ثقافة وادب

كفتاة أردنية.. هذا هو الشيء الوحيد الذي أرغب فيه مع بداية عام جديد

الشيء الحقيقي الوحيد الذي أرغب في بدء
العام به هو الوطن، وأسمى ما في الوطن شهداؤه الذين بذلوا ريعان شبابهم ليعيش
الوطن دون أن يسألوا لمن سيعيش بعدنا الوطن، هذا الذي انبثق على لسان الشهيد
الملازم أول خضر شاكر يعقوب في معركة الكرامة، أي نفس هذه التي تطلب رميها! لم
يفكر في القبر وظُلمته، ينادي الموت فلبّاه، إنَّ صوته أجمل صوت تسمعه، قشعريرة
سَرَتْ في مسامّي، لقد أخذني صوتك إلى حنين أمي التي قصَّت لي بدموعها وحسرتها
الثلاثاء الحمراء وكلمات فؤاد حجازي لأمه:  لا تجزعي يا أمّاه، فإنّ الأحرى
بك أن تقولي: ليت ألف فؤاد مثل فؤادك كي يقوموا بالواجب نحو بلادهم. ها هو يا فؤاد
ينادي الموت ويقول له انتهى. يا فؤاد، لم يمهل نفسه ليكتب وصيته، لكنه كتب بدمه
روح الوطن، أين أمير الشعراء ليكتب له قصيدة مطلعها «الهدف موقعي ارمِ ارمِ
انتهى»، ألا ليتني كنت التراب الذي شبّ على دمك؟

كتب محمد جمجوم إلى شقيقه أحمد قال:
تأثرت كثيراً من قولك حين زيارتك لي إنك ستأخذ بثأري. فهذا -يا حبيبي- لا يعنيك
أنت، لأني لست بأخيك وحدك؛ بل أنا قد أصبحت أخا الأمّة وابن الأمة جمعاء، إن يوم
شنقي يجب أن يكون يوم سرور وابتهاج. لقد أخذ بثأرك أخوك الملازم أول خضر شكري
واستشهد على أعتاب الوطن، كما استشهد مِن قبله الجنود الأردنيون في عام 1948م مثل
الشهيد علي حسن العوران، طلع من الطفيلة عريساً يتهيأ للزواج، فقال له والده: بعد
رجوعك من حرب فلسطين تتزوج، وفُقد ولم يُعرف مصيره إلا بعد خمسة وستين عاماً، لقد
حنَّته فلسطين بترابها وزفَّته عريساً عمواس، كما احتضنت زملاءه شهداء ضمتهم في
حضنها، سأكتب لك يا علي العوران على نهج الأغنية الشعبية من سجن عكا وطلعت جنازة،
سأكتب لك من الطفيلة طلع عريس شيخ الشباب علي حسن العوران وزفته عمواس لغزلانها،
لا تبكيه يا أمه ولا تنتظريه يا عروسه، فالجنة فتحت له أبوابها.

زاحم محمد جمجوم
عطا الزير ليأخذ دوره غير آبهٍ، أما عطا وهو الثالث، فطلب أن يُنفَّذ حكم الإعدام
به دون قيود، إلا أن طلبه رُفض فحطم قيده وتقدَّم نحو المشنقة رافع الرأس منشرح
الوجه، كانوا يعلمون أن الوطن سيلد رجالاً يحملون أرواحهم فداء له ويكملون مسيرة
الشهداء، والتضحية. يحضرني قول الشهيد وصفي التل: «يجوز أن أكون أنا ضحية
ويجوز غيري يصير ضحية إذا كنا على حق فواجبنا نقدم هالتضحية»، أبشرك بأن
أمهاتنا علمننا أننا على حق، وواجبنا نقدم التضحية، وما زال الشهداء يتقاطرون
تضحية بشبابهم وأعمارهم ليعيش
الوطن وقضيته.

إن هؤلاء الشهداء لم يرتادوا مقاهي
المثقفين، لم يسألوا أنفسهم لمن سيحيا الوطن، بذلوا الروح ولم يكتبوا: سيحيا الوطن
لابن زنا ينتهكه ويتقاضى الثمن، وهُم الوطن، هم الكريم والجواد وبعداً لعُبّاد
الوثن. إنك يا سيدي ملازم أول خضر شاكر يعقوب بصوتك أَثَرْت الشجن، ككل شهيد أسألك
ألم تحنَّ إلى أمك قبل الوطن، وتتذكر صبية ترنمت على عينيك كدحنون الوطن، صوتك
سكين شرخ شرياني وصبَّ دمك في دمي، فصرت لك عرضاً، لأنني ابنة الوطن وشرف كل من
يبذل النفس فداء ليحيا الوطن. الملازم أول خضر شكري اسمع صوتك في كل رجل
يعرف  قضيتنا التي هي أسمى من الحياة، نؤمن بها ونموت لأجلها، إنك وكل
الشهداء كالشمس، إذا ما اعترى الوطن تعبٌ أشرقت ودبَّت فيه الروح، إن الأحرار هم
سنديانة الطابوري (الملول) لا تشيخ ولا تموت في وطني.

«واحد واحد.. الهدف موقعي ارمِ
ارم.. انتهى»، لا أدري أي حنين هذا الذي دفعني لأبحث عن صورتك، لكأنني عشت
معك، ونظرت إلى عينيك، إنني أعلم تماماً أنك قلت كلماتك واستقبلت الموت بذراعيك
كحبيبة حسبت  الدهر ضيَّعها، استقبلت القِبلة ودعوت الله ليقبلك شهيداً في
جنّاته، لم تمهل نفسك لتودّع الأحبَّة، كل ما رأيته تراب الوطن، تمنيت أيضاً لو أن
القدس تحررت وصلَّى أحبَّتك في أقصانا، ودقَّت أجراس كنيسة القيامة، ليردَّ أذان
في الحرم الإبراهيمي قُبلات أجراسها وتراتيل كَهَنتها بترحيب التكبير والتهليل
وآيات الحمد. لربما ناداك مَقْدسيٌّ: تعال يا ابني زوَّجتك بنتي عروساً، مهرها
صوتك، ولربما حيَّتك أجمل بنات الخليل تغطي خجلها بالشال قائلة: حيَّ الله
النشامى، إنها تثق بقدسية عِرضها عندك كقدسية الشهادتين على شفتيك، أي حلم تراءى
لك وأنت تردد «ارمي انتهى»، إن الرجل يُعرف بكلمته، وبكلمتك اختصرت
القصص والمعاني والقضية، لطالما أعجبني من الرجال مَن حزم أمرَه ونهى بـ
«انتهى».

إن الأرض تحفظ شهداءها، فهم يعيشون
خالدين في ذاكرتها، لكل أُمّ شهيد: لا تبكيه فإنه روح تعيش في عالم أسمى وأطهر من
كل براثن حياتنا. إذا سألتَني ألى أي جهة في الوطن تنتمي، ومن أي بقعة من الوطن
أنت؟ فسأقول لك: إنني أنتمي إلى بلد كل شهيد وأسير أفنى شبابه لتظلَّ قضية الوطن
سامية، إنني يَسْري في عروقي دمُ خضر شكري ومحمد جمجوم وكل الشهداء الذين قضوا
تاركين الحياة ليخلد تراب الوطن طاهراً، إنني مع كل أسيرٍ يرقد ليلاً بين جدران
تُعذِّبه قسوتُها، يثبت للعالم كذبَه، ففي الوقت الذي تتكاتف فيه جهود الناشطين للدفاع
عن قضايا إنسانية، لا يجرؤ أحدهم على دقِّ باب السجان، وإخباره بأن حرية الرأي
والتعبير والدفاع عن الأرض التي نعيش عليها لا تستدعي إيداع صاحبها في الزنازين
وإقفال الأبواب، إنهم إنسان، يحملون غيرة على مصلحة الوطن، يبذلون عمرهم ولوعة
أمهاتهم، واشتياق أحبَّتهم ليبقى الوطن ماضياً نحو مستقبل أفضل عزيزاً أَبِيّاً.

أرض الكرامة خلدت صوتك وروحك، كلما
طالعت صورتك البهية ببدلتك العسكرية، ترددت في سمعي أغنية شعبية حفظناها ورددناها
في كل مناسبة وطنية: «ينشد الظهر فيكو نشامى ونحيكو والتاج الي عليكو للمراجل
علامة، والله انكو زلام والله»، لروحك ولكل شهداء الوطن جنات الخلد
والأبدية.. ولكل أسيرٍ، فكَّ الله قيدك يا زينة الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى