لايف ستايل

لو بكرة نهاية العالم

كانت أغنية «لو بكرى نهاية العالم» نوعاً من «الروشنة» إلى وقت قريب، ولا يمكن بأي حالٍ تصديق ذلك، ولم يخطر ببال أحدنا حتى أن يفكر بالأشياء التي قد يفعلها إن علم أن نهاية العالم قد تكون غداً؛ مجرد نوع من الدندنة يشبه روايات الفانتازيا، حيث نفترض أشياء لا تحدث في الغالب، كأن يهبط الفضائيون ويحتلوا الأرض، يعتقل الإنسانُ الآلي الإنسان العادي، يحارب العالم فيروساً قاتلاً يقضي على عدد كبير من البشرية، يجلس الناس في بيوتهم وتغلق الحدود بين كل دول العالم.. صارت الفانتازيا حقيقة، وصار «لو بكرى نهاية العالم؟» سؤالاً يستحق الوقوف عنده، لو بكرى نهاية العالم نفسه؟ أو على الأقل، لو بكرى نهاية العالم بالنسبة لأحدنا؟

على الأرجح، لو بكرى نهاية العالم، كنت سأندم أولاً،
على ترك الذين أحبهم دون عناق، ولم يكن يخطر ببالي أن يأتي علينا وقتٌ تُحظر فيه
الأحضان أو الربت على الأيدي، سأعتذر لهم على كل مرةٍ كان واجباً فيها الضمّ ولم
أفعل، على كل وداعٍ باردٍ كان خالياً من كل شيء سوى الكلمات الروتينية: السلام
عليكم، خلي بالك من نفسك، طريق السلامة، أشوف وشك بخير. سأطلب منهم الصفح عني،
سأستأذن الفيروس، سأعقم يديّ، وأعقم أيديهم، وأمسح وجوههم بمنديل مبلل مضاد
للبكتيريا، وأضمهم في حضن طويلٍ، لا تبدو له نهاية.

كنت سأقول لعددٍ غير قليلٍ من الناس إنني أحبهم،
سأخبر الفتاة التي رأيتها وحيدةً في المقهى تزدرد الطعام بصعوبةٍ، في الواحدة
صباحاً، وعلى وجهها ألف علامةٍ للحزن، إنني بإمكاني سماعها، سأسألها إذا كانت لا
تمانع بالتفكير في صوتٍ مرتفعٍ بما يكفي لأربعة آذان، سأعدها أن أسمعها ثم أنصرف،
ولن تراني ثانيةً، ربما في نهاية اللقاء كنتُ سأقول لها: أحبك، كنتُ سأخبر الشاب
الذي بالمقهى أن كل شيءٍ سيمضي، كنتُ سأطلب من الشيخ الذي بالطاولة المقابلة أن
نتناول غداءنا معاً، ما دام كل منا وحده، وأسمع منه خلاصة عمره، وعبرة حياته،
وشكواه من ألم المفاصل.

لو بكرى نهاية العالم، كنتُ سأطلب من فتاة المتجر
رأيها في ما أرتديه، يليق بي؟ يليق بي جداً؟ لون مختلف؟ نغير الموديل؟ نغير
المقاس؟ أرفع يدي؟ السترة ضيقة؟ أحتاج إلى واحدةٍ بنفس اللون والشكل والموديل، لكن
أكبر درجةً واحدة؟ ثم أشكرها في النهاية، ممتناً لها على جميل صنعها، وأنصرف،
تاركاً لها سُترةً هي الأخرى، ورسالة شكرٍ في سطر واحد.

لو بكرى نهاية العالم، كنتُ سأكتشف غالباً أنني أصلي
لأول مرةٍ لأنني أحب الله، لا لأن الصلاة فرضٌ عليّ، سأشعر بمذاقها مختلفاً تماماً
عن أي وقتٍ سابق، سأطيل الركوع، وأطيل السجود، وأطيل الوقوف على الكلمات والأذكار،
كنتُ سأبكي، سأفهم أن الوقت متأخرٌ جداً لذلك الاكتشاف، لكن سأبكي لأنني على كل
حالٍ اكتشفتُه، ورأيتُ الله لأول مرةٍ قبل أن تغمض عيني مجدداً، كنتُ سأصلي وشيءٌ
في داخلي يدفعني ألا أسلّم، وألا أنهي صلاتي، سأتذكر كل النعم، كل موقف نُجدت فيه باللحظة
الأخيرة، كل سيارةٍ كبح سائقها الفرامل فجأة قبل دهسي، لم يكبحها هو، هو نفسه لم
يستوعب ما حصل، شكرته ومضينا، لكن غالباً كنتُ سأكتشف اليوم أن الله هو الذي كبح
الفرامل. كنتُ أيضاً سأتذكر الأشياء التي بكيتُ لأجلها وتمنيتُ لو حدثت، وسألت
لماذا توقفت عند آخر خطوة؟ لماذا أعطاني الله الأمل في البداية إذا كان سيسلبه مني
في النهاية؟ لماذا «العشم» أصلاً؟ ثم أدرك أن ذلك كان فداءً كبيراً، كان قدراً
عظيماً، ألا يحدث.

لو بكرى نهاية العالم؟ كنتُ سأمكث أكثر عند قدمي
والديّ، كنتُ سأدع التليفون جانباً، سأبقيه على وضع الطيران، وأبقى أنا على وضع
السكون، على وضع إلغاء الرحلات كلها، لأن الإقامة هنا مغرية، والسكن دافئ، والمقام
مريح، وتلك الأنفاس ستذهب سُدى إن لم أدفأ بها، ستحترق، ستنتهي في الفراغ، وآخرون
على الطرف الآخر يرقبون أنفاس الذين يحبونهم ولا يجدونها، وأنا أترك الذين وجدتهم
وأذهب؟ لو بكرى نهاية العالم، لقضيتُ الليلة كلها بجوارهم.

لو بكرى نهاية العالم؟ كنتُ سأخبرها، كنتُ سأقول لها
إنني أحببتها، لم أكن لأذهب ويدفعني كبريائي لتركها تجبر نفسها على التظاهر بأنني
لستُ فارقاً بالنسبة لها إلى هذا الحد، كنتُ سأقترب، كنتُ سأدنو، كنتُ سأغني بصوتي
المزعج ألف أغنيةٍ للبقاء، كنتُ سأرقص معها على لحنٍ أبدي، يصور لنا «بكرى» غير
مهم، لا يعنينا قربه أو بعده، ما دمنا اليوم معاً، والليلة معاً، وسنمضي إليه متى
كان وأينما حان.. معاً.

لو بكرى نهاية العالم؟ كنتُ سأبقى، لم أكن لأحزم
حقائبي وأسافر، كنتُ سأعتذر للمطار والطيار والطائرة، وأقول إنني قررتُ التراجع،
اخترتُ أن أختم حياتي هنا بدلاً من ختم الجواز، وأن أدفَن هنا، سأشطب كلماتي التي
كتبتها سابقاً عن متعة السفر، وعن شهوة «التنطيط» في بلاد الله، سأجلس مكاني،
وأسافر بين ضحكات الأصدقاء وعيونهم، سأخبرهم أنني مرتاح هكذا، وأن متعة الطائرة لا
تساوي شيئاً بالنسبة إلى متعة السير معهم على قدميّ، كنتُ سأقضي السهرة معهم، ولا
أعود إلى منزلي فجراً، كنا سنسهر، ونبقى حتى الصباح ننتظر نزول «تتر» النهاية
معاً، وفيه أسماؤنا.

لو بكرى نهاية العالم؟ كنتُ سأتجول في الشوارع،
سأصافح المباني، سأتوقف عند التفاصيل التي مررتُ عليها متعجلاً من قبل، كنتُ
سأشتري وردةً حمراء من بائعة الورد، وأهديها لبائع غزل البنات، وأشتري منه غزل
بناتٍ أهديه إلى الفتاة الصغيرة التي تبيع المناديل، وأشتري منها واحداً أهديه إلى
الرجل الذي يسعل فوق الرصيف ويبيع المسابح، وأشتري منه واحدةً أهديها إلى شابٍ
يبيع الـ«منين» ويكاد ينفجر من حمل الهم، وأشتري منه واحدةً للطفل الذي يجر عربةَ
قمامة ويبيع خردواتٍ بسيطة، وأشتري منه أنتيكةً قديمةً على شكل عروسٍ صغيرة،
وأهديها إلى بائعة الورد، وأقطف منها وردةً أخرى أهديها إلى فتاةٍ تبكي لأنها تحمل
هم الأسبوع القادم، وأسألها «لو بكرى نهاية العالم؟» فتبتسم، وتجفف دموعها، وتقول:
كنتُ سأضحك، وأهدي تلك الوردة لك، في أقصر قصة حب أفلاطونيّ في التاريخ.

لو بكرة نهاية العالم؟ كنا سنفعل أشياء كثيرة، لم تكن
صعبة أو مستحيلة، لم تكن معجزة، ولا تستغرق مجهوداً، وإنما كلها أشياء أجلناها فقط
لأننا ضمنّا -من حيث لا ندري- أن غداً ليس نهاية العالم، وأن الأشياء الرقيقة
البسيطة يمكنها أن تنتظر، غافلين عن أن نهاية العالم تلك قد تكون خلال دقائق،
بالنسبة لنا، أو للآخرين الذين حرمناهم مشاركة شيءٍ كان بإمكانه جعل النهاية
مختلفة.

«لو بكرى نهاية العالم؟».. كنتُ سأجعلها
نهايةً سعيدة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى