفكِّر به؟».

وبالتزامن مع استقرار الوافدين الجدد خارج المدن الكبرى، تصاعدت التوترات حول انتشار اللجوء والترهيب من فقدان الوظائف والموارد، مما أدَّى إلى تنفيذ هجماتٍ بدوافع عنصرية. 

وبحلول عام 2006، كان الحزب الوطني البريطاني يستهدف بعضاً من أكثر المناطق المُهملة في البلاد، ليحظى بمكاسب كبيرة في الانتخابات المحلية لذلك العام.

في الوقت ذاته، كانت فكرة فشل التعدُّدية الثقافية -التي كانت تتسلّل إلى اليمين المُتشدِّد- قد بدأت تتسرَّب إلى الرأي العام. 

وكان الاقتراح السائد هو أنَّ دعاية اليسار المفترضة للتنوُّع قد فشلت في تعزيز التكامل، وحرمت طبقة البيض العاملين من مزاياهم. 

وحدّد ذلك الاقتراح لهجة مسلسل شبكة BBC الوثائقي «موسم البيض White Season»، الذي صدر عام 2008 ليطرح السؤال التالي: «هل صارت طبقة البيض العاملين في بريطانيا خفية؟«.

 وردَّد تريفور فيليبس، رئيس لجنة المساواة وحقوق الإنسان آنذاك، ذلك التوجُّه حين قال إنَّ طبقة البيض العاملين ستحتاج إلى مساعدةٍ في الركود الاقتصادي: «إنّ لون البشرة الذي لا يحظى بأفضليةٍ هو اللون الأبيض، وليس الأسود أو البني». 

ومن هذا المنطلق، جرى الترويج لفكرة أن «طبقة العاملين البيض» هي الأقلية، والمجموعة المحمية التي يجري تجاهلها عنها حتى الآن.

ووصف الخسارة والحرمان بهذه المصطلحات الثقافية منح المهاجمين اليمينيين وسيلةً للزعم بأنَّ التعدُّدية الثقافية في حد ذاتها سمحت باللامبالاة تجاه معدلات الهجرة المتزايدة، وشن حملة ضد مناقشة الموضوع. وارتبط كل ذلك باتَّهام حزب العمال بأنَّه تخلَّى عن معاقله بين الطبقة العاملة.

وكان ساسة حزب العمال يُغذون ذلك الجدال، بموافقتهم على أنَّهم لم يستمعوا إلى «المخاوف المشروعة» بشأن الهجرة. 

وفي وقتٍ مُبكِّر من عام 2009، زعم النواب أنَّ «وتيرة التغيير» كانت أسرع من اللازم، أو أنَّ «الأثر الثقافي والعاطفي» لم يُفهَم بالشكل الصحيح على حد تعبير جاكي سميث، وزيرة الداخلية آنذاك. 

وفي العام ذاته، قال وزير الهجرة فيل وولاس إنَّ هناك حاجة لإيجاد وظائف «للسكان الأصليين«. 

وقالت هازل بليرز، وزيرة المجتمعات: «لا يشعر أبناء طبقة البيض العاملين الذين يعيشون داخل ممتلكاتهم أنَّ هناك أحداً يستمع إليهم أو يتحدث نيابةً عنهم».

وفي يناير/كانون الثاني من نفس العام، وجد تقريرٌ حكومي أنَّ طبقة البيض العاملين تشعر بالتجاهل نتيجة الهجرة. 

كما يشعر سكان المناطق المحرومة، الذين لم يُعايشوا الهجرة بشكلٍ مباشر، بـ «مشاعر ظلمٍ حقيقية ومتصورة» حيال القضية (رغم أن مناطقهم لا تشهد هجرة كبيرة).

علاوةً على إحجامهم عن الحديث مخافة أن يُوصفوا بالعنصريين. 

وإذا نظرنا إلى الوراء الآن، نجد أنَّه من اللافت للنظر كيف منح هذا التقرير اهتماماً متساوياً للمخاوف «الحقيقية» والمخاوف «المتصوَّرة»، بناءً على فكرة ضرورة مراعاة الشعور بالظلم سياسياً، وليس التأكِّيد على الحقائق أو تحميل المهاجرين مسؤولية المشكلة على نحوٍ خاطئ. 

وبعد أربع سنواتٍ من انتقاد حزب المحافظين بسبب استغلاله القضية في حملة اللوحات الإعلانية، قال جوردون براون، في خطابٍ ألقاه خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2009، إنَّ الحديث عن الهجرة «ليس حديثاً عنصرياً».

وظهرت جماعة حزب العمال الزرقاء عام 2009، وهي فصيلٌ يفترض أنَّ ليبرالية الحزب الاجتماعية والاقتصادية أدَّت إلى انخفاض دعم الطبقة العاملة، ودفعت بالمحافظة الاجتماعية بوصفها حلاً للمشكلة. إذ إنَّ نسبةً كبيرة من الأربعة ملايين صوت التي خسرها حزب العمال بين عامي 1997 و2005 كانت من قاعدته في الطبقة العاملة. 

لكن بعض فصائل الحزب وجدت السبب في عناصر أخرى، مثل الاغتراب الاقتصادي والأسلوب الإداري لسياسات حزب العمال الجديد. 

وقالت دايان أبوت: «لقد انتقلنا من مرحلة ما بعد تاتشر إلى مجتمع ما بعد الصناعة، و[حزب العمال الجديد] لم تكن لديه استراتيجيةٌ للتعامل مع الأمر. إذ كان الناس يتأثَّرون اقتصادياً، ويشهدون حياتهم ومجتمعاتهم تتحطَّم.. ولم نُساعدهم، ولم يكن لدينا بديل».

وخسر حزب العمال انتخابات عام 2010، وشاهد أعضاؤه حزبي المحافظين والديمقراطيين الليبراليين وهم يُشكلون حكومةً ائتلافية. 

وعلى الجانب الآخر، لم يُسمح لبراون أن ينسى فضيحة «وصفه لإحدى مناصرات الحزب بالمُتعصبة»، وحُوصِر حزب العمال بالاتهامات أنَّه أوقف النقاش الدائر حول الهجرة، رغم أنَّ الموضوع كان يُهيمن بوضوحٍ على السياسة آنذاك. 

وكانت هذه التهمة تأتي من المحافظين، ومن داخل حزب العمال نفسه أيضاً. وزعم أندي بورنهام، خلال ترشُّحه لزعامة الحزب في عام 2010: «لا يزال هناك تردُّدٌ بين بعض أعضاء حزب العمال حيال مناقشة الهجرة». 

وهيمن الموضوعان على انتخابات عام 2015. وتذكَّر أحد مستشاري إد ميليباند، خليفة براون في زعامة حزب العمال، الرواية السائدة عن العمال في وسائل الإعلام آنذاك بوصفه حزباً «دمَّر الاقتصاد، وفتح أبواب الفيضان أمام الهجرة، وتزعَّمه شخصٌ بدا غريب الأطوار وطعن شقيقه في ظهره».

وقال مستشار ميليباند الرئيسي: «قضينا خمس سنواتٍ في خوفٍ رهيب. وإذا عاد بنا الزمن إلى الوراء، كُنت سأُجبر إد على إلقاء خطابٍ حول مغالطة تحميل الهجرة المسؤولية عن واقع خفض النفقات بسبب التقشُّف». 

وبدلاً من ذلك، قدَّم حزب العمال تعهُّدات غامضة حول زيادة رعاية هيئة الخدمات الصحية الوطنية ورفع الأجور للأسر العاملة. 

وانتهى الأمر بوضع واحدةٍ من شعارات «الضوابط على الهجرة» على الأكواب الدعائية للحزب (الذي يفترض أن جذوره يسارية)، في إشارةٍ حزينة إلى تحوُّلٍ يميني على شكل شعار.

وفي مارس/آذار من العام الجاري، كشف استطلاعٌ أجرته شركة Ipsos Mori أنَّ الرأي العام الإيجابي كان أكثر من السلبي فيما يتعلَّق بتأثير الهجرة على بريطانيا. إذ قال واحدٌ من أصل كل خمسة أشخاص إنَّه صار أقل سلبيةً حيال الموضوع. 

وحين سُئلوا عن السبب، قال 51% منهم إنَّ النقاشات ركَّزت خلال السنوات الأخيرة على إسهامات المهاجرين الكبيرة في اقتصاد المملكة المتحدة. 

وهذا تحوُّلٌ مُشجِّع بالنسبة لأولئك الذين جادلوا بأنَّ الرواية العامة المُناهضة للهجرة كان من الممكن أن تهدأ، في حال صاغ اليسار السياسي البريطاني دفاعاً قوياً عن الهجرة.

وأظهرت تسجيلات المناظرات البرلمانية اعتراضات -جرى تجاهلها صراحةً- على سياسات الهجرة العدائية والعقابية التي وضعها حزب العمال الجديد، والتي يعود تاريخها إلى وقت استحواذه على السلطة عام 1997، من جانب ساسة حكومة الظل آنذاك مثل دايان أبوت وجيرمي كوربن. وقاد بيل موريس، الأمين العام لنقابات النقل والعمال العامة آنذاك (التي تحوَّلت إلى نقابة «يونايت Unite‌ ‌the‌ ‌Union‌» لاحقاً)، حملةً مناهضةً لقسائم اللجوء. مما أدَّى إلى إلغائها عام 2001، قبل أن يعود العمل بها في عام 2006. 

وفي عام 2003، جادل تقرير مؤتمر اتحاد نقابات العمال بأنَّ عدم وضوح وسائل الإعلام والحكومات في تمييز الفارق بين طالبي اللجوء المرفوضين، وبين العمل غير القانوني، وبين الدخول غير الشرعي، وبين الأنشطة الإجرامية -مثل الاتجار- أدَّى إلى تغذية الشكوك العامة حول كافة المُهاجرين.

وخلال السنوات الأولى لحكومة بلير، كانت الحكومة تجني ثمار نصرها التاريخي، في حين استمتع رئيس الوزراء بالشعبية الجارفة والدعم من صُحف The Sun وDaily Mail. 

وترى دايان، وآخرون، في تلك الفترة فرصةً ضائعة لإعادة تحديد شروط النقاش. إذ قالت: «كان بإمكان توني بلير أن يستخدم قدرته الكبيرة على الإقناع لدى طبقة إنجلترا الوسطى من أجل عرض القضية بطريقةٍ مختلفة تتمحور حول دور الهجرة وأسباب طلبات اللجوء. لقد كان في وضعٍ جيدٍ للغاية يسمح له بتغيير النقاش».

لكن حزب العمال الجديد لم يكُن يرغب في معارضة المشاعر العامة، إذ قال أحد المستشارين الخاصين بوزارة الداخلية عن تلك الفترة: «كان هناك شعورٌ بالعداء العام الحقيقي. لم يكن باستطاعتنا أن نلتف حول العداء ببساطة ونقول للناس: إنَّ عداءكم خاطئ وفي غير محله»

وتحدث أحد مستشاري ميليباند، بين عامي 2010 و2015، عن هذه الغريزة نفسها: «لا يُمكن أن تكون جملتك الأولى للجمهور هي: أنتم مُخطئون بشأن الأمر الذي تُفكرون فيه وتشعرون بالقلق حياله».

وكتب عالِما السياسة أنثوني غيديس وجوناثان تونغ عن «التأثير التصاعدي» الذي تُؤدِّي به الكلمات والسياسة القاسية تُجاه الهجرة إلى منح القضية مزيداً من الأهمية، مما يخلق بدوره تعطُّشاً عاماً لكلماتٍ وسياسةٍ أكثر قسوة. 

إذ قالت دايان: «إذا كان حزب العمال يتحدث مطوّلاً عن الهجرة، فسيشعر شعبنا بضرورة أن يتحدث مطوّلاً عن الهجرة. وإذا حوَّلنا اهتمامنا إلى أمور أخرى، فسيتوقّفون عن الشعور بأنّ الهجرة هي أفظع ما يُؤثّر على حياتهم».

وربما يُمكن تفسير تراجع اعتبار الهجرة مصدراً للقلق العام بأنَّ الساسة -والصحف الصفراء- توقَّفوا عن «الحديث مطوّلاً» حول الهجرة، بالدرجة المحمومة التي سادت في السنوات السابقة لاستفتاء بريكست.

إذ صارت الهجرة الآن تحتل المركز السادس، بعد البيئة، بوصفها أكبر القضايا خلال انتخابات ديسمبر/كانون الأول، العامة. 

أما قضية بريكست، التي تصدرت قائمة استطلاع YouGov للأسبوع الماضي، فربما يعتبرها البعض وكيلاً لقضية الهجرة. ولكن ربما كان لفضيحة ويندراش (فضيحة مرتبطة باتخاذ وزير الداخلية المحافظة سياسات صارمة لترحيل المهاجرين دون إطلاع البرلمان) أثرٌ في ذلك، إلى جانب نقص الأيدي العاملة في مجالات الرعاية الصحية والاجتماعية والضيافة والزراعة. 

وأظهرت استطلاعات حزب العمال الداخلية اتفاقاً كبيراً مع العبارة القائلة إنَّ «الساسة حمَّلوا الهجرة، والمستفيدين من الدعم، المسؤولية لصرف انتباه الناس عن إخفاقاتهم».

وفي حين عكف حزب العمال في عهد كوربن على تغيير إطار النقاش حول التقشُّف وإعادة توزيع الثروات وإعادة التأميم، لكنه لم يُسارع إلى إحداث تحوُّل مماثل على الهجرة. 

وظهرت فرصةٌ نادرة لفعل ذلك وسط الغضب الشعبي حيال فضيحة ويندراش، حين عَلِقَ جيلٌ من المواطنين البريطانيين في شبكة الحكومة لتصيُّد «البيئة المعادية»، مما أسفر عن ترحيلهم وحرمانهم من الحصول على السكن والرعاية الصحية. 

وفي خضم النقاش الذي كان شديد التعاطف مع القضية، انتهى الأمر بنواب حزب العمال إلى تعزيز الصور النمطية حول المهاجرين «الجيدين» و «السيئين» أو «غير الشرعيين»، مما رسَّخ فكرة النظام الذي فشل في الفلترة بشكلٍ صحيح، بدلاً من توسيع الإطار لاستكشاف كيف أنَّ العملية برمتها مبنيةٌ على الشك والتحيُّز.

وفي الوقت ذاته تضاءلت أوراق اعتماد القيادة فيما يتعلَّق بالهجرة، والتي اكتسبها الحزب بفضل عقودٍ من الدعم لمختلف الحالات والقضايا، بسبب تعهُّد حزب العمال بإنهاء حرية الحركة (مبدأ حرية الحركة بالنسبة للمواطنين الأوروبيين دخولاً وخروجاً من بريطانيا). 

وتجاوز الفزع الشعبي حيال الأمر الحاجة إلى الدفاع عن المبدأ الأهم، إذ بدا الحزب وكأنَّه يُغلِق الأبواب التي كان يجب أن يستغلها لإقامة الحُجج المُؤيدة للهجرة، والتي افتقر إليها خلال السنوات التي كان يوصف بها بـ «حزب العمال الجديد». 

وباختلاف الحزب حول قضية بريكست؛ أظهر العمال أنَّه مصابٌ بنفس التردد السياسي الذي عانى منه طويلاً فيما يتعلَّق بقضية الهجرة. لدرجة أنَّ العناصر التي تدعم مشروع كوربن أساءت توجيه ضرورة تمثيل الطبقة العاملة، عن طريق استخدام لغةٍ تُغذي الأُطُر الشعبوية اليمينية المُتمثلة في العداء للهجرة. 

وكان ذلك الأمر واضحاً في تدخُّل لين ماكلوسكي، الأمين العام لنقابة «يونايت»، وحثه الحزب على عدم دعم حرية الحركة. وأدَّى ذلك بدوره إلى رد فعلٍ ساخط من جانب الناشطين وكبار شخصيات الحزب على حدٍّ سواء، لدرجة أنَّ أحدهم وصف ماكلوسكي بأنَّه «جزءٌ من جناحٍ مُحافظ رجعي النظرة يشعر بالحنين إلى الماضي في قلب حركة العمال، ويرغب في توفير «حقوق النقابات العمالية للعمال البريطانيين»».

ومع استعداد الحزب لإصدار بيانه، ينتظر الناشطون لرؤية ما إذا كان البيان سيحترم مذكرة الهجرة التي مُرِّرَت خلال المؤتمر السنوي للحزب في برايتون، شهر سبتمبر/أيلول، وتشمل التزاماً بحرية الحركة. 

ويُشير استعداد حزب العمال لطرح فكرة منح مواطني الاتحاد الأوروبي حقوق التصويت الكاملة أمام البرلمان قبل بضعة أسابيع إلى احتمال تبنِّي المذكرة بوصفها سياسة. وفي الأسبوع الماضي، قال كوربن إنَّ حرية الحركة «تُثري حياتنا جميعاً»، وهذ تحوُّلٌ في اللغة يتجاوز المساهمة الاقتصادية. 

وأردف: «أُريد التأكُّد من بقاء كافة مواطني الاتحاد الأوروبي هنا، وقدرتهم على المجيء، واستمرارهم في الإقامة. وسنكون سعداء بالتعاون معهم، كما انتقل العديد من البريطانيين إلى أجزاءٍ أخرى من أوروبا للإقامة فيها». 

وأظهر آخر استطلاعات YouGov أنَّ 67% من الناس يُؤيّدون الاحتفاظ بحقوق حرية الحركة المتبادلة في أعقاب بريكست، وهو أمرٌ من المرجح أن يلتزم به حزب العمال الآن.

وقال مصدرٌ مُقرَّبٌ من قيادة الحزب إنَّ هذا التحوُّل يُعزى إلى «الكثير من العمل الجاد داخلياً والضغوط من الأعضاء»، مُضيفاً أنَّ تخفيف المواقف العامة تُجاه الهجرة وفضيحة ويندراش كان لهما تأثيرٌ على النواب، الذين كانوا سيترددون سابقاً فيما يتعلَّق بسياسات تأييد الهجرة. 

لكن تاريخ الحزب المُتعلِّق بالهجرة يُشير إلى أنَّه قد يستغرق بعض الوقت لإدخال تغييراتٍ كبيرة على الخطاب والسياسة. ومن المحتمل أن تظهر عقباتٌ أخرى على الطريق، حتى في وجود قيادةٍ داعمةٍ للهجرة من الناحية النظرية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى