لايف ستايل

«إله الفجوات».. حينما عجز نيوتن ومعه عالِم ملحد عن تفسير الكون فلجآ إلى الله

هناك مصطلح في الإنجليزية يدعى «God of the gaps»، وبالعربية «إله الفجوات».

هذا
المصطلح يقال إن أول من استعمله هو الفيلسوف اللاديني والعدمي نيتشه، ولكن هناك
غيره ممن أشاروا إليه لاحقاً، منهم من هم رجال دين.

المصطلح
يتكلم عن ظاهرة موجودة بين أصحاب الميول الدينية، وهي ظاهرة استدعاء الله
واللجوء إليه لتفسير ما عجز العلم عن تفسيره. هذه الأمور هي الفجوات التي لم يستطع العلم أو
العلماء أن يسدوها بعد، وهي الفجوات التي يستغلها البعض للبرهنة على وجود الله
كتفسير وحيد لهذه الفجوات التي عجز العلم عنها.

ولذلك قام، سمهم العلمانيين إذا شئت، ومن باب التهكم، بإطلاق
مصطلح «إله الفجوات» على مثل هذه الحالة.

القصة الشهيرة عن «إله الفجوات» والتي قد سمعها بعضكم، هي قصة
نيوتن الذي وضع قوانين الجاذبية. فبعد أن وضعها، شرع يحاول تفسير مدارات الكواكب
المعروفة آنذاك، ولكنه سرعان ما اصطدم بمعضلة موازنة هذه المدارات تحت تأثيرات
الكواكب الأخرى. لم يكن لديه مشكلة في تحديد مدارات الكواكب لو كانت الشمس هي
الجسم الوحيد الذي يؤثر على الكواكب، ولكنه أدرك أن الكواكب أيضاً تؤثر في بعضها
البعض تأثيرات طفيفة جداً، ولكنها قادرة على تغيير مدارات الكواكب بشكل كبير مع
الزمن. بمجرد أن أدرك نيوتن حجم وتعقيد هذه المعضلة بسبب محدودية الإمكانيات
الحسابية المتاحة له في ذلك الوقت قام وأعلن أنه لابد أن الله يتدخل بين الحين
والآخر لحفظ توازن المدارات وإلا لانهار النظام الشمسي.

الحقيقة
أن نيوتن معذور فيما وصل إليه. فالعلماء وحتى وقت قريب جداً كانوا ما زالوا يدرسون
مسألة النظام الثلاثي للأجسام لما فيها من تعقيد، فما بالك بنظام شمسي فيه 9 أجرام
سماوية. فقط في القرن العشرين ومع تقدم علوم الحاسوب وازدياد قوة الكمبيوترات
استطاع العلماء حل مسألة النظام الشمسي تقريباً. طبعاً فيما بعد تبين أنه حتى
نظرية النسبية العامة لها تأثيرات طفيفة جداً على حركات الكواكب بالذات عطارد،
لذلك لا ضير على نيوتن أن يستسلم أمام هذه المسألة عام 1690.

مثال آخر، وربما مهم، على «إله الفجوات» هو ما جرى
مع العالم الفيزيائي الفذ فْرِدْ هُويْل الذي كان ملحداً جداً ورافضاً لنظرية
الانفجار العظيم لا لسبب إلا لأنها
تتضمن بداية للكون، وقد كان من المؤمنين أن الكون لا نهائي بلا بداية ونهاية. كان
يحاول هويل تفسير كيف تتكون العناصر في الكون وبالذات عنصر الكربون الضروري لتكون
الحياة، ولكن نظريته كانت تعتمد على تكون نوع من ذرات عنصر الكربون النادر جداً
جداً جداً. احتمالات تكون هذا العنصر كانت ضئيلة جداً بل تقارب أن تكون صفراً وليس
هناك أي دليل على وجود هذا العنصر، ولكن بعد سنوات من البحث استطاع علماء إثبات
وجود هذه الحالة النادرة لعنصر الكربون (تسمى الآن حالة هُويْل) واللازمة لتفسير
تكون معظم عناصر الجدول الدوري.

بعد أن سمع هويل أن هذه الحالة النادرة لعنصر الكربون قد تم اكتشافها مما يؤيد صحة نظريته في تكوين العناصر، قال كلمته الشهيرة:

«التفسير
المنطقي للحقائق يتطلّب أن كائناً ما بالغ الذكاء صمم نواة الكربون وإلا فإن
احتمال العثور على حالة للكربون بمثل هذه الغرابة من خلال قوى الطبيعة العمياء
يكاد يكون مستحيلاً».

ثم يمضي ليقول:

“The universe is a put up job”

«الكون هو مؤامرة مسبقة التدبير».

هل
كان فرد هويل، العالم الذي قضى حياته باحثاً عن الحقيقة بعيداً عن كل الأديان، يستعين
بجدلية «إله الفجوات» لتفسير وجود هذه الحالة الغريبة لذرة الكربون
والتي هي ضرورية لتكون كل ما هو حي؟ قد يبدو الأمر كذلك.

ظاهرة إله الفجوات قديمة جداً. فعندما لم يستطع الإغريقي
القديم أن يفسر البرق جعله سلاحَ زيوس. وعندما واجه الروماني نفس المعضلة مع المطر
جعله بيد جوبيتر. والأمثلة على هذه الظاهرة ستكون كثيرة وممتدة على امتداد التاريخ
البشري.

أظن
أننا كلنا نحن الباحثين عن الحقيقة، مذنبون باستخدام أسلوب «إله
الفجوات» لأسباب مختلفة. منا من يستخدمه لأن لديه رغبة داخلية ما للبحث عن
حقيقة ما. منا من يستخدمها للتقليل من قيمة هذه الحقيقة، ولكن الأسوأ هو أن تستخدم
للتقليل من شأن العلم والعلماء في محاولاتهم لسد فجوات قد تبدو للبعض نوعاً من
الغيبيات.

قد
لا يكون هناك ضير في اللجوء إلى جدلية (argument) إله الفجوات. ولكن المشكلة في هذه الجدلية هي أن هذه الفجوات
تتناقص ولا تتزايد مع الزمن، لتظهر فجوات أخرى غيرها في أماكن أخرى من العلم
البشري. وإذا كانت هذه الفجوات هي الأماكن التي يعتقد البعض أن فيها تختبئ الحقيقة
المطلقة فخيبة الأمل ستكون عظيمة عندما يكتشفون أن هذه الفجوة كانت تختبئ فيها
معادلة رياضية ما بدلاً من حقيقة ما كانوا يروجونها.

هناك
فجوات عظيمة ما زالت متسعة جداً على العلم كي يرقعها حتى على المدى المنظور. منها
بداية الحياة على الأرض مثلاً أو اتزان الكون، ولكن العلم لا يزال يحاول. قد يكون
من المغري أن نستدعي الرب لسد هذه الفجوات كما فعل نيوتن قبل أكثر من ثلاثمئة سنة، ولكن قد يكون من الأفضل أن نكون أكثر حماساً للعلم
كي يتقدم ويسد هذه الفجوات يوماً ما. عندئذ لا يزال بإمكانك أن تنظر للتفسير
العلمي الذي سد الفجوة وتقول «سبحان الله»، دون أن تشعر بهزيمة.

مروان البرغوثي حاصل على الدكتوراه في مجال أشباه الموصلات، مقيم في كندا و يعمل في مجال الشرائح الإلكترونية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى